في منزلها الذي يقع على بعد عشرات الأمتار من مكان وقوع الغارة في برجا، تجلس باسمة بسمة، شقيقة الشهداء بسام وعلي ووفاء بسمة، تراقب باب المنزل علّ أحدًا من أخوتها الثلاث أو من أبنائهم يطرق بابها ويدخل بين لحظة وأخرى. تردّ على هاتفها والدّموع على خدّيها، وحده صوت البكاء مسموع. “نحزن عندما نخسر فردًا من عائلتنا، نحزن عندما نخسر اثنين، فما الحال عندما نخسر 16 فردًا؟” تقول باسمة. عائلة بسمة التي لم تفترق في السّلم ولا في رحلة النزوح من بلدتها عين بعال في صور إلى برجا، فرّقها الموت، كما فرّق طفلين (استشهدا) من آل فريج عن والديهما، أما الشاب زياد منصور فلم يحرق قلبَ أمّه برحيله، ليرحلا معًا في الغارة نفسها.
في 5 تشرين الثاني 2024، أغار العدوّ الإسرائيليّ على مبنى سكنيّ في بلدة برجا في قضاء الشوف، مما أدّى إلى سقوط 20 شهيدًا وشهيدة بحسب وزارة الصحة و17 جريحًا وجريحة (15 منهم نقلوا إلى مستشفى سبلين، واثنان إلى المستشفى العسكري)، فيما أعلن الدفاع المدني انتشال 30 جثمانًا من بينهم أشلاء. وفي مهمة البحث عن أسماء الضحايا التي تخلّلها العديد من العوائق منها عدم إجراء تحليل الحمض النووي لبعض الأشلاء، تمكّنت “المفكرة” من معرفة هوية 24 من الشهداء بينهم 9 أطفال، وبينهم عائلتان أبيدتا بالكامل. ويعتبر هذا العدد الكامل للشهداء بحسب أهالي منطقة برجا، وهم نازحون من قرى عين بعال وطيردبا وبرج رحال ودير عامص في الجنوب، وطفلان من بيروت من سكان المبنى الأصليين.
والشّهداء هم: أمين حسين بسمة، وزوجته وفاء حسن بسمة وأولادهما علي، حسين، عباس، وحسن. بسام حسن بسمة وزوجته حنان فقيه (طيردبا) وأولادهما فاطمة وآية، وشقيقة حنان، مريم فقيه، وزوجة ابنها دنيا خضرا (برج رجال). علي حسن بسمة وزوجته جميلة فايز حجيج (دير عامص)، وأولادهما حسن، حسين، زينة، ولين، إضافة إلى شقيق جميلة وطفله. والشاب زياد منصور ووالدته (من إحدى قرى صور). أما من بيروت فقد استشهد الطفلان ليان فريج (5 سنوات) ونوح فريج (سنتان)، ونجت عائلتَا دمج وزمرّد وهما أيضًا من سكان المبنى الأصليين. وكان قضاء الشوف حتى تاريخ وقوع الغارة، يستقبلأكثر من 155.400 نازح.
16 شهيدًا وشهيدة من آل بسمة: معًا حتى الموت
“لازم نفترق، ما لازم نضلّ مع بعض”، هي جملة ردّدها أفراد آل بسمة مرّات عدّة بحسب شقيقتهم باسمة. رأوا ما حصل سابقًا في الهجمات على النازحين في بلدات أخرى، وخافوا أن يكون دورهم هو التالي، ففي حسابات العدوّ لا أحد يدري متى يصبح هو الهدف، رغم أنّه لم يطلب شيئًا في نزوحه سوى الأمان. حاول بعض من العائلات الثلاث أن يجدوا لهم مأوى آخر، فالافتراق يقلّل من وطأة الخسارة في حال وقوع غارة، لكنّ عملية البحث عن منازل أخرى كانت صعبة أو شبه مستحيلة التحقّق في ظل الأوضاع الحالية. فما بين ارتفاع كلفة الإيجار وشيطنة النازحين لا حلّ سوى الرضا بما هو متاح. التزموا بيوت النزوح الخاصة بهم، وبدأوا يفكّرون بالهروب من الحرب إلى العراق. كان بعضهم في طور تجهيز جوازات السّفر، وبدل أن يرحلوا مؤقتًا بحثًا عن الأمان، رحلوا إلى الأبد.
