(2013) قضائياً: اختبارات للمرة الأولى ولا مكان لاستقلال القضاء في خطاب إصلاحه


2014-02-04    |   

(2013) قضائياً: اختبارات للمرة الأولى ولا مكان لاستقلال القضاء في خطاب إصلاحه

جرت سنة 2013 في ظل تعطيل للسلطتين التنفيذية تبعاً لاستقالة الحكومة منذ آذار 2013 والتشريعية تبعاً لتعطيل نصاب الهيئة العامة للمجلس النيابي ثماني مرات على التوالي. وفيما ترك هذا التعطيل آثاره على القضاء أيضاً، حيث لا يزال عشرات القضاة من متخرّجي معهد الدروس القضائية ينتظرون تعيينهم في مراكز قضائية، فإن المفارقة تمثلت بكثرة الاختبارات والمبادرات الحاصلة في شأن التنظيم القضائي، على صعيدي وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى والتي سارع متخذوها الى المفاخرة بها على أساس أنها إصلاحات تحصل “للمرة الأولى في تاريخ القضاء اللبناني”، هذه المفاخرة التي تعني: “ها نحن فعلنا حيث لم يفلح أحد من قبل”. ومن هذه الزاوية، وبمعزل عن مدى ملاءمة هذه الاختبارات، يصح تسمية هذه السنة القضائية بـ(سنة المرة الأولى). ونسارع الى القول بأن معظم هذه الاختبارات هدفت الى تحسين المرفق القضائي كما هي حال اختبارات تقييم القضاة وتفعيل محاسبتهم، فيما بعضها الآخر آل الى تقوية إمكانات المؤسسات القضائية الرسمية من دون أن يترافق أي منها مع أي إجراء لتعزيز ضمانات استقلالية القضاء. لا بل إن عدداً من هذه الاختبارات شكل بحد ذاته انتقاصاً من هذه الاستقلالية أو تهديداً لها.

القسم الأول: التنظيم القضائي:
وفي هذا المجال، سنتناول اختبارات التنظيم القضائي تحت أبواب ثلاثة:

التقييم والمحاسبة
تقييم القضاة ورسم القاضي النموذجي في ضوء إصلاحات 2012-2013
بدأ العمل بهذا الاختبار الجديد (تقييم القضاة) للمرة الأولى في 2012 من باب التهيئة لإعداد مشروع التشكيلات القضائية. فقد استعانت الوزارة بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى بأحد القضاة الشبان لإجراء إحصاءات في محاكم لبنان في 2012 وأعادت الكرّة في 2013. وبعد أقل من سنة من بدء اختبار هذه الآلية، أعلنت الوزارة نجاحها في تحسين إنتاجية بعض المحاكم تحسيناً ملحوظاً. وقد تباهت خاصة بالتقدم الملحوظ في عمل محاكم بيروت، بحيث زادت الأحكام النهائية الصادرة عن محاكم استئناف العاصمة من 200 الى 400 أي بزيادة 100%، كما زادت إنتاجية محاكم أخرى ولو بنسب أقل. وبذلك، بدا الوزير وكأنه يجري تقييماً مزدوجاً: تقييماً للقضاة للسنة الثانية على التوالي، وتقييماً لنظام التقييم من خلال مقارنة عدد الأحكام التي أصدرتها المحاكم، قبل بدء أعمال التقييم وبعدها[1].

وقد خلص الوزير على ضوء هذه النتائج الى القول بأن “الإنتاج في أي مؤسسة يتحسن ويتضاعف عندما تكون هنالك إرادة ومحاسبة”. وبالطبع، الإرادة التي توافرت هنا هي إرادة الوزير والمحاسبة التي حصلت هنا هي المحاسبة التي نجح هو في إرسائها من خلال التقييم المذكور بتعاون محدود الى حد ما من رؤساء المؤسسات القضائية. وما يزيد الأمر مدعاة للانتقاد، هو خلو نظام تقييم القضاة من أي دور لهم فيه أو من ضمانات لهم إزاء التعسف[2].

وما يزيد الأمر مدعاة للانتقاد هو حصول هذا التقييم من خارج الأطر المؤسساتية المنصوص عليها في قانون تنظيم القضاء العدلي، وتحديداً من خارج هيئة التفتيش القضائي التي يعود لها من حيث المبدأ مهمة إجراء التقييم والمحاسبة. وهذا الأمر يشكل سابقة في استيلاد الوزير لآليات موازية أو بديلة من المؤسسات القضائية القائمة (وهذا ما أسميناه في مكان آخر إصلاح الزواريب)[3]، مؤداه في أحسن الأحوال تحقيق إنجازات يرجح أن تزول مفاعيلها، مهما برقت، فور انتهاء ولايته، فيما تترك المؤسسات الباقية في ترهلها من دون إصلاح. أما في أسوأ الأحوال، فقد تمنح هذه السابقة وزراء العدل اللاحقين، والذين قد يكونون أكثر تسيّساً وأقل اهتماماً بالإصلاح، فرصة في استيلاد الآليات التي يريدونها للتحكم بالقضاة.

