يتعرّض الأشخاص ذوو الإعاقة خلال حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة إلى كلّ ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني، من تهجير، وإخلاء، ونزوح، وقتل، واعتقال، وإصابة، وتجويع، وتعطيش، وأرق، وخوف وتعب. إلّا أنّ معاناة هؤلاء مضاعفة نتيجة تدمير البنية التحتية الصحية وتدمير معظم المرافق الصحية والمستشفيات ومراكز التأهيل، وذلك من شأنه أن يعرّض حياتهم للخطر أكثر من غيرهم، في انتهاك صارخ للاتفاقيات الدولية الخاصّة بحماية المدنيين ويمسّ بالمادة 11 من الاتفاقية الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة والتي تدعو كافة الأطراف إلى اتخاذ التدابير اللازمة لحماية الأشخاص ذوي الإعاقة، كما يمسّ بقرار مجلس الأمن رقم 1325 الذي يدعو لحماية النساء والفتيات من العنف في أوقات الحروب والطوارئ.
وبحسب قطاع تأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة في شبكة المنظمات الأهلية، فإنّ وقع الحرب على الأشخاص ذوي الإعاقة يكون مضاعفًا حيث أنّ نقص مقوّمات الشمول في البيئة المحيطة أو تدمير هذه المقوّمات بفعل الاحتلال أو تدمير أدواتهم المسانِدة، يقلّل من فرص نجاتهم، حيث يعيق قدرتهم على الإخلاء والوصول للمرافق الصحية ومراكز الإيواء. كما يمنع الحصار المطبق وإغلاق المعابر الإنسانية من حصولهم على الأدوية الدورية والاغذية الخاصة التي يحتاجونها، بالإضافة لخدمات التأهيل وغيرها.
وقد أضيف إلى عديد هذه الفئة في الحرب الحالية، حوالي 10 آلاف شخص نصفهم من الأطفال، أصيبوا بإعاقات نتيجة القصف الإسرائيلي الوحشي الذي يستهدف المدنيين، بحسب بيان أصدرته المؤسسة في 29 حزيران الماضي.
وهذه الفئة من الغزّيين تسقط من قوائم أولويات الجهات والمنظمات أثناء سعيها لتأمين المستلزمات الضرورية، وفق ممثلة ائتلاف الإعاقة الفلسطيني، الناشطة الحقوقية شذى أبو سرور، سواء على مستوى المساعدات الإنسانية وعلى مستوى الأدوات المساعِدة من أجهزة طبية وتعويضية (عكازات وكراسي متحرّكة وأجهزة وبطاريات للأشخاص المصابين بالصم)، أو على مستوى الأشخاص المرضى منهم كالمصابين بأمراض القلب، السكري، السرطان، الكلى وغيرها، ليس باعتبارهم أولية ولهم أحقية أكثر من غيرهم لكن على اعتبار أن هناك حقيقة أنهم ليسوا في أذهان مقدمي الخدمات الإنسانية كما غيرهم.
ذوو الإعاقة: أوّل من يقتلون لمحدودية فرص الفرار
وأظهر تقرير للجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، أنّ الأشخاص ذوي الإعاقة في غزة يعيشون في حالة من الكرب الشديد ويتوقّعون أن يكونوا أوّل من يقتل بسبب محدودية فرص الفرار أو المشاركة في عمليات الإخلاء نتيجة إعاقتهم.
وتشير اللجنة في تقريرها إلى أنّ غياب الإنذار المسبق بصيغ ميسّرة، إلى جانب تدمير شبكات الاتصالات، جعل عملية الإخلاء مستحيلة بالنسبة إلى الفلسطينيين ذوي الإعاقة وأنّ الدمار الهائل الذي لحق بالمساكن والبنية التحتية المدنية وما نتج عنه من أنقاض قد قلّص من إمكانية التنقل الضرورية للفرار والإخلاء وطلب الحماية”.
