لن أكذب وأقول أنّي لبنانيّة مئة في المئة، ولذلك أستحقّ الجنسيّة. فأنا لبنانيّة – مصريّة، آتي الناحيتين من الهويّة بما يتخطّى القوقعة، تلك الخاصة بالهويّة المصريّة وتلك الخاصة باللبنانيّة. ففي الهويّات المتّصلة منفسٌ للعصبيّات والعنصريّات. كما أنّي لا أجد في الكذب مبرّراً لإقناع الأخرين بأحقيّتي في إمتلاك الجنسيّة اللبنانيّة. لستُ أكثر لبنانيّةً من أيّ حاملةٍ للجنسيّة، أيّ شخصٍ عاش يوميّات هذا البلد، إنفعل وربما فعل في سياقها، كفرت بها وربما راقت له، بطريقةٍ أو بأخرى. وإذ أمتلك لمصريّتي مدخلاً في إنتماءٍ بُني بطريقته الخاصّة، فأنا من مواليد بيروت الحرب الأهليّة، مستهلّها، آخر 1977، لمّا ظنّوا أن الحرب مدّتها سنتان، ولكن القنابل ما انفكت تقع.
كانت الطريق من المصيطبة إلى “مستشفى الدكتور جورج معربس” في بدارو شائكةً، خلال تشرين الثاني من العام 1977. لكنه المستشفى الوحيد الذي ارتاحت أمّي لولادتي فيه. تقول أنه بيتٌ قديمٌ شاهقٌ أبيض، مسيّجٌ بحديقة، أحبّته وسكنت إليه. عرفتُ أن الدكتور جورج زعل كثيراً لأنه أنجب فتاةً ولم يأتِ السيّدة الشابّة، التي أحبّها بدوره، بصبيٍّ ذكر. أما ذكرياتي الشخصيّة فتبدأ من ملامح القصف خلال الإجتياح الإسرائيليّ لبيروت، مختبئةً تحت جسم خالتي في الطابق الأرضيّ، في غرفةٍ من تلك الغرف التي يعتقد أهل البيت إنها أكثر أماناً من سواها، فيسكنون إليها خلال الحروب. فاقدةً للأمان بين فاقدي/ات القدرة حتى على بلوغ الرشد، كلهم/ن في حال إنهيار، اختبأنا، وأنا أردّد قبل أن أبلغ الخامسة من عمري، أنّي لا أريد أن أموت.
هذا البيت، بيتي الأول، تلقّى “قزاناً” في غارةٍ، انكسر، فنمنا في مكتب خالي لفترة، قبل أن نجد بيتاً أخر لنا في المصيطبة، بقينا فيه حتى يومنا هذا.
بعد الإجتياح، تكرّ سبحة الذكريات، تشكّل سلاسل الوعي. حروبٌ كثيرة، بوظة في الهدنة، قلّةٌ وجهدٌ وأفراحٌ، صداقاتٌ وحياةٌ أحيكها على وقع مسقط رأسي، بيروت. كلّ سنة، نمضي ثلاثة أشهرٍ في القاهرة مع أبي. قصّةٌ أخرى، ولو أنها صنعت مني اللبنانيّة التي أنا هي. أما بيروت فشهدت المدرسة، الجامعة، التظاهرات والقراءة والإنفعال والتحزّب، شهدت العمل والكثير منه والمبالغة فيه والإنسحاب قليلاً، وشهدت المقالات، وصنعت محور الروايات، هي وجهها وخلفيتها ومساحات الإشتباك والإنتماء فيها. بيروت هي مدينتي.