عائلة بسمة نموذج عن العائلات المتماسكة بالمحبّة. كبر الأخوة علي وبسام ووفاء معًا مع باقي أخوتهم وعددهم سبعة، شيدّوا بيوتًا مجاورة لبعضها في عين بعال، واعتادوا على الجَمعة في بيت العائلة، بقوا معًا في السّلم، ونزحوا معًا في الحرب وسكنوا في المبنى نفسه، جمعهم حب العائلة في الحياة وفي الموت.
“لقد نزح أخوتي من عين بعال إلى حارة صور في اليوم الأول لاشتداد العدوان الإسرائيلي على لبنان، ومنها إلى برجا، ولحقتُ بهم لأسكن في مبنى مجاور، كانوا يحاولون تجهيز باسبوراتهم في الأيام الأخيرة قبل استشهادهم، رغبة منهم في السّفر إلى العراق، ولكن لم تتح لهم الفرصة للهروب من وحشية العدوّ”، تقول باسمة في اتصال مع “المفكرة”. اجتمعت باسمة مع أخوتها وأبنائهم للمرة الأخيرة عصر يوم الثلاثاء، قبل وقوع الغارة بساعات، مشوا باتجاه البحر ليرفّهوا عن أنفسهم قليلًا، فليس أجمل من البحر متنفّسًا لأبناء قرى صور، ثمّ عادت باسمة إلى منزلها، وهم عادوا إلى منزلهم ليحضّروا العشاء، لم يعلموا أنّ هذا العشاء سيكون الأخير وأنّ الرحلة برفقة باسمة كانت بمثابة الوداع.
“عند قرابة الساعة 8:20 من مساء ذلك اليوم، سمعت صوت هدير قويّ، ومن على شرفتي رأيت الصاروخ بأمّ العين يهدم المبنى على رؤوس أحبابي”، تقول باسمة، وتعاتب نفسها مع حسرة “يا ريت كان فيي إمنع اللّي صار. قلت لزوجي خدني، بلكي بلاقي حدا عايش، بس ما لقيت غير جثث وأشلاء”. مرّت على باسمة وعائلتها ليلة هي الأصعب والأقسى “بتخسري شخص بتزعلي، بتخسري شخصين بتزعلي، بس 16 واحد! أديه بدّنا نحمل؟”. لم تتوقّع باسمة أن ترى مجزرة بأمّ العين، ولا أن ترى أخوتها وأبناءهم جثثًا تُنتشل من تحت الرّكام، فتسأل “ليش صار هيك؟ ليش هني؟ يا ريت نعرف”، لا تسمع جوابًا لأسئلتها، وحده صدى صوتها والبكاء مسموع عبر الهاتف.
لم يبقَ لباسمة سوى الصور وذكريات مع العائلة في “بيت الضّيعة” وأخرى جمعتها بأخوتها، وسندات ملكية بيوتهم التي وُجِدت بين الرّكام، “كانوا يرغبون في العودة إلى بيوتهم في القرية. ما نفع هذه الأوراق الآن؟ “يا ريت راحت البيوت وهنّي ضلّوا”. منزل الشهيدة وفاء بسمة وزوجها الشهيد أمين بسمة قد تضرّر منذ اليوم الأول لاشتداد العدوان، وهنا تنقل باسمة عن لسان شقيقتها قولها “كل شي بيرجع بيتعوّض” بعدما وصلها الخبر، كانت تنتظر أن تعود لإصلاح منزلها لتسكنه من جديد بمجرّد إعلان وقف إطلاق النار. وكذلك كانت تفعل باسمة، منتظرة اللحظة التي ستعود فيها إلى قريتها، فلا يهمّها حتى إن خسرت منزلها، يكفيها أن تنصب خيمة في أرضها. أمّا الآن، وبعد استشهاد 16 فردًا من عائلتها، تبدّل الحال “صرت كرهانة الضيعة، مش حابة إرجع بلاهن”، تقول.