واستشهدت اللجنة بحالة ي. م.، وهو محامٍ يعمل مع إحدى المنظمات غير الحكومية، ويعاني من إعاقة بصرية منعته من الفرار من منزله الذي يقع في منطقة تتعرّض للاعتداءات والقصف. فقُتل في منزله في 7 كانون الأوّل 2023، تاركًا وراءه أربعة أطفال.
وأعربت اللجنة عن أسفها لعدم حصوله على معلومات الإخلاء في الوقت المناسب وفي صيغة ميسّرة، كما لم يستفد هو وأقاربه من أي ممرات وأماكن إيواء وملاجئ محددة يمكن الوصول إليها، حيث كان من الممكن الحصول على تدابير السلامة والنجاة من الغارة الجوية.
وبحسب اللجنة الأممية أيضًا، فإنّه قبل 7 تشرين الأوّل 2023، أبلغت 21% من الأسر في غزة عن ضمّها فردًا واحدًا على الأقلّ من ذوي الإعاقة، وتمّ تحديد 58 ألف شخص من ذوي الإعاقة في قاعدة البيانات الرسمية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. ومنذ 7 تشرين الأوّل حتى نهاية 2023، بترت أطراف أكثر من ألف طفل. إلّا أنّ هذه الأرقام قد تكون ارتفعت بشكل حاد بعد مرور سبعة أشهر على اندلاع الحرب وتصعيد الأعمال العدائية. ولا يزال من الصعب جمع بيانات ومعلومات موثوقة بشأن الأشخاص ذوي الإعاقة.
وفي السياق نفسه، تشير جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني إلى أنّها لم تتمكّن من تحديث أرقامها هذا العام لأن الاتصالات في غزة غالبا ما تكون معطلة ومعظم المستشفيات لم تعد تعمل.
الاحتلال يتقصّد إصابة الناس بإعاقات
إذًا، إنّ الوصول إلى بيانات دقيقة عن هذه الشريحة، يعتبر أمرًا مستحيلًا، وهذا ما تؤكده لـ “المفكرة القانونية” شذى أبو سرور، خلال مشاركتها في لقاء حواري، نظّمه الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركيًا والمنتدى العربي لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة الثلاثاء الماضي في 9 تموز، في ملتقى “السفير”، في حضور وفد من فلسطين والعراق وتونس وموريتانيا.
شذى أبو سرور، الآتية من بيت لحم في الضفة الغربية تقول لـ “المفكرة”: “لا تهمّني الأرقام ولا أقف عندها لأنّ لكلّ إنسان منّا قصة وحلم ومسيرة ومسار وفكرة. وهذا هو المهم”. وتعتبر أنّ الأرقام التي طرحت وتطرح اليوم، ليست دقيقة، موضحة أنّ جهات تقول إن أكثر من 10 آلاف من الجرحى تطوّرت إصابتهم إلى إعاقات، في مقابل جهات أخرى تقول إنّه يستحيل أن يكون هذا الرقم دقيقًا. وبالتالي تعتبر أنّ “سبل الوصول إلى بيانات دقيقة حتى في ما يتعلق بالشهداء هو أمر مستحيل، لوجود أعداد كبيرة من المفقودين، ومنهم لا يزالون تحت الردم والأنقاض، وجزء آخر ما بين معتقلين ونازحين لم يلتقوا بعائلاتهم. كل هذه الأمور وكأنّها شبه أبواب مقفلة، لا نعلم ماذا يوجد خلفها”.
وتضيف: “علينا ألّا ننسى أنّ الكيان الصهيوني لا يحارب فقط المقاومة والمدنيين ويدمّر الأبنية والبنى التحتية والمقدّرات لكنّه يتقصّد أيضًا محاربة الكوادر التي تقع على عاتقها رصد الخدمات ذات الطابع الإنساني والاجتماعي، فكلّ من يمكنه أن يقدم البيانات الدقيقة، فهو أيضًا يتعرّض للهجمة والإبادة”.