وتالياً، بدت سياسة التقييم، على أهميتها، وكأنها ترسم حدوداً جديدة بين السلطة التنفيذية والقضاء، بحيث تقود الأولى ممثلة بالوزير، مباشرة، عجلة الإصلاح ومن دون أي مواربة، فتكون أي زيادة في إنتاجية القضاة حاصلة بدفع منها. وبذلك، نكون قد انتقلنا من نظام يتوخى حفظ القضاة بمنأى عن أي ضغط من السلطة الى نظام لا يجد فيه القضاة إلا بضغط من هذه السلطة التي تسارع الى المفاخرة بذلك. ومن هذه الزاوية، وبمعزل عن النيات الإصلاحية الحسنة للوزير، يكون “التقييم” رغم جدّته وضرورته، استمراراً لنهج متواصل قوامه أن الإصلاح القضائي يأتي دوماً من “فوق” فيما يبقى القضاة (أقله الذين لا يتربعون على رأس الهرم) أسرى الدور المتروك لهم، مع ما يستتبع ذلك من خطورة على استقلاليتهم.
ولكن أخطر من ذلك كله، هو الهدف الأساسي لتقييم القضاة، والذي بات ينحصر على خلاف الرغبة المعلنة في 2012، في التقييم الكمي. وبذلك، يقاس نجاح القاضي بعدد الأحكام التي يصدرها (وهو طبعاً عنصر هام في تقييمه)، من دون أن يكون لجودة أحكامه أو لاستقلاليته أو قدرته على تطوير الاجتهاد أي قيمة مضافة في تقييمه. وأولى نتائج هذا الأمر تؤول عملياً الى حث القضاة على تسريع وتيرة المحاكمات وتجنب أي إجراء أو تحقيق أو تمحيص من شأنه أن يطيل أمدها. ومن الطبيعي في قبالة ذلك، أن يشعر القاضي “المجتهد” بأن الجهد الذي يبذله لاستخراج اجتهادات جديدة أو لتطوير تفسير القانون أو لفهم ظواهر اجتماعية لا يدخل قط في احتساب إنتاجيته، بل ربما يحسب كعامل سلبي في تطوره المهني ما دام من شأنه أن يؤدي الى تطويل أمد المحاكمة أو الى تأخير إصدار الحكم. وهكذا، يكرم القاضي الذي ينتج أحكاماً كثيرة بمعزل عن جودتها، فيما يعاقب بدرجة أو بأخرى القاضي الذي يتريث في إصدار أحكامه من دون النظر في ما إذا كان التريث ناجماً عن حرص منه على ضمان عدالتها.
وانطلاقاً من ذلك، تتراءى ملامح “القاضي النموذجي” المطلوب تعميمها، والذي يتميز بندرة اجتهاده وقلة مراجعه واضمحلال ثقافته. ومن شأن ذلك بالطبع أن يمس بحقوق الدفاع وأن يعزز الآراء المسبقة والأحكام الجاهزة (النماذج) وأن يجعل التعليل والمنطق القضائيين سطحيين الى درجة كبيرة، وأن تزداد الشكوى من ظلم القضاة أو النقص في كفاءتهم إن قلّت الشكوى قليلاً من بطء الفصل في قضاياهم. كما يبرز بنتيجة ذلك وجه القضاء كمرفق عام للقيام بخدمة معينة “سريعة”، مع تجريده من مجمل وظائفه المفترضة في حماية حقوق المواطنين وحرياتهم، أو أيضاً في تطوير القوانين وأقلمتها مع الحاجات الاجتماعية المستجدة. فكأنما المواطن يلجأ الى القضاء فقط لتعجيل حصوله على حقه، لا أملاً بعدالة سلطة مستقلة، بإمكانها أن تنصفه في مواجهة أصحاب النفوذ.

