أغار الاحتلال الإسرائيليّ على حيّ المقداد في منطقة الجناح ليلَ الإثنين 21 تشرين الأوّل 2024، من الجهة التي تقع مباشرة قبالة مدخل مستشفى الحريري الحكومي على بعد حوالي 100 متر. وفي ثوانٍ معدودة دُمّر ثلاثة أبنية سكنية بالكامل. لم يصدر الجيش الإسرائيلي أي إنذار للمنطقة في تلك الليلة، وهي كانت لا تزال تعجّ بسكّانها، حتى أنّ عائلات عدّة نزحت إليها بعدما رأت فيها ملجأى آمنًا من الغارات الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه صدر إنذار لحي في منطقة الأوزاعي، فكان سكّان حيّ المقداد يتهيّأون للغارات التي ستطال المنطقة المجاورة ولم يتهيّأوا أبدًا للهرب ولا للموت. من عائلة بزي التي استشهد ستة منها في الغارة بعد نزوحَين، إلى عائلة المقداد التي خسرت ما يزيد عن 10 شهداء إضافة إلى مفقودين، أعلنت وزارة الصحة أنّ حصيلة الغارة الإسرائيلية في منطقة الجناح لغاية يوم أمس، هي 18 شهيدًا من بينهم 4 أطفال، و60 جريحًا، و10 مفقودين.
إن كنت تزورين المنطقة للمرّة الأولى، يكفي أن تتبعي آثار الدّخان المتصاعد كي تصلي إلى حيّ المقداد، أو أن تديري ظهرك لمستشفى الحريري لتصبحي قبالة المجزرة حيث الدمار شاهد في الجهة المقابلة. يستقبلك سكان المنطقة في الشارع متمنّين لو كان بإمكانهم استقبالك في بيوتهم، هؤلاء هم معظم من هربوا ليلة وقوع الغارة إلى باحة المستشفى ومدخله الرئيسيّ باعتباره آمنًا، “لم نتوقّع أن يضربوا الحيّ الذي نسكنه، لم يحذّرونا مسبقًا، ولا نعلم الآن إلى أيّ مكان نلجأ”، تقول إحدى السيدات وهي ترتجف خوفًا بعدما غادرت منزلها مجبرةً. مفتاح البيت لا يزال بيدِها، ولكنّ قرار العودة إليه ليس كذلك. خارج الحيّ يفترشُ بعضٌ من آل المقداد الطريق بانتظار انتشال أحبابهم المفقودين، صوت النحيب يكاد يعلو على صوت الجرّافات التي واصلت عمليّات البحث حتى يوم أمس الثلاثاء. ندخل الحيّ فتستحوذ فرق الإغاثة وآليات الإنقاذ على الصورة – رغمَ ضبابيّتها لشدّة الغبار – وأناس صابرون يقفون ووجوههم يعلوها الحزن والصّدمة. يشاهدون ذكرياتهم وقد تحوّلت إلى رُكام، ويودّعون من رحلَ من عائلاتهم، فيضمّهم البعض، علّ العناق يُهدّئ من روعهم. هنا، فرّقت إسرائيل أفراد من عائلة المقداد عن بعضم البعض بالموت، وهنا أيضًا شاء القدر أن يُقتل أفرادٌ من عائلة بزي النازحة رغم أنَّ منزلهم الّذي نزحوا منه لا زال صامدًا في حارة حريك.
الموت يلاحق عائلة بزّي ويفرّق عائلة المقداد
مع توسّع العدوان الإسرائيلي في 23 أيلول الماضي، نزحت عائلة بزي من منزلها في حارة حريك إلى بشامون، ثمّ إلى حيّ المقداد في منطقة الجناح. هربوا من آلة القتل الإسرائيليّة، لكنّها لاحقتهم. مساء الاثنين كانت العائلة مجتمعة في المنزل، وبعضهم يسهرون على الشرفة، توجّه الأخ الأكبر سامر نحو المقهى القريب من الحيّ ليُحضرَ فنجانًا من القهوة، وما هي إلّا خمس دقائق حتى دوى انفجاران. عادَ مباشرة إلى منزله ليجِده حطامًا. خسِرَ سامر والدته سعاد غزال، وثلاثة من أشقّائه هم حسن وحسين ورامي، وشقيقته ليال وابنها هادي (حوالي 10 سنوات)، فيما نجت ابنتها رنيم (حوالي 12 سنة)، ولا يزال اثنان من أشقّائه في العناية المركّزة.