على خطٍّ موازٍ لهذا كله، ميّزتني عن أقراني علاقةٌ أدارتها أمّي بضنى واستحالةٍ وقلقٍ وصياحٍ متكرّر. ربطتنا أنا وأختي بالأمن العام اللبنانيّ. أحبت مصريّاً وتزوّجته، فباتت جنسيّتها اللبنانيّة تحت الرقابة وبات وجودي قيد المفاوضة اليوميّة. تقلّبات الحرب الأهليّة تقفل أبواب المدارس مراراً، لكن الأمن العام يحتاج إفادةً مدرسيّة ليسمح ببقائنا أنا وأختي في البلد. حالة صياحٍ وانهيارٍ صلبٍ غاضبٍ، في مبنى مرتجل للأمن العام بسبب “الأحداث”. أذكر مشاهد كثيرة من صفوف إنتظارٍ كثيرة في غرفٍ رسميّةٍ كثيرة تنقّل بينها الأمن العام في بيروت “الغربيّة”، وتنقّلنا مع أمّي عبرها. أحياناً، كانت هذه السيّدة تصطدم بإستحالاتٍ. وأحياناً، كانت تبيع مقتنياتٍ لتأمين الكلفة في حصارات الحرب الكثيرة. لكننا، للأمانة، ما عشنا يوماً في البلد بلا أوراقٍ شرعيّة كاملة، جاهدت المرأة التي أنجبتني لتأمينها. اليوم، كلّما أدخل الأمن العام بظروفٍ أكثر رفاهية بكثير من تلك التي عاشتها أمّي خلال الحرب، أجدني أدخلها وأنا على حافة الإنهيار. لمّا أقف أمام مراقبة الأمن العام في المطار، أجدني أقف وأنا على وشك الإنفجار. لديّ طاقة غضبٍ، لا تسكن. أوراقي دائماً سليمة، أوراقي لا قلق فيها، لكن القلق بات فيّ، والغضب يأتي من أجل أمّي.
يوم أُزيل إسمُها تماماً عن أوراقي الرسميّة كوني انتقلت من “وصايتها” إلى “وصاية” ربّ عملٍ صار إسمه هو حاضراً على بطاقة إقامتي، أصيبَت بحزنٍ ومرارةٍ شديدتين. كأنها إنكسرت، كبيتنا. أمّي، قالت لي: ولا كأني أنجبتك، ولا كأني لبنانيّة. كأني مجرّد صفرٍ إلى الشمال.
يوم صدر مرسوم التجنيس في العام 1995، كانت أمّي قد قدّمت بإسمَينا ملفّين كاملين موافقين للشروط. ملفّ أختي أتاها بالجنسيّة مستحقّةً، أما أنا فلم أحصل عليها. “سقط سهواً”. سقط ملفّي سهواً، ولا إمكانيّة للتصحيح. فقد ثارت ثائرة نوّاب أذكر منهم اسم نعمة الله أبي نصر، ضد المرسوم، هلعاً على الأعداد، المسيحيّين والمسلمين في البلد، وتوالت الإهانات بحقّ المجنّسين. قيل عنهم/ن بالفمّ الملآن وفي الإعلام وبالوجه الصريح، بلا تردّد، أنهم/ن جهلة، متخلّفين/ات، وسخين/ات، عالات، “معاقين”/ات (وكأن الإعاقة تهمة، وكأن الجنسيّة اللبنانيّة هي إنتماءٌ نازيّ). تجمّد المرسوم في أرضه، لم يحقّق عدالته الجزئيّة كاملةً، لم يتم تصحيح أخطائه. العدالة، لم يكن لها موقع في هذا السياق. واليوم، يحتفل النائب بانتصاره في تجنيس المغتربين وعائلاتهم، لا عائلات المغتربات، والجميع يعرفون أن الإحتفال يصيب الأرقام ذاتها، الأعداد، لا العدالة. الإنتخابات، لا الدستور.