وقد انعكس بالواقع هذا الهدف على العمل التشريعي نفسه الذي اقتصر خلال هذا العام على مشروع قانون تقصير العطلة القضائية من شهرين الى شهر واحد، من دون أن يترافق مع أي إصلاح آخر في اتجاه تعزيز ضمانات استقلالية القضاء أو حتى في وضع تنظيمات من شأنها تعزيز الإنتاجية. وبالطبع، المسألة تبلغ حد الكوميديا التي لا تضحك أحداً حين نسمع نواباً يتحدثون عن ضرورة زيادة إنتاجية القضاة فيما واحدهم بالكاد ينتج مادة ونصف تنظيمية سنوياً ويشكلون هم “أغلى العاطلين عن العمل” [4].

في ظل أهداف كهذه، يتراءى شبح مخيف: شبح المحكمة العسكرية. محكمة تجيب عن أسئلة صعبة بنعم أو لا ومن دون أي تعليل، فتصدر يومياً عدداً هائلاً من الأحكام. وما يزيد شبح هذه المحكمة حضوراً هو ما نقله عدد من وسائل الإعلام مؤخراً بأن هذه المحكمة تفوقت في إنتاجيتها على مجمل المحاكم المدنية والجزائية. لا بل إن إحدى الصحف أشارت الى أن المحكمة العسكرية أطاحت من خلال تفوقها في إنتاج الأحكام المحاكم المدنية والجزائية على حد سواء[5].

أرقام قياسية في صرف قضاة من الخدمة بقرارات تأديبية 
بعد نجاح وزير العدل النسبي في تفعيل مجلس التأديب في 2012، استمر في 2013 في النهج نفسه. وقد سجلت بنتيجة ذلك أرقام قياسية في صرف قضاة من الخدمة (3 أحكام ابتدائية بالصرف من الخدمة، صدقت الهيئة العليا على اثنين منها وفسخت أحدها في 2013) وفي القرارات المؤقتة بالوقف عن العمل (5) وفي الملاحقة (ليس لدينا أرقام دقيقة). ويسجل في السياق نفسه التطور الحاصل على صعيد الشفافية من خلال البيانات التوضيحية التي أصدرتها وزارة العدل لتبيان ما آلت اليه التحقيقات أو الملاحقات في قضايا فساد قضائي والتي تؤدي أحياناً الى الإعلان ولو ضمناً عن أسماء القضاة الذين يُحالون الى التأديب كما نستشف من البيان الصادر في 3 حزيران بإحالة قاضيين الى المجلس التأديبي أبناءً على اقتراح هيئة التفتيش القضائي2013 وبقرار الوزير بوقف أحدهما عن العمل.

واللافت أن بعض هذه الملاحقات حصل تبعاً لمقالات صحافية تناولت أخطاء أو فضائح قضائية معينة. وهذا ما نستشفه من الإعلان الصادر عن وزير العدل شكيب قرطباوي في 3 حزيران 2013، وذلك تبعاً لمقال صحافي عنوانه: “قضاة وضباط يحمون شبكة مخدرات: ابن «النافذ» يفلت من العقاب” (الخميس 30/6/2013). وكانت الصحيفة قد أعلنت عن الموضوع على غلافها الخارجي بعنوان عريض: “ضباط الكيف وقضاته”. وهذا أيضاً ما نستشفه في الموقف الذي اتخذه قرطباوي في 2012 بالإصرار على ملاحقة القاضي المعزول غسان رباح (وكان يشغل آنذاك منصبي عضو مجلس قضاء أعلى ورئيس غرفة في محكمة التمييز) غداة نشر مقال بشأن مخالفات معزوة اليه[6]. وبذلك، واصل قرطباوي إرساء نهج جديد مفادهأن تداول الإعلام بالأخطاء أو المخالفات القضائية لم يعد أمراً محرّماً أو مكروهاً في المطلق، بل على العكس تماماً، من شأنه أن يشكل عنصراً مساعداً للتفتيش القضائي في هذا المجال. وعليه، وبعدما كان أي اتهام إعلامي ضد القضاء يرتد اتهاماً ضد صاحبه لأنه تجرأ على المس بهيبة القضاء، بمعزل عن خطورة الأفعال المعزوة للقضاة أو مدى صحتها، عادت الأمور لتصبح أكثر اتساقاً مع مستلزمات النظام الديمقراطي في مجالات حرية التعبير في شؤون القضاء ومعها المساءلة والمحاسبة. وللوقوف على أهمية هذا التوجه الجديد، يجب مقارنة ما حدث في هاتين القضيتين مع المواقف السابقة إزاء الانتقادات الإعلامية، والتي شهدت أوجها في فترة 14 و17 تموز 2008، تبعاً لحلقة تلفزيونية لبرنامج «الفساد» تناولت عدداً من القضاة. فقد انعقدت آنذاك على عجل جمعية عمومية للقضاة للمطالبة بتعديل قانون المطبوعات في اتجاه منع أي نقد للقضاة وإجازة الحبس الاحتياطي غير الممكن في جرائم المطبوعات في جرائم المس بالقضاء[7]. إلا أن مواقف الوزير في هذا المجال لم تكن دوماً منسجمة مع هذا التوجه بحيث عبّر في أماكن أخرى عن رفض للتجريح بأشخاص القضاة[8].