ومن لا يعرف عائلة بسمة يكفي أن يسأل عنهم بين جيرانهم في عين بعال، ليتأكّد أنّ تماسكهم كعائلة هو سرّ المحبة والطيبة التي يتّسمون بها، ويعملون بجدّ لكسب أرزاقهم من عرق جبينهم. الشهيد علي بسمة أو “حكيم العيلة”، كما تصفه شقيقته باسمة، يعمل كممرّض خاص، يسعى من خلال عمله لخدمة الناس بكلّ محبة ولو كلّفه الأمر العمل من دون أجر في بعض الأحيان. ورغم معاناة النزوح، لم يترك علي مهنته ولا رسالته، وكما خدم أهله في عين بعال، كان حاضرًا لخدمة الجيران وأهل برجا عمومًا. أما زوجته جميلة فكانت تساعد في تحضير الحلويات وبيعها أونلاين لتشارك مع زوجها في إعالة أبنائهم الذين تتراوح أعمارهم بين 9 سنوات و16 سنة.
أبيدت عائلة علي وجميلة بأكملها كما عائلة الشهيدين وفاء بسمة وزوجها أمين بسمة الذي كان يعمل في تأمين وتوزيع المياه على أهل القرية، فبعدما كان الزوجان قد خسرا سابقًا ابنتين، الأولى بحادث سيارة، والثانية أثناء خضوعها لعملية في القلب وهي في عمر ستة أشهر، استشهدا في الغارة مع أولادهما الأربعة المتبقّين. أمّا الشهيد بسام بسمة فرحل مع زوجته حنان واثنين من أولادهما، فيما بقيت ابنتهما الصغرى مريم على قيد الحياة مع أخويها حسن وهبة، لكونهم لم يكونوا متواجدين في المنزل حينها. “أخوتي علي وبسام هم “كبار العيلة”، كانوا بمثابة العالم بأسره بالنسبة لنا، لعبوا دور الأب الحنون بعد وفاة والدي، لا أذكرهم إلا بطيب القلب والأخلاق”، تقول باسمة، وتضيف “ما بيروح إلّا المنيح”.
دنيا خضرا عادت من أجل العائلة فاستشهدت
“العائلة” هي ما نعود لأجله، فتسقط كلّ محاولات الهروب. وهذا ما أعاد دنيا خضرا إلى برجا، وهناك خسرت حياتها. مع اشتداد العدوان نزحت دنيا مع عدد كبير من أفراد عائلتها من صور إلى منطقة بئر حسن، ومن هناك إلى مدرسة في عكار، حيث استقرّت مع زوجها وطفلها الذي يبلغ من العمر سنتين ونصف السنة، ووالديها، وأخواتها وأزواجهم. وقبل يوم من المجزرة، توجّهت دنيا إلى بلدة بعاصير (قضاء الشوف) حيث تسكن حماتها مريم فقيه مع أقرباء لها، وكان معها زوجها وابنها الذي تجمعه علاقة قوية بجدّته ورغب في أن تعود معهم إلى عكار. باتوا الليلة هناك ثمّ توجّهوا في اليوم التالي إلى زيارة أقربائهم في برجا قبل العودة إلى عكار برفقة الجدة مريم. ذهب زوج دنيا مع ابنه في زيارة قصيرة لأحد الأصدقاء، ومن هناك اتّصل الطفل بوالدته وتحدّث معها عبر الفيديو، “ماما اشتقتلك”، ولم يمرّ دقيقتان على الاتصال حتى وقعت المجزرة وفقد الطفل أمّه وجدّة كانت بمثابة أمّه الثانية، بحسب ما روته سندرا خضرا، شقيقة دنيا، في اتصال مع “المفكرة”.