وتشير أبو سرور لـ “المفكرة” إلى “أننا لسنا طرفًا رسميًا نستطيع الادّعاء أن لدينا الإمكانات لرصد كاف، يؤهلنا لنقل صورة دقيقة لها علاقة بالأرقام”. مع ذلك، تعتبر أنّه قبل حرب الإبادة حاليًا، كانت توجد في الأساس مشكلة تأمين الأطراف الصناعية والعكازات والسماعات الطبية والعصا الخاصة بالإعاقة البصرية، إذ كان الاحتلال يفرض الحصار على تلك الأدوات ويمنع وصولها، هذا إضافة إلى أنّه يتقصّد دائمًا عند إطلاق الرصاص على المدنيين أن يقتل أو أن يصيب الأطراف والعيون، ليجعل من الأشخاص المصابين من ذوي الإعاقات الدائمة لاحقًا.
وعمّا يمكن أن يقدّمه لبنان والدول المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، لمساعدة الأشخاص ذوي الإعاقة ومساندتهم تقول أبو سرور لـ “المفكرة” “أن الأشخاص ذوي الإعاقة يسقطون من قوائم الأولويات، سواء على مستوى المساعدات الإنسانية، أو على مستوى الأدوات المساعدة، من الأجهزة الطبية والتعويضية، حتى على مستوى الأشخاص ذوي الإعاقة مرضى القلب، السكري، السرطان، الكلى، والأمراض المزمنة كافة. هؤلاء الأشخاص يجب أن يكونوا على قوائم الأشخاص الذي يتم السعي لإخلائهم من غزة، حتى يتلقوا الخدمات الطبية، كون أوضاعهم تزيد من خطورة تعرّضهم للمخاطر. على غرار ما حصل مع مجموعة من الأطفال الذين تم تسهيل عملية إخلائهم من غزة كي يتلقوا العلاج اللازم. بينما الأشخاص ذوي الإعاقة لا يكونون في أذهان الناس التي تسعى أن تقدم هذه الخدمات، داعية إلى أن يكون هناك نسبة من ذوي الإعاقة، ونسبة من الأطفال ومن المسنّين، لا أحد أهم من أحد في هذا السياق، لذا يجب أن يكون هناك مساع تقصد أن تصل المساعدة إلى فئات مختلفة من الناس.
وتوضح أنّ كثيرًا من الأدوية التي يحتاجها الأشخاص من ذوي الاعاقة، الأجهزة الطبية والتعويضية والأدوات المساعدِة هي ضمن القوائم التي يجب الضغط على الكيان الصهيوني لإدخالها إلى قطاع غزة. هناك مؤسسات تضغط لإدخال أدوية ومستلزمات طبية، أحيانًا مساعدات إنسانية من أنواع مختلفة ولكن الأجهزة الطبية لذوي الإعاقة لا تكون من ضمن قائمة مساعدات يتمّ الضغط لإدخالها إلى القطاع، مثلًا: العكازات والكراسي المتحركة، لافتة الى منظمة اليونيسف حاولت إدخال هذه المساعدات إلى غزة ورفض الكيان الصهيوني إدخالها.
وترى أبو سرور أنّ المطلوب هو أن يكون الأشخاص من ذوي الإعاقة في أذهان الناس التي تسعى إلى تسهيل عملية وصول الفلسطينيين للمساعدات الإنسانية والخدمات الصحية، ليس باعتبارهم أولويّة لهم أحقية أكثر من غيرهم لكن باعتبار أنّ ثمّة واقعًا أنّهم ليسوا في أذهان مقدّمي الخدمات الانسانية كما غيرهم”.