وعلى صعيد آخر، تجدر الإشارة الى أن هذا النهج، على أهميته، يبقى غير كاف، ولا سيما في ضوء العقوبات النهائية الصادرة في هذه القضايا والتي تبقى في معظمها غير متناسبة مع خطورة الأفعال المعزوة للقضاة. ومن أخطر هذه القرارات هو القرار الذي اتخذته الهيئة العليا للتأديب التي يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى نفسه في منتصف حزيران 2013 بفسخ القرار الآيل الى صرف قاض من الخدمة على خلفية تورطه في السمسرة القضائية وبيع أحكام والاكتفاء بتخفيض مرتبته أربع درجات[9]. والمحبط هنا أن هذه الهيئة التي يعود لها الكلمة الأخيرة في العقوبات التأديبية بدت وكأنها لا تجد حرجاً في إبقاء قاض مماثل في العمل القضائي، رغم ما يولده ذلك من “ارتياب”، مشروع، لدى هؤلاء الذين من واجبهم اليوم أن يطلبوا كلما مثلوا أمام هذا القاضي بنقل دعواهم على هذا الأساس.

والى ذلك، تستدعي العقوبات الصادرة في قضايا أخرى أسئلة حول مدى ملاءمة العقوبة بصرف قضاة متورطين بالتزوير أو بالرشوة من الخدمة من دون حرمانهم من التعويض الذي ربما يناهز في حالات معينة نصف مليون د.أ.، كما يلحظ أن الملاحقة التأديبية لم تتبعها أي ملاحقة جزائية لهؤلاء، وهذا ما توسعنا فيه في مكان آخر[10].
وأهم من ذلك، هو أن محاسبة القضاة المتهمين بالفساد لم تترافق مع أي إجراء لتعزيز استقلالية القضاة أو لملاحقة الأشخاص المتورطين في إفسادهم أو في رشوتهم أو في التدخل في أعمالهم، وهم على الأرجح من أصحاب النفوذ والثروات الكبرى. وكأنما يترك لهم المجال مفتوحاً لتكرار محاولاتهم وأساليبهم من دون أي رادع، وعلى نحو يسمح باستمرار ثقافة التدخل في أعمال القضاء مع إبقاء النصوص التي تجرّم هذا التدخل نائمة.

للمرة الأولى، المحاسبة في حدها الأقصى، عزل قاض من دون محاكمة:
في تشرين الأول/أكتوبر 2013، بلغت اختبارات المحاسبة حدها الأقصى مع الإعلان عن أول تطبيق للمادة 95 من قانون تنظيم القضاء العدلي تحت عنوان “استقالة قاض مع بدء تطبيق المادة 95 للمرة الأولى في تاريخ القضاء”[11]. وبموجب هذه المادة، بإمكان مجلس القضاء الأعلى، بناءً على اقتراح هيئة التفتيش القضائي، طرد أي قاض بقرار يتخذه بغالبية ثمانية من أعضائه، من دون أي محاكمة ومن دون أن يكون له أي حق بالطعن. ونقل بأن القاضي قدم استقالته تبعاً لاستدعائه في هذا الإطار ووافق عليها وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال شكيب قرطباوي[12]. وهذا ما أكده وزير العدل شكيب قرطباوي في حديث تلفزيوني لتلفزيون OTVفي 16/10/2013. والواقع أن بدء تطبيق المادة 95 شكل دلالة بليغة حول خطورة ما قد تصل اليه أعمال المحاسبة في حال حصولها من دون أي اعتبار للاستقلالية، على نحو قد يحوّلها الى عملية عشوائية يفتقد فيها القاضي الحد الأدنى من الضمانات القضائية، وتتعزز إمكانيات الضغط عليه الى حد الاستباحة. أمام ظاهرة كهذه، أمكن القول من دون أي مبالغة إن الخطوة المتخذة تشكل سابقة خطيرة قد يستخدمها القيّمون على القضاء كأداة لتجريد القضاة من أي حصانة تحت غطاء الإصلاح.