بتول بزي، ابنة عمّ الشهداء، لم تكن مهيّأة لسماع خبر استهداف منزل نزوح أقاربها. “كانت أنظارنا موجهة نحو منزلنا الذي قد نخسره بين لحظة وأخرى في الجاموس حيث يفترض بحسب خرائط (المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي) أن يتمّ قصف المبنى الملاصق للمبنى الذي كنّا نسكنه”، تقول بتول في اتصال مع “المفكرة”، حيث كانت بانتظار أن يبدأ العدوّ غاراته التي تضلّ طريقها أحيانًا، إن لخطأ في الخريطة المنشورة أو لحاجة الغدر في نفس الإسرائيليّ. فجأةً أصبحت منطقة الجناح، غير المشمولة بالإنذارات، هي الخبر. “عندما سمعنا بخبر الغارة على الجناح رفع أبي الهاتف ليطمئنّ على أولاد عمّي فورًا، اتّصل بهم واحدًا تلوَ الآخر، حتى أجابه سامر، فكانت دموعه وحدها كفيلة بإبلاغنا أنّ الفاجعة قد وقعت، وقال لنا وهو يختنق بدموعه: تركوني لحالي، كلّن تحت الأرض وأنا واقف لحالي”، تخبرنا بتول التي خسرت ستة من عائلتها. الجرحى أيضًا يذكرون كلّ شيء، لقد شهدوا على الموت وسمعوا أصوات غيرهم من الناجين وهم يستغيثون، حيث أبلغ أحد الجرحى ابن عمّته بتول أنّه سمع صوت الصاروخ الذي قلب حياتهم رأسًا على عقب، قائلًا “كان اثنين من إخوتي جالسين على الشرفة عند المساء، فجأةً سمعت صوت الصاروخ ورأيت وميضه، ندهت لأخي فلم يردّ، كنت على يقين عندها أنّه قد استشهد”. لم يصب منزل عائلة بتول في تلك الليلة وكذلك منزل أولاد عمّها، يستوقفها الأمر فتتساءل “ما نفع الحجر أمام خسارة الأرواح؟ سنعودُ إلى بيتنا يومًا ما وسنقيم لهم مأتمًا يليقُ بهم”.
يتوقّع أهل الشهداء ألّا يتعوّدوا على الفقد، يظهر ذلك جليًا في حديثهم عن الفراغ الذي سيتركونه في حياتهم، في العادات والجلسات العائلية على وجه الخصوص. تتحدّث بتول عن أولاد عمّها الذين اعتادوا أن يجمعوا العائلة في شهر رمضان من كلّ سنة عند بسطة الكعك التي يعرفها كلّ من يسكن أو يمرّ في حارة حريك. “هم لديهم أشغال متفرّقة، ولكن كانوا يعمدون في شهر رمضان من كلّ عام أن ينصبوا بسطة للكعك، ونحن اعتدنا أن نزورهم في ساعات السّحور، نجلس بالقرب منها صغارًا وكبارًا، نأكل الكعك ونشرب الشاي ونتبادل الأحاديث. كانت البسطة جزءًا من عاداتنا الرمضانية التي تملؤها العاطفة، وقضت عليها إسرائيل”، تروي بتول. تعاهدت معهم على أن يحيوا ليالي رمضان المقبل حول عربة الكعك، ولكنّ إسرائيل كان لديها مخطّط آخر.
كتاب لغة عربية في موقع المجزرة
أمام حزن عائلة بزّي، بدأت عائلة المقداد “تحترف” انتظار المفقودين. “كُنا قاعدين بحالنا، عِيل ونساء وأطفال، ما قرّبنا على حدا. شو بدّن منا؟”، تقول إحدى سيدات العائلة في حديث مع “المفكرة”. على يمينها إحدى قريباتها، تغسل الدّموع وجهها وتردّد كلمة واحدة “إختي… إختي…”، التي لا تزال مفقودة. لتضيف: “كانت عم تدوّر على بيت إلها ولولادها وما لحّقت… راحت”.