وردت أبو سرور على أسئلة رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيا سيلفانا اللقيس، وعدد من المشاركين في الحوار، عن “واقع الشعب الفلسطيني في الوقت الراهن، وعن كون هذه الحرب الحالية هيَ امتداد لسياسات الاستعمار الاستيطاني التي مورست ولا تزال على فلسطين منذ أكثر من قرن وعن استعمار المنطقة المتجدد”. فتوقفت عند “أبرز التحديات المضاعفة التي يواجهها الأشخاص المعوّقون في بيئات تفتقر للحدود الدنيا من مقوّمات الأمان وإمكانية الوصول إلى الخدمات، بالإضافة إلى وفاة عدد من الأشخاص المعوّقين في المعتقلات والأسر”.
وأكدت حتمية الاستمرار في المقاومة في وجه الاحتلال الصهيوني معتبرة أنّ “العيش الآمن مع الذل هو أشد وطأة على الفلسطينيين من الموت، وأنّ الاستشهاد هو أحد الخيارات في مسيرة التحرّر الوطني للشعوب”.
شهادة طبيبة من غزة
وقد تليت أثناء اللقاء شهادة لطبيبة فلسطينية من غزة تقول فيها: “درست الطب وأحببت مهنة الطب، اختصاصي في مجال العظام، تدربت وتخصصت في مجال الأطراف الاصطناعية، كان الدافع وراء ذلك أخي حمزة الذي تعرّض لحادث سير وأنا صغيرة ، ورأيت كيف أنّ حياته تغيّرت بعد أن حصل على طرف اصطناعي حديث، أصبح يمشي ويركض وكأنّ حادث فقدان قدمه لم يكن، حتى أنّه استطاع الزواج وحياته شبه طبيعية”.
وتضيف: “عملت في إحدى المستشفيات في القطاع، في مجال تركيب الأطراف الاصطناعية. كنا في غزة نصنع الأطراف في مجمّع حمد الطبي، ويأتينا إمدادات من أوروبا وأميركا وبلدان أخرى. كنا نركّب أطراف اصطناعية خاصة لضحايا الحوادث وضحايا مرض السرطان وخاصة سرطان العظام. بعد الأحداث الأخيرة في غزة، وتدمير المستشفيات، عملت مع الأطباء الآخرين على بتر أطراف من الأطفال والنساء والرجال. لكن اليوم لا نملك القدرة لتركيب الأطراف الاصطناعية للمحتاجين وبخاصّة الأطفال، ما يعني أنّه ينتظرنا عمل كثير بعد انتهاء الحرب”.
وتتابع الطبيبة: “ما يؤلمني حقًا رؤية الأطفال الصغار الذين بترت أطرافهم وبخاصّة أرجلهم، وأتساءل، كيف ستكون حياتهم؟ كيف سيستطيعون الاستمرار بعد أن تغيرت حياتهم بشكل كامل ونهائي؟ أتألّم وبخاصّة عندما أرى فتيات صغيرات وقد بترت أرجلهنّ أو أيديهنّ”.
وتصف الوضع في غزة بالكارثي “فوفق آخر تقديرات، قد يبلغ عدد الأطفال الذين تعرّضوا لبتر أحد أو أكثر من طرف إلى ما يزيد عن ألفي طفل غزّي، وهذه كارثة بحد ذاتها، فالأثر الجسدي والنفسي على حياة هؤلاء الأطفال سيمتد طوال سنوات حياتهم”.
وتتابع: “أنظر إلى الأطفال الذي أعمل معهم لأعلّمهم كيفية استخدام الكرسي المتحرك أو العكازات بشكل دائم، أنظر لمعاناتهم وألمهم (…) أتألم عندما أراهم يحاولون المشي على العكازات ويسقطون على وجوههم المرة تلو الأخرى. أتألم عندما تقصف المنطقة من حولهم ويحاولون عاجزين عن التحرك للهروب من القصف”.
وتختم شهادتها بالقول “أطفال أبرياء تخلّى عنهم الجميع، والآن عليهم العيش بإعاقات طيلة أيام حياتهم حتى بعد انتهاء الحرب وعودة الجميع لحياتهم الاعتيادية، قصفت حياتهم وآمالهم للأبد”.