ولعل أكثر ما يسترعي الانتباه في هذا الشأن هو أن مجلس القضاء الأعلى حدد موعد الاجتماع بالقاضي المستقيل لتطبيق المادة 95 للمرة الأولى في 10 تشرين الأول/أكتوبر، أي بعد ثلاثة أيام من حصول الحراك الأكبر للقضاة الشباب بهدف تأسيس جمعية للقضاة في 7 تشرين الأول. ومن دون إمكانية الجزم حول وجود رابط بين الأمرين، يبقى من المشروع التساؤل في ظل التزامن الحاصل حول إمكانية أن يكون استعمال المادة 95 قد تم من باب الترهيب أو “عرض العضلات”، تذكيراً للقضاة بما لمجلس القضاء الأعلى من قدرة على قمع حراكهم.
وفيما لوحظ هنا أيضاً تفاخر وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى وصولاً الى رئيس الجمهورية بتطبيق هذه المادة[13]، فإن المفكرة القانونية تفرّدت في التحذير من خطورة هذه الخطوة، التي من شأنها حسبما أعلنت عنه التأثير سلباً على استقلالية القضاء وتقويض مشروعية إجراءات المحاسبة برمّتها[14].

وكخلاصة، أمكن القول بأن الاختبارات الآيلة الى إرساء تقييم للقضاة قد هدفت بالدرجة الأولى الى قياس إنتاجيتهم الكمية، بمعزل عن نوعية أحكامهم أو عن استقلالية أعمالهم. كما يلحظ أن اختبارات التقييم والمحاسبة قد جرت بمنأى عن اعتبارات الاستقلالية، بل احياناً على ركامها كما حصل مع تطبيق المادة 95. فكأنما الهمّ الإصلاحي قد انصبّ في هذا المجال في تحسين بعض جوانب المرفق القضائي العام في فصل النزاعات وفي مقدمها سرعة إصدار الأحكام، من دون أي اعتبار لوظائف القضاء كسلطة. وهذا ما ينقلنا الى المسألة الثانية المتمثلة في الخلاف المعلن بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى بشأن التشكيلات القضائية والذي من شأنه أن يعلمنا الكثير حول طبيعة الإصلاحات المعلنة في هذه السنة.

التشكيلات القضائية، معايير حسن إدارة المرفق العام في مواجهة الاعتبارات السياسية:
فيما أُعلن عن قرب إصدار التشكيلات القضائية مرات عدة في 2012، وذلك تبعاً لمعايير وضعها أعضاء مجلس القضاء الأعلى بالتوافق مع وزير العدل وأهمها نتائج التقييم المشار اليه أعلاه والحاصل للمرة الأولى في تلك السنة، فقد تأجل هذا الاستحقاق الى حين ملء المنصبين الشاغرين لرئيس المجلس والنائب العام التمييزي، وتراجع تماماً بفعل التجاذبات الحاصلة داخل المجلس تبعاً لحصول ذلك. وقد بدا هذا الخلاف وكأنه يضع رغبة الوزير بإرساء معايير موضوعية (بمعزل عن مدى دقتها) في مواجهة ممارسة مزمنة غالباً ما لعب فيها مجلس القضاء الأعلى، بفعل تركيبته[15]، دوراً في ضمان محاصصة سياسية وكثير من الزبائنية داخل القضاء. وبالفعل، تم بنتيجة ذلك التراجع عن المشروع الأولي للتشكيلات القضائية لاعتماد مشروع مصغر يقتصر على ملء المراكز الشاغرة وتعيين متخرّجي معهد الدروس القضائية، مع بعض التعديلات المحدودة.
وبتاريخ 28-2-2013، فوجئ الرأي العام المهتمّ ببيان لوزير العدل شكيب قرطباوي أعلن فيه قراره بإعادة مشروع مجلس القضاء الأعلى الجديد حول التشكيلات القضائية اليه، مع “ملاحظاته التفصيلية الكثيرة، معتبراً أنه لا يشكل خطوة نحو الإصلاح القضائي” الذي يعمل (هو) من أجله منذ توليه الوزارة[16]. وبالطبع، هذا الاختلاف ليس الأول من نوعه. لكنه بالمقابل يمثل المرة الأولى التي يلجأ فيها وزير عدل الى إخراج الخلاف مع المجلس بشأن التشكيلات من الكواليس حيث يسود عموماً منطق البازار بين مختلف القوى السياسية الى العلن.
والى جانب قسوة عباراته التي لا تدع مجالاً للمجاملة أو لتدوير الزوايا، فإن البيان تميز أيضاً في تفسير أسباب الخلاف (أقله من وجهة نظر الوزارة)، المتمثلة في مجانبة مجلس القضاء الأعلى المعايير الموضوعية للتشكيلات. ففضلاً عن احتجاج الوزير على حصر مشروع التشكيلات على النحو الذي تقدم، فقد أعاب عليه أنه لم يأخذ بعين الاعتبار المعايير الموضوعية مثل الثواب والعقاب والإنتاجية والمداورة، خاصة في القضاء الجزائي[17]. وفيما تؤكد علانية هذا الخلاف على الممارسة المتمثلة في إجراء تشكيلات قضائية انتقائية وعشوائية، مع ما قد يترتب عليها من استباحة للقضاة، فإن المعايير التي أبرزها وزير العدل تتمحور في مجملها هنا أيضاً حول شروط تحسين المرفق القضائي (إنتاجية ومحاسبة)، وتبقى جد بعيدة عن معايير استقلالية القضاء التي تفترض بالدرجة الأولى اعتماد مبدأ عدم جواز نقل القاضي من منصبه إلا برضاه[18].
أياً يكن، ورغم أهمية هذا البيان في حينه، إلا أن النتيجة العملية له جاءت سلبية بنتيجة قصور النقاش عن إبراز معايير الاستقلالية، والأهم فشل الوزير والمجلس في تجاوز خلافاتهما. فتعطلت التشكيلات بالكامل[19]، ما أبقى عشرات القضاة من متخرّجي المعهد خارج إطار العمل القضائي، ما يذكّر بما حصل في الفترة الممتدة من 2005 و2008 حيث بقي أكثر من مئة قاضٍ بانتظار تعيينهم في المراكز القضائية.
وبنتيجة ذلك، بدا الخلاف هنا وكأنه يجري بين طرف يسعى الى إصلاح المرفق العام القضائي على أساس معايير موضوعية، وطرف أكثر حرصاً على مراعاة اشتراطات اللعبة السياسية بما فيها من انتقائية وزبائنية وتوافقية، من دون أن يكون هنالك أي طرف معني حقيقة بضمان معايير استقلالية القضاء.