يتّفق جميعهم على أنّ الإنذارات التي ينشرها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لا قيمة لها، ولكّنهم أيضًا يتساءلون “لماذا فعلوا هذا بنا؟ لماذا لم ينذرونا سابقًا؟ لدينا أطفال كانوا نائمين في أسرّتهم ونساء حوامل، لقد قتلونا ونحن أبرياء”، هي جملة من الأسئلة تدور في رأس محمد المقداد، الذي يسكن في الحيّ مع عدد كبير من أقربائه. بنوا حياةً في الحيّ الذي يحمل اسم عائلتهم، وبقوا صامدين فيه ولم يتركوا منازلهم رغم الحرب، لكنّهم كما غيرهم لم يتوقّعوا الفاجعة. تمكّن محمد من الهرب مع عائلته من منزلهم الذي تضرّر جرّاء الغارة، نزلوا إلى الشارع لينتظروا انتهاء عمليات البحث عن المفقودين، وهم لم يبحثوا بعد عن مكان ليبيتوا فيه في الليلة التالية، ورغم الحزن الكبير يقول “نحن حزانى نعم، ولكن في قلوبنا إصرار على المقاومة. ولكن أين العالم من كلّ هذا الجنون؟ أين الأمم المتحدة؟ أين حقوق المدنيين؟”
الشهداء حسن وحسين ورامي بزّي
مستشفى الحريري مستمرّ ومديره يناشد
الغارة التي تبعد عن مستشفى الحريري مسافة تقلّ عن 100 مترًا خلّفت أضرارًا في المبنى، حيث تعرّض لشظايا ولأضرار كبيرة بحسب مدير المستشفى، جهاد سعادة “من تحطّم الألواح الشمسية والواجهات الزجاجية، بخاصة في صيدلية المستشفى حيث تحتاج الأدوية إلى درجة معيّنة من البرودة للحفاظ عليها من التّلف، إضافة إلى تحطّم الزجاج في قسم مرضى غسيل الكلى، وقسم المعلوماتية، وهبوط الأسقف الداخلية في عدد من الغرف”. ولكنّ إدارة المستشفى لم تتوقّع الغارة لسببين: الأوّل أنّهم يرفعون راية ICRC التي يفترض احترامها، وثانيًا لأنّ المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لم يوجّه إنذارًا مسبقًا، “لكنّ إسرائيل لا تحترم أحدًا”، يقول سعادة. ويضيف: “اليوم يقول العدوّ إنّ المستشفى لم يكن هو المقصود من الغارة، ولكنّها وقعت على بعد عشرات الأمتار منه وخلّفت دمارًا هائلًا”. وكانت ردهة المستشفى قد تحوّلت في لحظات إلى ملجأ لسكّان المنطقة الذين هربوا من مكان وقوع الغارة ومحيطها، وعددهم بالمئات، بحسب سعادة.
ورغم ذلك، أكّد سعادة أنّ المستشفى مستمرّ بالعمل ولن يتمّ إخلاؤها، قائلًا “لقد تلقّينا أمس اتصالًا من إحدى الهيئات سئلنا فيه عمّا إذا كنّا في حاجة إلى فرق إسعاف لتساعدنا في الإخلاء، ولكنّني رفضت الأمر كلّيًا، نحن مستمرّون. الطاقم التمريضي والتوظيفي وكافة الطواقم الطبية في جهوزية تامّة وحاضرون للقيام بواجبهم”. وناشد سعادة عبر “المفكرة” العالم أجمع “عدم استهداف الطواقم الطبية من مستشفيات ومراكز وإسعافات، وكذلك عدم استهداف المدنيين”، مشيرًا إلى أنّ “95% من الإصابات التي تستقبلها المستشفى هي عبارة عن مدنيين بينهم أطفال ونساء”. واستقبلت المستشفى العدد الأكبر من الجرحى وهم بالعشرات، ويتمّ تقسيم الجرحى إلى قسمين بحسب درجة الإصابة، حيث تلقى قسم منهم العلاج اللازم وخرج من المستشفى مباشرة، في حين فرضت الحالة الصحّية للبعض ضرورة الدخول إلى المستشفى وتلقّي العلاج اللازم وهؤلاء عددهم حوالي 9 جرحى، بالإضافة إلى الشهداء، وتعدّدت الإصابات بين إصابات بالرّأس والأطراف.
ونشرت “المفكرة” اليوم إخبارًا عن جريمة حرب في مجزرة حيّ المقداد في محيط مستشفى الحريري في بيروت، فوفق قوانين الحرب:
– يُحظر توجيه هجمات ضدّ السكّان المدنيين أو مهاجمة المساكن التي لا تكون أهدافًا عسكرية.
– يُحظر استهداف المستشفيات والطواقم الطبية التي تعنى بمداواة الجرحى والمرضى.
– تُحظر أعمال العنف التي يكون الغرض الأساسي منها نشر الرعب بين السكّان المدنيين (المادة 51-2 من البروتوكول الإضافي الأوّل لاتفاقيات جنيف).
– في حال وجود هدف عسكري مشروع، يُحظر شنّ هجمات حين يكون معلومًا بأنّها ستسفر عن خسائر في الأرواح أو عن إصابات بين المدنيين أو عن إلحاق أضرار مدنية تكون مفرطة بالقياس إلى المكاسب العسكرية الملموسة والمباشرة.
– احترامًا لمبدأ الوقاية، يجب اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة عملياً بهدف تجنيب الخسائر في الأرواح والإصابات بين المدنيين والأضرار التي تلحق بالأعيان المدنية. ويجب بذل جهد أكبر في احترام مبدأ الوقاية عندما يكون العمل العسكري قريبًا من المستشفيات.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.