يسأل الطفل عن والدته دنيا، ولكنّه لا زال صغيرًا على فهم حقيقة ما حصل، تحاول خالته ساندرا أن تحيطه بكلّ الحبّ الذي يحتاجه، لكنّ شيئًا لا يعوّض حنان الأم، فكيف إذا كانت دنيا “الطيبة، والحنون، والنشيطة”، كما تصفها شقيقتها. “لقد تميّزت دنيا عن غيرها، تحمّلت الكثير خلال النزوح، وحاولت أن تصمد في وجه الضغوط المحيطة بها”، تقول مارينا سكاف، الناظرة في مدرسة الشيخ محمد الرسمية في عكار والمتطوّعة حاليًا لخدمة النازحين في المدرسة، بعدما جمعتها علاقة صداقة بدنيا، فلجأت إليها لتفرغ همومها وتستمدّ منها القوّة، لترحل بعدها “المميزة بين الكلّ”، برأي مارينا.
ليان ونوح فريج: ناما قريرا العين واستشهدا
نام الطفلان ليان فريج (5 سنوات) وشقيقها نوح (سنتان) قريرا العين، مطمئنان بوجودهما في سريريهما ووجود والدتهما في الجوار، “ولكن العدوّ ما بيتأمّنلو”، يقول عمّهما محمد فريج في اتصال مع “المفكرة”. قبل دقائق من وقوع المجزرة، كان عبد القادر فريج، والد الطفلين الشهيدين، يركن سيارته في جوار المبنى الذي يسكنه مع عائلته، ليفاجأ بصاروخ موجّه على المبنى. وجد نفسه أمام مأساة كبرى. بدل أن يصعد ليقبّل طفليه وزوجته، داس على الركام ليساعد في عمليات الإغاثة، ليفتّش عن أفراد عائلته التي لم يبقَ منها سوى زوجته رانيا ياسين التي لا زالت تخضع للعلاج في المستشفى، حتى تاريخ نشر هذا المقال. عبد القادر، وهو ابن بيروت، اختار أن يبني عائلة سعيدة في المنزل الذي يسكنه في برجا منذ زواجه، وكان يراقب طفليه يكبران أمام عينيه، لكنّ “إسرائيل قتلتهما”، يقول محمد عمّ الطفلين الذي عرف بوقوع الغارة من خلال خبر عاجل على التلفاز.
ليان ونوح هما البراءة والعاطفة والحُب، كما يصفهما العمّ محمد، كانا يشعران بالأمان لمجرّد وجود والديهما بقربهما، فلا يعيران انتباهًا لأيّ صوت قد يخيفهما، ولكنّ ذلك لم يكن كافيًا لردع استهدافات إسرائيل. “مأساتنا كبيرة، وكذلك مأساة النازحين كيف سيتمكّنون من العيش بأمان بعد كلّ هذا؟ كيف ستتمكّن الأمّ من ضمان الأمان لأطفالها؟”، يقول محمد، ويتابع “عادة يرحل الكبار عن الحياة قبل الصغار، أمّا اليوم فيحصل العكس”.
أتى هذا الهجوم ضمن سلسلة من الهجمات التي استهدفت مبانٍ سكنية تأوي نازحين في مناطق تعتبر آمنة وغير مشمولة بأوامر الإخلاء الإسرائيلية، كان آخرها في بلدة عرمون. وهو يندرج في إطار السياسة الإسرائيلية لإنزال العقاب الجماعي في حق المدنيين والسعي إلى عزل فئة من اللبنانيين (النازحين الشيعة) عن الفئات الأخرى، من خلال نشر الرعب ضمن المجتمعات المضيفة من النازحين وزعزعة التضامن الاجتماعي معهم. وفي الواقع، ترمي هذه الأعمال إلى زيادة الضغوط على البيئة الاجتماعية لحزب الله. فيما لم يُرصد أيّ هدف عسكري مشروع قد يكون استُهدف في هذه الهجمة، مما يشكّل استهدافًا غير مشروع للمدنيين والمساكن. وعلى فرض وجود أي هدف عسكري في المبنى المستهدف، يُخالف هذا الهجوم قواعد الحرب المتعلّقة بوجوب احترام التناسب والوقاية في شنّ الهجمات، مما يؤدّي إلى اعتباره جريمة حرب وانتهاكًا للقانون الدولي.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.