تعزيز قدرات المؤسسات القضائية: توجهات إصلاحية أم خطوات للالتفاف على حريتي التعبير والتجمع؟
من جهة أخرى، نلحظ توجهاً نحو تعزيز قدرات المؤسسات القضائية من خلال اختبارات جديدة. وهذا ما يتحصل من خلال أمرين، الأول إحاطة مجلس القضاء الأعلى بأمانة سر وإحاطة رؤساء المحافظات بهيئات استشارية مؤلفة من “ممثلين” عن الفئات المختلفة من القضاة. وفيما من المبكر الى حد ما الحكم على البعد الإصلاحي لهذين التدبيرين المتخذين للمرة الأولى في 2013، فإن هذا التوجه يطرح مخاوف مشروعة من أن تشكل هذه التدابير تعزيزاً لقدرات المؤسسات القضائية على حساب الضمانات الأساسية لاستقلالية القضاة وعلى رأسها حريتا القضاة بالتعبير والتجمع. وهذا ما سنحاول تبيانه أدناه.

أمانة سر مجلس القضاء الأعلى: المكتب الإعلامي يتكلم نيابة عن القضاة جميعًا
خلال سنة 2012، وضعت وزارة العدل اقتراح مرسوم بإنشاء أمانة سر لمجلس القضاء الأعلى. ورغم أن هذا الاقتراح لم يعُرض بعد على مجلس الوزراء، فقد عمد مجلس القضاء الأعلى الى تفعيل بعض الوظائف التي نص عليها اقتراح المرسوم. وهذا ما أعلن عنه رئيس مجلس القضاء الأعلى في حديث مع المجلة القضائية (عدد 11) جاء فيه أنه تم إنشاء أمانة سر للمجلس لتكون “أداته الإدارية وتعاونه على وضع قراراته موضع التنفيذ”. والى جانب المكتب الإحصائي الذي سيتولى مهمة تقييم القضاة وفق ما أشرنا اليه أعلاه، فإن أهم ما تتضمنه أمانة السر هو المكتب الإعلامي للتعاون مع وسائل الإعلام “بغية المساعدة في الحفاظ على صدقية الخبر الصحافي القضائي مع ضمان خصوصية الأشخاص المعنيين به”. والى ذلك، تتضمن الأمانة موقعاً إلكترونياً خاصاً بالمجلس بهدف تعزيز التواصل بين المجلس والقضاة، وما بينه وبين المواطنين، كما تتابع مكننة القضاء وتواكب الدراسات مع الجهات المانحة المتصلة بالقطاع القضائي.

