أفرغ ذوو المفقودين والمخطوفين في الحرب اللبنانية بعضاً من وجعهم في جدارية من القماش تتشكل من مربّعات يحمل كل منها اسم مفقود حاكه أحد أفراد عائلته، وعلقوها على جدران بيت بيروت المعروف ب “البيت الاصفر”. وهناك في المتحف، الشاهد على الحرب، وتحول اليوم الى متحف لذاكرتها، غصّ المكان بالعائلات والمحبين والناشطين وبالأصدقاء، جاؤوا جميعهم/ن ليقولوا أن السلم لا يكون خارج حق ذوي المخطوفين والمفقودين في معرفة مصير أحبائهم.
وكان اختيار لجنة اهالي المخطوفين والمفقودين إحياء 13 نيسان، الذكرى ال47 للحرب اللبنانية، أمس (الأربعاء 13 نيسان)، في هذا البيت، إشارة إلى أن الحرب لم تنته طالما تهمش السلطة قضيتهم وتهمل تنفيذ القانون 105/2018 الخاص بالهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً، ومعه تأمين امكانيات عمل الهيئة والحرص على فعاليتها. يكرس القانون حقهم بالكشف عن مصير أبنائهم وذويهم وتقفي أثرهم وأماكن احتجازهم ودفن رفاة من قضوا من بينهم “لكننا ما زلنا مكانك راوح”، كما تقول رئيسة اللجنة وداد حلواني. وتؤكد: “لن نتوقف عن متابعة النضال من أجل فرض تطبيقه و لن نسمح لأي كان بالإلتفاف على القانون في محاولة مكشوفة لإبقائه حبرا على ورق”.
إبني ليس ضائعا
عائلات المفقودين، لاسيما الأمهات منهن اللواتي لم يعشن أعمارهن كاملة، وما زلن يشكلن امتدادا لحقبة سرقت منهن حياتهن بعد أن خُطف وفُقد فلذات أكبادهن، هؤلاء الأمهات، أو من تبقى منهن على قيد الحياة، ومعهن الأباء والزوجاء والشقيقات والأشقاء، يتحلقون حول وداد حلواني وكأنها ستفتح لهن الأبواب المسحورة ليعانقن الغياب منذ عشرات السنين.
“ليس أصعب من هكذا فراق، صورته لا تغيب عن وجهي ولا عن ذاكرتي، كل يوم أشعر بالمرارة في داخلي، في قلبي وفي فمي. كيف له أن يغادر الى الأبد؟، كيف لي أن لا اعرف إن كان حيا أو ميتا؟، حتى أنهم لم يتركوا لي قبرا أبكيه عليه”، تقول منتهى حيدر، أم المفقود، الجندي في الجيش اللبناني سمير الخرفان ل”المفكرة القانونية”. فُقد الخرفان في مجدليون في صيدا في العام 1983. وتشير حيدر إلى أن الحياة لا تقبل اليأس وطالما هي على قيد الحياة لن تتوقف عن البحث عنه، “وبدي ضل ليرجع وينورلي حياتي”. وتكمل: “إبني ليس ضائعا، أعرف خاطفه ويدعى ريمون وله القاب عدة: ريمون البيطار، ريمون الوحش، ريمون الزغلول… قصدته مرارا، ولكني توقفت عن ذلك عندما هددني. وقد سجلت شهادتي هذه لدى الشرطة ولكن بلا جدوى”. نهاد الجردي (الثمانينية) من قرية العزونية، ما زالت تحلم وتعتقد بعودة ابنها أيمن سليم، المُختَّطف على طريق بحمدون وهو في طريقه الى عمله في 28 حزيران من العام 1982، وتذكرنا: “بعد شهرين يكمل أيمن غيابه الأربعين عاما، “الناس يحييون ذكرى الأربعين لدى رحيل فقيدهم، وها انا سأحيي ذكرى الأربعين عاما لغياب ولدي، حبيبي”. وتدعونا الى مشاركتها في إحياء الذكرى: “بدي توقفوا حدي، بدي علق صوره على كل حيطان العزونية، حتى ما ينسوه بعد ما موت”.
وتبوح مريم (أم ماهر) وجعها ل”المفكرة”: “ماهر راح وأخذ الروح من روحي. الناس وحتى المقربين تعبوا من وجعي، لم يعد لي حياة خارج هذه المكان وهذه القضية. هون الناس اللي بحس فيهم وبحسوا فيي”. كذلك سوسن الهرباوي، إبنة أم محمد، التي لم تكن لتغيب عن المناسبة لولا رحيلها، ربما الى جوار شقيقي أحمد تقول سوسن ل”المفكرة”. “أنا هنا أنفذ وصية أمي وتعهدي لها أني لن أترك هذه القضية لآخر نفس”. ومثل سوسن ومريم ومنتهى ونهاد كثيرات لم يفقدن الامل في معرفة مصير أحبائهن المجهول، كذلك عائلات كثيرة لا تزال تنتظر الكشف عن مصير أكثر من 17 ألف مفقود في الحرب الأهلية اللبنانية، الاّ أن معرفة مصير هؤلاء واستعادتهم باتت في عهدة الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا، لكنهاما تزال محدودة الفعالية رغم اجتهاد أعضائها على مأسستها وتنظيم بيتها الداخلي، بسبب التقاعس الرسمي وعدم التعاطي معها وتجاهها (الهيئة) وفق ما ينص عليه قانون تشكيلها، كما تقول حلواني في كلمتها. أكدت حلواني تمسك الأهالي بهذه الهيئة “لأنها خشبة خلاص لنا جميعا. فخلاص أهالي المفقودين من المعاناة الطويلة التي سببّتها الحرب يشكل الممر الإلزامي للولوج إلى ورشة بناء السلم الحقيقي. لأن تحقيق السلم هو مطلب وحاجة للشعب اللبناني كله”.
قانون الهيئة الوطنية اعاد الى ذوي المفقودين الأمل، لكن استقالة أربعة من أعضائه فور تشكيلها من أصل عشرة، انعكس على عمل الهيئة وعرقل أعمالها، لكن الجديد، وقد تبلغته أمس الهيئة، هو صدور مرسوم بتعيين القاضي المتقاعد أنطوان ضاهر بدلا من القاضي معماري”، وهو ما أكده نائب رئيس الهيئة الدكتور زياد عاشور للمفكرة. . ويبقى استكمال تعيين بقية أعضاء الهيئة الثلاثة أعضاء آخرين، مكان الأعضاء المستقيلين من ممثلي نقابتي المحامين والأطباء”. ولما كانت استقلالية الهيئة هي الأساس في تحقيق أهدافها، أسف عاشور لأن موازنة العام 2022 رصدت مليار ليرة فقط للهيئة، وليس لها مقر ولا جهاز إداري. وقال: ” الهيئة لديها دور محوري اليوم في عملية بناء المستقبل، اذا أردنا التغيير بمسار الوطن، واستكمال ما لم يتم بعد إنهاء الحرب الأهلية، ببناء العقد الصحيح، الذي تكون فيه الدولة مصدر إطمئنان وثقة لكل المواطنين، لكن طالما هناك مواطن لا يعرف مصير مفقوده، لا نستطيع القول أن العقد الإجتماعي مكتمل، بغض النظر عن نضال استمر لعشرات السنين من قبل لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، والذي أثمر عن القانون 105/2018، فالخوف من إجهاض هذا النجاح بسبب عدم تقديم الدعم المادي والمعنوي والسياسي لهذه الهيئة”. واذ أكد أن الهيئة منفتحة للتعاون، تمنى عاشور أن تحمل المرحلة المقبلة وبعد الإنتخابات النيابية، تغييراً في موقف السلطة تجاه هذه القضية، وتعيدها الى سُلم أولوياتها، من خلال تقديم الدعم اللازم وفتح كل الأبواب أمامها”. وفي المقابل، لفت عاشور الى أنه وبرغم كل الصعوبات والغياب التام للإمكانيات الأساسية، فإن أعضاء الهيئة يعملون على خطة للمرحلة المقبلة، من ضمنها الإستمرار في عملية التأسيس والشروع في استلام المعلومات المتعلقة بالمفقودين وحفظها وتحليلها.
وبالعودة الى إحياء ذكرى المفقودين والمخطوفين تزامناً مع ذكرى الحرب، لا بد من الإشارة إلى أن قاعة بيت بيروت طافت بحشد كبير من العائلات والأهالي والناشطين وممثلي المؤسسات والجمعيات الدولية والمحلية وممثلي وسائل الإعلام ما اضطر حلواني الى الاعتذار من الاهالي لعدم وجود اماكن تتسع للجميع، فبقي قسم كبير منهم خارج قاعة الإحتفاء بالذكرى. والقيت كلمات لكل من رئيسة بعثة الصليب الاحمر سيمون كازابيانكا وعاشور وحلواني.
ومع نهاية الكلمات، اعلنت حلواني عن الجدارية، التي حملت 120 إسما من المفقودين واستحضرت جهد الأهالي في حياكتها: “أبدعتْها أياد وأنامل وقلوب محبة مشتاقة. جدارية مدموغة بتوقيع أهالي المفقودين. لقد أراد الأهالي الذين تسنت لهم المشاركة في هذا المشروع أن يبرهنوا أنهم مع حبّهم لمفقوديهم، فهم يحبّون الجمال ويساهمون في خَلْقِه”. وأضافت “لقد اختاروا كتابةَ أسماء أحبتهم حتى تبقى محفورة و”ما تنمحى” من ذاكرة الناس. كل الناس.. أرادوا التذكيرَ بأن أحباءهم ليسوا كتلة واحدة لها اسم واحد تكنّى به “المفقودون”، بل هم بشر من لحمٍ ودم.. ولكل مفقودٍ اسم، وشخصية، وقصة وحلم وعائلة تنتظره”… وللدلالة على مكانة المفقودين، “طرّزوا أسماءهم بخيطانٍ من ذهب نظراً لرمزية هذا المعدن الثمين”. وللتأكيد على حقِّهم بمعرفةِ مصيرِ مفقوديهم، “ملأ الأهالي “اسم المفقود بالخيط الذهبي، أما اسم العائلة فقد اكتفوا بتطريز أطرافه للدلالة على فراغٍ يُفترَض ملؤهُ كي يكتمل”. والعمل، وفق حلواني، “لم يكن سهلاً، تطلّبَ كثيراً من الجهدِ والوقتِ وورشِ التدريب”. وتابعت: “كمان بحب خبركُن إنو وقت كنّا عم نشتغل حضر مفقود كل وحدة وواحد منّا على مربّع القماش مع كل شكّة إبرة وبرمة خيط..” كأنه لم يغب”.. وكأنّ الأهالي أرادوا بهذا العمل، “إضافة إلى إبقاء المفقودين في ذاكرة اللبنانيين.. أرادوا إعادة الحياة إلى الذين خرجوا ولم يعودوا..ولم يعودوا”.
من جهتها، أكدت رئيسة بعثة الصليب الاحمر الدولي سيمون كازابيانكا أن “إصدار القانون 105/2018 وتشكيل الهيئة الوطنية هما خطوتان تمهدان الطريق لعملية الكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسرا وأماكن تواجدهم، لكن الطريق ما زال طويلا أمامنا. وعلى الرغم من الوضع السياسي والاقتصادي الذي يشهده لبنان حاليا، ما زالت اللجنة الدولية تؤمن بأنه من الممكن أن تصبح الهيئة الوطنية كيانا يعمل بشكل فعال وناجح، ولكن يتطلب تحقيق هذا الهدف جهودا إضافية من قبل السلطات والجهات الفاعلة من المجتمع المدني والمنظمات الدولية من أجل تأمين بيئة اجتماعية وسياسية مؤاتية وضمان توفير الأدوات المالية والفنية اللازمة لعمل الهيئة الوطنية”.
وأوضحت أن “اختفاء الأفراد لا يقتصر على غيابهم جسديا فحسب بل تدرك اللجنة الدولية من خلال تعاملها مع العائلات، بأنه ينجم عن هذا الفقدان أيضا نتائج طويلة الأمد تتحملها العائلات، لا سيما تحديات عدة على المستويات النفسية والمالية والقانونية والإدارية. ومنذ العام 2012، تدعم اللجنة الدولية أهالي المفقودين والمخفيين قسرا من خلال جمع بيانات ما قبل الاختفاء والعينات البيولوجية المرجعية من العائلات المتضررة من أجل السماح للبنان بالكشف أخيرا عن مصير الأشخاص المفقودين. وما زالت اللجنة الدولية ترافق الهيئة الوطنية وتقدم لها الدعم التقني من أجل مساعدتها على الاضطلاع بتفويضها الإنساني وتطوير قدرتها على استلام عملية البحث وتحديد الهوية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.