في مستشفى سيّدة المعونات في جبيل، وتحديدًا بالقرب من الباب المؤدي إلى قسم العمليات الجراحية، يجلس شاب بشعر طويل يشبك أصابع يديه إلى بعضهما ويسند بهما رأسه. هو حسن قرصيفي، ابن الـ 38 عامًا، الناجي الوحيد من عائلة أبادتها إسرائيل أمس الأحد 10 تشرين الثاني 2024، من الأم إلى الأبناء والبنات مع الأصهر والكنائن، فيما نجا من الأحفاد ثلاثة فقط، عباس وحسين العشرينيّين، والطفل علي ابن العشر سنوات. لأجل هؤلاء الثلاثة جلس حسن هناك قلقًا، خائفًا أن يفقد من تبقى له من “ريحة الحبايب والسند”، كما يقول لي، وكأنّه يحدّث نفسه بعينين شاردتين، أعرف من نظراتهما أنّه لم يستوعب هول الفجيعة بعد. ترك حسن كل شيء وجلس يحرس الأرواح الثلاث: “أمي وجميع أخوتي وأخواتي وأولادهن، يعني 27 شهيدًا راحوا، ما بقى شي يفيد، ما فيي أترك هودي بركي الله يعيّشهم ويخليلي ياهم”. وعائلتك الصغيرة حسن؟ ماذا حلّ بها؟ أسأله، فيجيبني: “منيح ما تزوجت وجبت اولاد كانت إسرائيل قتلتهم مع أخوتي وولادهم”.
في صبيحة يوم أمس الأحد، حيث يستغل الموظفون والعمال عطلة نهاية الأسبوع لأخذ قسط من النوم فلا يستعجلون النهوض، أغار الطيران الحربي الإسرائيلي عند العاشرة صباحًا، ومن دون أي إنذار، على منزل أبو هيثم حيدر في بلدة علمات – الصوانة في وسط قضاء جبيل، مدمّرًا منزلًا بأكمله على رؤوس ثلاثين نازحًا ونازحة من عائلة واحدة من بلدة حوش الرافقة في قضاء بعلبك.
العدوان الذي أيقظ معظم أهالي المنطقة أدّى إلى استشهاد 27 فردًا، بينهم عنصر في قوى الأمن الداخلي وآخر في الجيش اللبناني.
والشهداء هم الأم زينب حسين قرصيفي، وابناها يوسف وعائلته (7 أفراد) وحسين وعائلته (6 أفراد)، وبناتها رباب وعائلتها (7 أفراد) وريما وعائلتها (4 أفراد) وزهراء وزوجها (شهيدان). ولم يخرج من تحت الأنقاض حيًّا سوى ثلاثة من الأحفاد كانوا أمام المنزل وليس في داخله هم عباس يوسف قرصيفي، وحسين علي نجيب زريق (ابن ريما) والطفل عليّ الهادي محمد زريق (10 سنوات ووالده شهيد). وأصيب هؤلاء بجراح خطيرة وما زالوا في العناية المركّزة.
ضمّت قافلة شهداء مجزرة علمات 18 امرأة، 10 منهنّ بالغات هنّ الأم زينب وبناتها وكنائنها، و12 حفيدة من بينهنّ خرّيجة جامعية في الـ 22 من عمرها، وطالبة جامعية في الـ 19 من عمرها، وشهيدتان تتمّمان الـ 18 عامًا هذه السنة. أما الشهيدات الثمانية الأخريات فجميعهنّ طفلات بين 4 سنوات (هي مانيسا حسين قرصيفي) و16 عامًا، إضافة إلى 3 شهداء أطفال. أي أنّ مجموع الشهداء والشهيدات الأطفال بلغ 11. واقتصر الشهداء الرجال على 6 بينهم 4 أباء للعائلات، والحفيد علي يوسف قرصيفي وهو عسكري في الجيش اللبناني.
قبل وقوع العدوان على عائلة قرصيفي بنحو نصف ساعة، طلبت مروة نون، زوجة الشهيد محمد، شقيق حسن، من حسن، سلفها، إيصالها إلى منزل عائلتها التي تسكن في قرية بزيون القريبة من علمات. لم يرغب الطفل علي الهادي محمد قرصيفي في مرافقة والدته مروة وشقيقاته فاطمة وراما وعمّه حسن، وفضّل البقاء للعب مع أولاد عمومته وعماته. ما إنْ وصل حسن وعائلة شقيقه إلى ضيعة عائلة مروى، حتى وصل خبر العدوان على عائلة نازحة في علمات: “رجف قلبي وصار يدقّ، دوّرت السيارة ورجعت ع علمات، ما عرفت كيف وصلت، ولقيت المجزرة قدامي”، يقول حسن لـ “المفكرة”. تجمّع شبّان الحي حول حسن وحاولوا منعه من الاقتراب من الركام، خصوصًا مع وجود تشوّهات في كثير من جثامين الشهداء ومعها أشلاء تناثرت على مساحة بقطر 500 متر. وعندما نقلوا الجرحى الثلاثة، أبناء أخوته، لحق بهم إلى المستشفى: “ما بقي لي غيرهم، بدّي إهتمّ فيهم”.
جلجلة نزوح انتهت بمجزرة
في 23 أيلول 2024، يوم تهديد إسرائيل سكان كامل البقاع بالإخلاء، من أقصى حدوده مع سوريا في الهرمل، إلى البقاع الغربي على كتف الجنوب في سحمر ويحمر ومشغرة، وبينهما البقاع الأوسط، نزحت بعض العائلات غربًا نحو منطقة دير الأحمر، وجنوبًا نحو زحلة والفرزل والمعلقة، وشرقًا نحو عنجر ومجدل عنجر، وغربًا إلى جبّ جنين والقرعون وصغبين ومحيطها، فيما توجّهت قلّة نحو عرسال التي امتلأت مع الفاكهة والجديدة ورأس بعلبك والقاع ومشاريع القاع بالنازحين من قرى البقاع الشمالي وتحديدًا من الهرمل والعين واللبوة والنبي عثمان والبزالية وغيرها.
ومنذ الإنذار الإسرائيلي في 23 أيلول ولغاية السادسة من مساء 10 تشرين الثاني 2024، نفّذ الطيران الحربي الإسرائيلي 1155 غارة أدّت إلى استشهاد 791 من أبنائه، معظمهم من النساء والأطفال وأصيب 1351 بجراح بعضها بالغ، وهو ما أدى إلى نزوح قسريّ كبير في قرى وبلدات القضاء، ومنها حوش الرافقة، بلدة عائلة قرصيفي.
في 23 أيلول، قرّرت عائلة قرصيفي عدم النزوح، قالت لهم والدتهم زينب حسين قرصيفي “نحن 34 فردًا وين بدنا نساع، خلّينا ببيوتنا يا أمّي”. كلمة زينب الأمّ التي تعبت كثيرًا في رعاية أسرتها وتربية أبنائها وبناتها بعد وفاة زوجها مبكرًا، مسموعة بين الأبناء والبنات والأحفاد أيضًا، فبقي الجميع في بيوتهم على أمل النجاة بانتظار التطوّرات. هي العائلة نفسها التي يتحدث عنها أهالي حوش الرافقة لـ “المفكرة” كعائلة كادحة يتعب أبناؤها وراء لقمة العيش، مسالمة لم تكن ترغب في ترك بلدتها.
عندما بدأت إسرائيل ترتكب المجازر في قضاء بعلبك، وعن طريق الأقارب، تبرّع هيثم حيدر وأخوته بمنزل العائلة في علمات لإيواء النازحين. وفي 24 أيلول، أي بعد يوم واحد من إنذار الجيش الإسرائيلي، سارت عائلة قرصيفي بفروعها الستّة مع الأم زينب وعائلات أبنائها الثلاثة (يوسف وحسين والشهيد محمد) وعائلات البنات الثلاث (رباب وريما وزهراء) من بلدتهم حوش الرافقة في البقاع الأوسط، قضاء بعلبك، وقطعوا عشرات الكيلومترات عبر حدث بعلبك إلى أعالي جرد جبيل وصولًا إلى علمات (وسط القضاء).
يقول هيثم حيدر، صاحب المنزل المستهدف، لـ “المفكرة” :”نحن متل أهل بلدتنا علمات، قرّرنا كأخوة أن نضع بيت العائلة في خدمة أهلنا ممن اضطرّوا لترك بيوتهم”. يروي حيدر لـ “المفكرة” أنّ “الغالبية العظمى من النازحين في المنزل كانت من النساء والأطفال، حتى أنّ بعض الجيران كان يشكي من ضجيج الأطفال وأصواتهم، وكنا نقلهم جماعة تاركين بيوتهم وفي بيوت ناس عم تتدمر بدنا نحمل مع بعضنا لتنتهي هالظروف الصعبة ع الجميع”.
وعلمات تزدحم بضيوفها وتحتضن مجّانًا، منذ 23 أيلول ولغاية الأمس، أكثر من 10 آلاف نازح من الجنوب والبقاع، إضافة إلى نحو 3 آلاف نازح من أبنائها من سكان الضاحية الجنوبية لبيروت، وفق مختار البلدة عليّ نمر عوّاد الذي التقيناه في منزله في علمات جريح القدم خلال مساعدته في رفع الأنقاض وانتشال الشهداء والجرحى. ولا يقلّ عدد العائلات التي تسكن منازلها عن 3 إلى 4 في المنزل الواحد.
وفي علمات، حيث يكثر النازحون من أبناء البلدة سكان الضاحية الجنوبية للعاصمة، يتفهّم الجميع ظروف “الأهل” كما يسمون من لجأوا إليهم طلبًا للأمان “هن نازحين متل ما نص الضيعة نزحت من بيروت كمان، وإذا هن بخطر نحن كمان بخطر”.
يقول المختار عوّاد إنّ “النازحين الذين يقدّرون عاليًا وقفة علمات وأهلها إلى جانبهم – بينما نحن نقوم بواجبنا دون أي منّة – كانوا، سواء جاؤوا من الجنوب أو البقاع يقولون لنا دائمًا: بكرا بس نرجع ع ضيعنا بدكم تروحوا عطول تزورونا”، ومن بين هؤلاء عائلة قرصيفي بجميع أبنائها، وأصهرتها الشهداء علي عبد الحسين وعلي نجيب زريق وأحمد أمهز.
رسومات وكتب طفلة شهيدة مع رفاقها
من حول المنزل المهدّم، وإضافة إلى عناصر الدفاع المدني اللبناني والصليب الأحمر اللبناني والهيئة الصحية الإسلامية، كان العديد من أهالي علمات ينتشرون على مساحة بقطر 500 متر من مكان الجريمة حيث دفع عصف الانفجار ببعض جثامين الشهداء والأشلاء. هناك لم يبق شيء من منزل آل حيدر، المرمّم حديثًا، سوى سقالة الحديد كانت متوّجة بالقرميد، فيما تغيّر لون هياكل البيوت القريبة من مكان الاستهداف حيث لم يطح الانفجار فقط بزجاجها بل أيضًا بأسيجة الدور وجدرانها وغطّاها بغبار رمادي ثقيل، وأتلف أثاثها وتسبّب بجراح طفيفة بين أهلها. كما انتشرت رائحة الأسلحة المتفجرة، فلا ينجو من تأثيرها سوى من أخذوا احتياطاتهم ووضعوا الكمامات وأغلبهم من المنقذين والمسعفين. أما الأضرار فقد لحقت، وبدرجات مختلفة، بالسيارات وعلى قطر 200 متر.
أما فوق الركام وبعد سحب جثامين وأشلاء الشهداء، فتبعثرت رسوم الأطفال الملوّنة، بعضها ممهورًا باسم من أنجز العمل (حسين علي عبد الحسين مثلًا)، فيما تناثرت صفحات الكتب التي اشتراها الأهل لأبنائهم الذين كان من المفترض أن يلتحقوا اليوم الإثنين 11 تشرين الثاني 2024 بالدراسة عن بُعد. صفحات الكتب وخصوصًا دفاتر التمارين بقيت فارغة، كما سنوات العمر الآتي التي لن تجد من يكبر عبرها من بينهم.
يأتي هذا الهجوم ضمن سلسلة من الهجمات التي استهدفت مبانٍ سكنية تأوي نازحين في مناطق تعتبر آمنة وغير مشمولة بأوامر الإخلاء الإسرائيلية، ومنها تسع هجمات في المعيصرة – قضاء جبيل، وبعدران والوردانية وبرجا – قضاء الشوف، وعين الدلب – قضاء صيدا، والبسطة والنويري – بيروت، وأيطو – قضاء زغرتا.
وأدّت هذه الهجمات إلى سقوط أكثر من 420 شخصًا بين شهيد وجريح. وقد اعتبرت “المفكّرة” أنّ هذه الهجمات تشكّل جرائم حرب كونه لم يُرصد أي هدف عسكري مشروع قد يكون استُهدف فيها، مما يشكّل استهدافًا غير مشروعًا للمدنيين والمساكن.
واعتبرت أنّها تندرج في إطار السياسة الإسرائيلية لإنزال العقاب الجماعي في حق المدنيين والسعي إلى عزل فئة من اللبنانيين (النازحون الشيعة) عن الفئات الأخرى، من خلال نشر الرعب ضمن المجتمعات المضيفة من النازحين وزعزعة التضامن الاجتماعي معهم. وفي الواقع، ترمي هذه الأعمال إلى زيادة الضغوط على البيئة الاجتماعية لحزب الله.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.