وقد أعلن رئيس المجلس أن الاتحاد الأوروبي خصص مبلغ مليون يورو للمجلس بهدف تعزيز حكم القانون والشفافية في العمل القضائي. وقد أصدر المكتب الإعلامي حتى الآن عدداً من البيانات الموجهة الى الصحف تصحيحاً لخبر أو إعلاناً عن موقف معين. وبالطبع، وإذ من شأن هذا المجلس أن يصحح معلومات معينة، يخشى في ظل تركيبة مجلس القضاء الأعلى، أن يتحول الى أداة لتحديد الخطاب الرسمي للقضاء، دفاعاً عن قضاة مقربين للسلطة وربما هجوماً على قضاة يناوئون هذه السلطة. وما يزيد من حدة هذه المخاوف هو أن إنشاء هذا المكتب تزامن مع نكران حرية القضاة بالتعبير عن آرائهم والتأكيد على وجوب التزامهم الصمت عملاً بموجب التحفظ. وهذا ما تمثل خاصة في إصدار المجلس عدداً من التعاميم في شأن سلوكيات القضاء، أبرزها التعميم الصادر في 21/3/2013 والذي ذكّر القضاة بوجوب الامتناع عن أي تصريح في أي قضية تتصل بالقضاء أو الشأن العام.

إنشاء هيئات استشارية في المحافظات: تجمعات القضاة تحت سقف الهرمية القضائية
فضلاً عن ذلك، من الاختبارات الهامة لسنة 2013 هو قرار مجلس القضاء الأعلى بإنشاء الهيئات الاستشارية في المحافظات، بهدف “معاونة الرئيس الأول الاستئنافي في مهامه الإدارية” حسبما جاء فيه.

وتضم هذه الهيئة الى جانب الرئيس الأول في المحافظات، خمسة قضاة يمثلون خمس فئات من القضاة حسب وظائفهم (رؤساء غرف محكمة الاستئناف، مستشارو غرف الاستئناف، رؤساء الغرف الابتدائية والقضاة المنفردون، قضاة التحقيق والمحامون العامون الاستئنافيون، أعضاء الغرف الابتدائية). وتجتمع كل فئة من هذه الفئات في الأسبوع الأول من السنة القضائية لترشيح ثلاثة قضاة من الفئة نفسها، على أن يختار الرئيس الأول الاستئنافي للعضوية واحداً منهم بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى.

وللوهلة الأولى، تبدو هذه المبادرة مهمة من زوايا ثلاث: الأولى، أنها تشكل اختباراً للقضاة في الدرجتين الابتدائية والاستئنافية، في ممارسة “حق انتخاب”، ما قد يسهم لاحقاً في تعميم مبدأ انتخاب المسؤولين القضائيين من قبل أقرانهم والذي يشكل أحد معايير استقلالية القضاء؛ والثانية، أنها تصلح كأساس لحراك قضائي داخل أطر المحاكم من خلال تعزيز التفاعل والتواصل بين قضاة المحكمة الواحدة، ما قد يشكل تجربة أولى تمهد لاحقاً لإنشاء نواد أو جمعيات للقضاة؛ وما يعزز هذه الإمكانية هو تضمين القرار مادة تنص على وجوب التقاء الهيئة بقضاة المحافظة جميعاً لعرض برنامج عملها والاستماع الى ملاحظاتهم بشأنها، والثالثة، أنها تصلح لتوسيع دائرة المعنيين باتخاذ القرارات داخل المحاكم على نحو يخفف من حدة الهرمية التي تتمثل في حصر جميع الصلاحيات الإدارية في أيادي رؤساء المحاكم حالياً، وإن بقي دور الهيئة استشارياً. ويلحظ أنه على خلاف فرنسا ودول عدة في المنطقة كمصر وتونس والمغرب، استبعد قانون تنظيم القضاء العدلي اللبناني إنشاء جمعيات عمومية للمحاكم، في موازاة منح رؤساء المحاكم صلاحيات واسعة.

والواقع أن التدقيق في هذا التدبير يطرح تساؤلات مشروعة حول إمكانية أن يؤدي الى هذه المنافع التي تبقى افتراضية محضة، ولا سيما في ظل إخضاع نتائج انتخاب القضاة لمصفاة المراجع القضائية العليا التي تتولى هي بالمحصلة تعيين أعضاء الهيئة من دون التقيد بنتائج الانتخابات. ففي ظل مصفاة كهذه، تستعيد الهرمية طبعاً كل قوتها، وتتحول الانتخابات الى مجرد خدعة من شأنها استيعاب القضاة وإبقاؤهم تحت مظلتها، تحت غطاء إشراكهم وهمياً في اتخاذ القرارات المتصلة بالتنظيم القضائي. بل ألا يعد إخضاع نتائج الانتخابات لمصفاة القضاة الكبار بحد ذاته استصغاراً للقضاة ودعوة إضافية الى تهميش أدوارهم؟ وما يزيد من أسباب القلق، هو تقديم هذه الهيئة من قبل أعضاء في مجلس القضاء الأعلى على أنها بديل من الجمعية التي يطمح القضاة الى إنشائها[20].