مرّةً، خلال عملي في جريدة “السفير” ضمن متابعة قانون الجنسيّة، صرّح لي هذا النائب وسواه أن المرأة اللبنانيّة ليست موثوقةً كفايةً لتمتلك حقّها بمنح جنسيتها. سيضحك عليها الرجال الفلسطينيّون، ليتجنّسوا عبرها. سيبحثون عن إمرأةٍ بشعة أو عانس، نفسيتها ضعيفة، يتزوجونها، ليحصلوا على الجنسيّة. مقرفٌ هذا الكلام، من ألفه إلى يائه، مقرف. معيبٌ بحقّ كلّ إمرأة في هذا البلد. كأن القاعة البرلمانيّة لا تشترط على الداخلين/ات إليها إحترام الشعب. سيضحك عليها الفلسطينيّ… وتكرّ سبحة جنسيّاتٍ تُهان، شعوبٍ تُهان، بلغةٍ لا تتمايز عن أيّ نمطٍ عنصريّ بدائيّ، تستقي ما تحتاجه من سلّة الأعراف، التقاليد، المفاهيم المحافِظة، … لتبني سلطةً، لترسّخ سطوةً، لتُنجح صفقةً. كأن النائب في البرلمان هو رجلٌ بملابس النوم في بيته، يحتكم لما رواه له جدّه، علماً أن جدّه قد يكون أحياناً أشدّ عدالةً منه. فالعدالة في لبنان تمتلك دستوراً كُتب منذ عصر الجدّ هذا، وهو لا يحكي عن “الضحك على المرأة”. الدستور العتيق يحكي بتساوي المرأة اللبنانيّة مع الرجل في إمتلاك حقوق الجنسيّة. النواب يتراجعون عن الدستور المؤسّس (الذي يطمح المرء إلى تحديثه عبر العقود)، يمارسون رقابةً عليه، يحجرون عليه، ليملوا فوقه شرائع منازلهم التي تبرّر القتلأحياناً، يثبّتوا أولويّة الصناديق والمصارف على العدالة. “يضحك عليها”. بفرضه الوصاية على المرأة اللبنانيّة، يحجر البرلمان على الدستور اللبنانيّ.
خلال الشهر الأخير، وبينما كانت تُطهى حفلة تناتش الأعداد في “نقاش” قانون إستعادة الجنسيّة، دخلتُ إلى البلد للمرّة الأولى بتأشيرة دخول. فقد اقتضت الظروف الأكاديميّة أن أقضي سنةً في بريطانيا، إنتهت معها إقامتي وشارف جوازي المصريّ على الإنتهاء. غابةُ أوراقٍ رسميّة كانت في إنتظار عودتي، لكن، يسبق تفاصيلها جميعاً إستخراج إذنٍ بالدخول إلى بلدي. يومها، في المطار، مع كركبة الأوراق التي توجّب عليّ حملها، لم أكن غاضبةً من الأمن العام، لم أكن مقهورةً جداً كعادتي، ولكني وجدت فيّ ثباتاً لم أعهده، وجهوزيّةً للمعركة. كنت كمن افتقدت العدالة، وعاشت الفقدان فجّاً خانقاً، ثم بلغت من إمتلاك الحقّ مرتبة الثقة. الأداء السياسيّ الذي يُفسد العدالة في قانون الجنسيّة وفي علاقة الدولة بالنساء، هو ما يصيبني بضرره، مثلما يصيبني وسواي من أهل البلد في مواضع أخرى من حيواتنا فيه. شهادة ميلادي، بطاقة هويّة أمّي الأصليّة، باسبوري القديم، بطاقة إقامتي القديمة، إجازة عملي، ورقة من الجريدة، ورقة من السفارة، … سلسلةٌ من الأوراق تدلّ على كامل حراكي ومفاصل سيرتي. مراقبو/ات الأمن العام، كانوا وكنّ متفّهمات، والإجراءات احتاجت وقتاً. لم أغضب منهم/ن، إذ قيل لي مراراً أن القانون قاصرٌ وأنّي لبنانيّة بديهةً وأن أمّي ذات حقّ وأن إدارة البلد السياسيّة فاسدةٌ. لم أغضب منهم/ن، فقد وجدت فيهم/ن هذه المرة إعترافاً هدّأ ثورتي، وأعاد توجيهها إلى أسباب الفساد.
بطاقات إقامة أفراد عائلة المرأة اللبنانيّة تحمل صفة “مجاملة”. الدولةُ تجاملنا. ففي العام 2010، وإثر نضالٍ قادته جمعيّات مدنيّة مشكّلة بمعظمها من شاباتٍ متزوّجاتٍ من غير لبنانيّين وشاباتٍ من ذريّة اللبنانيّات، ما عادت الإقامةُ سنويّةً وقيمتها حوالي 250 دولاراً. صارت تُمنح مجّاناً (مع إجازة عملٍ) لمدّة ثلاث سنوات، بصفة “مجاملة”. هذه الظروف أقل اختناقاً من سابقتها، لكن المفاوضة على الوجود ما زالت هي ذاتها. العائق أمام تصحيح أخطاء 1995 لا يزال عائقاً. مع كلّ مراجعة قانونيّة، يبلغوننا إن الملف مقفلٌ ومنسيٌّ. رفض تطبيق الدستور في تحقيق مواطَنة المرأة اللبنانيّة لا يزال سارياً، وتظهر الأنياب كلما ظهر، يُخرَسُ صوتُه بلغةٍ غير حقوقيّة. بسخيف الوقت، تم إقرار قانون الإستعادة، ولا يلتفت الطعن فيه إلى إحقاق العدالة الدستوريّة وإنما إلى تسابق الأرقام إيّاها. يُمسكون بملفات لا يخلون سبيلها، يطبّقون فيها شرع البيت والمنفعة الذاتيّة أو، إلى أبعد حدّ، الفئويّة. وتمرّ الأيام بالسنين، لا هم يتغيّرون ولا الدستور يُطبّق ولا العدالة تتحقّق.
أعرف أنّي لبنانيّة. للكثيرين سواي أوضاعٌ أشدّ مأساويّة، للكثيرات سواي أوضاعٌ أقل وطأةً. ولكن، يثق كلّ فردٍ في عائلة المرأة اللبنانيّة بلبنانيّته/ا. وهي معرفةٌ لم تتشكّل بضمانة الدستور وحدها، وإنما من الحياة نفسها أيضاً، من كون الواحد/ة منّا قطبةً في نسيج البلد. بيت العائلة، رائحته، مركزيّته في خريطة الحياة، المقهى الذي رحل والمقاهي التي نشأت، المدرسة وشهاداتها الرسميّة وقلق الإنتظار، ذكرياتٌ من سقوط صديقة الصفوف الأولى بشظيّة ومن إضاءة شجرة الميلاد سنويّاً مع المسرحيّة، الجامعة والأصدقاء ودنيا مستمرة معهم/ن، الحبّ وقوّته والبدايات والتبدّلات، الكهرباء، الخناقات اليوميّة حول المصير الإقليميّ، الذعر عند الإغتيال، الهبوط مع كلّ انفجار، إتقان اللجوء إلى المربع الآمن، إلى غرفة الإختباء، والعجز عن التخطيط للمدى البعيد.. هذا سردٌ لا قعر له ولا تعداد يلخّصه، لا يحدّه إلا الرحيل عن الدنيا وليس عن البلد. فحتى لمّا يحلّ السفر، تبقى مركزيّة بيروت، هي مرجع السرد ومقصد كلمة “العودة”، “الرجوع”.
إنه سردٌ لا تحدّه ورقةٌ، وهو إحساسٌ لا تقيسه أرقام النوّاب. فلتتحقّق فيه العدالة. هي جلّ المطلب.
نشر هذا المقال في العدد | 34 |كانون الأول/ديسمبر/ 2016 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
المجلس الدستوري أمام استحقاقه الأكبر:التمييز ضدّ النساء غير دستوريّ