بقي أن نذكر أخيراً بأن العام 2013 شهد أيضاً للمرة الأولى محاكمات للمتهمين بالانتماء الى تنظيم فتح الإسلام في محكمة أنشئت لهذه الغاية في مدار سجن روميه، وذلك بالتنسيق بين وزارتي العدل والداخلية. وإذ تجاوز هذان الوزيران مجمل الانتقادات الموجهة ضد هذا التوجه على خلفية شروط المحاكمة العادلة، فإنهما سعيا من خلال ذلك الى حل مسألة لم تجد بعد حلاً، وهي مسألة سوق السجناء الى المحاكم[21].

نُشر في ملحق العدد الثالث عشر من مجلة المفكرة القانونية


[1]نزار صاغية، اصلاح القضاء من خلال زيادة عدد الأحكام: القاضي النموذجي في ضوء إصلاحات 2012-2013، المفكرة القانونية، عدد 11، تشرين الأول 2013.
[2]طلب رئيس مجلس القضاء المؤرخ في 18/7/2013 من رؤساء المحاكم الاستئنافية في سياق مطالبتهم بالترخيص للقاضي المكلف بالقيام بالتقييم،لفت نظر القضاة الى إمكانية قيامهم بطلب نتيجة عمل محكمتهم قبل نشرها في التقرير العام عبر البريد الالكتروني الشخصي للقاضي المكلف بالتقييم. وبالطبع، ليس لهذه الضمانة أي قيمة تذكر طالما أنه ليس هنالك أي مرجع محايد يمكن اللجوء اليه للتدقيق في التقييم المذكور.
[3]نزار صاغية، النوايا الحسنة في اصلاح القضاء، مرجع مذكور أعلاه.
[4]سعدى علوه، “نوابنا أغلى العاطلين عن العمل”، السفير، 27/2/2012.
[5]الأخبار، 27/11/2013.
[6]محمد نزال، الأخبار،16/2/2012.
[7]نزار صاغية، محاسبة القضاة: خطوات من دون غد، المفكرة القانونية، العدد 9، تموز 2013.
[8]المرجع  نفسه.
[9]نزار صاغية، محاسبة القضاة: خطوات من دون غد، مذكور أعلاه.
[10]نزار صاغية، قضية غسان رباح وحكاية المحاسبة الضائعة: خروج مهين مع حبة مسك، نشر على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية في 15/4/2013.
[11]النهار 15/10/2013.
[12]المرجع نفسه.
[13]احتفال اليوبيل الذهبي لمعهد الدروس القضائية في قصر العدل، 5/11/2013.
 سعدى علوه، تطبيق المادة 95: اصلاح أم تهديد لاستقلالية القضاء، السفير 18/10/2013.[14]
[15]مجلس القضاء الأعلى مكون من عشرة أعضاء، ثمانية منهم تعينهم السلطة التنفيذية مباشرة أو غير مباشرة، فيما ينتخب أعضاء محكمة التمييز عضوين من بين رؤساء غرف المحكمة. ويسجل غالبا التقسيم السياسي والطائفي لأعضاء المجلس على نحو يضمن غالبا تمثيل التيارات السياسية والطائفية داخله.
[16]نزار صاغية، في سابقة مميزة، وزير العدل ينتقد بشدة مجلس القضاء الأعلى: ما تفعلونه ليس اصلاحا.. وللقضاة والمحامين والمواطنين أن يعرفوا ذلك، نشر على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية في 4/3/2013.
[17]المقصود اعتماد قاعدة مفادها وجوب الحؤول دون استمرار قضاة في اشغال مناصب جزائية معينة أكثر من فترة معينة.
[18]النوايا الحسنة في اصلاح القضاء…،مرجع مذكور أعلاه.
[19]يجيز قانون تنظيم القضاء العدلي لوزير العدل ابداء ملاحظاته على مشاريع التشكيلات القضائية التي قد يضعها مجلس القضاء الأعلى على أن يكون لهذا الأخير حسم الخلاف بينهما في حال حصوله بقرار يتخذ بغالبية سبعة من أعضائه.
[20]نقلا عن قضاة فضلوا عدم ذكر أسمائهم.
[21]زياد عاشور، ونجحت الدولة في سوق القضاة الى السجن، المفكرة القانونية، العدد 7، كانون الثاني 2013.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني