وسط بيروت (1920-2020) بين المشاريع الاستعراضية والإنماء المتوازن


2021-03-12    |   

وسط بيروت (1920-2020) بين المشاريع الاستعراضية والإنماء المتوازن
رسم رواند عيسى

لقد أعادت الأزمة اللبنانية الراهنة إلى الواجهة تساؤلات مصيرية حول لبنان كنظام وككيان كانت رائجة أيام الحرب الأهلية 1975-1990 لكنها طويت – أقلّه في الحيّز العام – مع طيّ صفحة الحرب. وقد أدّى ذلك إلى شبه قطيعة معرفية مع الماضي بخاصّة عند جيل ما بعد الحرب، مما سلبه الحق والقدرة في فهم أعمق ونقدي للماضي. تطرح المفكرة القانونية – عبر سلسلة من المقالات – قضايا محورية في تكوين لبنان ونظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي خلال المئة عام الماضية من منظور فهم الماضي لاستشراف المستقبل. (المحرّر)

 

عند إعلان دولة لبنان الكبير في الأوّل من أيلول 1920 تحوّلت مدينة بيروت من مركز لولاية عثمانية (ولاية بيروت) إلى عاصمة للبلد الجديد (الجمهورية اللبنانية منذ 1926) الذي تشّكل بحدوده الجغرافية الحالية بعد أن فتّتت سلطات الانتداب الإمبراطورية العثمانية وأعادت تقسيمها إلى كيانات سياسية مختلفة. غير أنّ عملية التجزئة لمناطق كانت مترابطة تاريخياً كانت لها عواقب وخيمة على الجغرافيا الاقتصادية للبنان إذ أدّت إلى ضعضعة الروابط والعلاقات التجارية بين مدن ومناطق أُلحقت بلبنان وأخرى اقتطعتها الحدود الجديدة. بالتالي، برزت بيروت التي ازدهر مرفأها وتجاوز نموّها خلال العقود الأخيرة من الحكم العثماني نمو المدن الساحلية الأخرى التي أصبحت جزءاً من لبنان الكبير، كمركز تجاري واقتصادي رئيسي في شرق المتوسّط واتّسعت الهوّة بينها وبين سائر المدن اللبنانية. بعد الحرب العالمية الثانية عزّزت التحوّلات السياسية والاقتصادية الإقليمية دور بيروت كمركز خدماتي وسيط بين الشرق والغرب. كذلك ساعدت سياسات الإنماء غير المتوازن التي اتّبعها لبنان بعد استقلاله (1943) في تفعيل دورها الخدماتي المركزي على حساب المناطق اللبنانية والقطاعات الإنتاجية الأخرى، لتصبح القطب شبه الحصري لجميع أنشطة لبنان التجارية والمالية التي تركّزت بمعظمها في وسطها التاريخي. إضافة إلى ذلك، ظلّ وسطها نواة أساسية للأنشطة الثقافية والترفيهية ومقرّاً للكثير من الإدارات الرسمية. فحتى بداية الحرب الأهلية (1975) كانت بيروت بالنسبة للكثيرين هي وسط بيروت.

رغم مرور ثلاثين سنة على نهاية الحرب ورغم إعادة إعماره، لم يستعد وسط بيروت الذي يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ بيروت وذاكرتها، الدور الذي تميّز به قبل الحرب. اليوم، وفي ظلّ الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بلبنان، نسأل عن واقع حال هذا الوسط في السياق الحالي لمدينة كبرى مجزّأة متعدّدة النويات كبيروت، وعن الانقسامات المكانية والفوارق الاجتماعية المتنامية للمدينة، وسياسات تسليع الأرض والسكن والتراث وخصخصة المساحات العامّة. وفي مئوية لبنان نسأل عن نماذج التنمية الاقتصادية المتغيّرة التي أثّرت في تكوين وسط العاصمة وتحوّلات بنيته المادية منذ نشأة لبنان الكبير حتى وقتنا هذا، والواقع الاجتماعي والمؤسّسي الذي رافقها. وبعد الانفجار الرهيب الذي دمّر مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وأحلّ الخراب في الكثير من أحياء المدينة، نسأل عن سياسات التهجير ومفارقات إعادة الإعمار ومعاناة معظم سكان المدينة، واللبنانيين عموماً، مقابل تكديس الثروات في أيدي النخب المتحكّمة باقتصاد البلاد.

تحديداً، نتناول هذه التساؤلات من منظور التخطيط العمراني الذي لم يكن قط نشاطاً تقنياً محايداً في خدمة المصلحة العامّة، بل عملاً سياسياً بامتياز يعكس النظم الاقتصادية المهيمنة ويستجيب لمصالح الطبقات الحاكمة وأصحاب السلطة والنفوذ. عليه، نتوقّف أوّلاً عند نهج التخطيط العمراني الذي اتّبعته سلطات الانتداب الفرنسي والنهج الذي اتّبعته الشركة اللبنانية لإعادة تطوير وإعمار وسط بيروت (سوليدير) بعد الحرب، واللذين رغم الفارق الزمني بينهما، تعاملا مع مركز المدينة على أنّه صورة استعراضية (showcase) تعزّز تنافسية بيروت في جذب الاستثمارات ورؤوس الأموال. ثانياً، نتناول سياسات الإنماء المتوازن التي ميّزت عهد الرئيس فؤاد شهاب والتوجّهات والمبادئ الأساسية للمخطّط الإقليمي الحالي لبيروت الكبرى، الذي أعدّه المخطّط العمراني الفرنسي ميشال إيكوشار (Michel Ecochard) في 1963-1964 انطلاقاً من واقعها السكّاني وضرورة توجيه نموّها نحو مراكز أخرى، والتدخّلات السياسية التي حوّلته عن بعض أهمّ أهدافه. نعود بعدها إلى الوضع الرّاهن ومستقبل المدينة الذي نستشرفه في ضوء تجارب الماضي وخيارات الحاضر.

 

مشاريع استعراضية تنافسية

أعطت سلطات الانتداب الفرنسية عندما استلمت زمام الحكم في لبنان أولوية في سياستها الاقتصادية لاستكمال مشروع تحديث بيروت القديمة (أي الجزء التاريخي حيث نشأت المدينة أوّلاً) الذي كانت قد بدأته السلطات العثمانية بهدف تسهيل حركة نقل البضائع من ميناء بيروت وإليه. أعاد الفرنسيون تصميم المنطقة على نماذج الأحياء الفرنسية الحديثة آنذاك لتغدو “معرضاً للانتداب الفرنسي في بلاد الشام”.[1] الأحياء التي بنيت في تلك الفترة (ساحة النجمة وفوش-ألنبي) هي اليوم “النواة التاريخية” لبيروت التي استنسب المخطّط التصميمي لمشروع إعادة تطوير وإعمار وسط بيروت (سوليدير) الحفاظ عليها وإبرازها. رغم تباينهما الزمني، يمثّل هذان المشروعان منهجاً مفاهيمياً معيّناً في التعاطي مع التاريخ والمجتمع – يقوم على إعادة النظر في الهيكلية المكانية وفق اعتبارات اقتصادية وفنية تعطي الأفضلية لتحسينات البنى التحتية وإنشاء الطرقات الحديثة وإعادة فرز الأراضي لغرض التطوير العقاري وتجميل صورة المدينة وتوفير بيئة أنظف وأفضل للنخبة.

بالفعل، أحدث التخطيط العمراني لبيروت خلال فترة الانتداب طفرة واسعة في سوق العقارات وارتفاعاً كبيراً في أسعارها (التي قيل إنّها تضاعفت أو زادت ثلاثة أضعاف في غضون خمس سنوات) وفي إيرادات بلدية بيروت من الضرائب والرسوم على رخص البناء.[2] بالتالي، أسّس هذا الإنجاز الإداري الفرنسي لفصل طبقي لسكّان المدينة. غير أنّ الممارسات التخطيطية لتلك الفترة لم تكن نابعة فقط من علاقة مستعمِر بمستعمَر بل نتجت أيضاً عن مفاهيم الحداثة نفسها التي ارتبطت بسياسات مُدنية قمعيّة وتمييزية طالت المستضعفين والفقراء سواء كانوا في فرنسا أو من الأراضي المستعمَرة. كذلك، لا يمكن فصل مشروع تحديث بيروت عن سياقه المحلّي الأوسع إذ عكس التصوّرات الاقتصادية والسياسية لعدد كبير من المثقفين وعشّاق فرنسا في متصرّفية جبل لبنان (أمثال ميشال شيحا وبولس نجيم وشارل قرم وجاك وإبراهيم ثابت وغيرهم) ممّن سعوا إلى توسيع جبل لبنان إلى “حدوده الطبيعية” بهدف تشكيل وحدة اقتصادية وطبيعية قابلة للحياة.

كانت نظرة هؤلاء المثقفين الليبرالية إلى مستقبل بيروت منسجمة مع نظرة السلطات الفرنسية. بعضهم رأى في تحسين مرفئها وشبكة السكك الحديدية التي تربطها بسوريا فرصة لتعزيز دورها الإقليمي وتنافسيّتها الاقتصادية. حتى أنّ أحدهم (إبراهيم ثابت) دعا فرنسا إلى التخلّي عن خطّة تطوير ميناء طرابلس لمصلحة بيروت. بدورهم، شعر تجّار بيروت، الذين كانوا بأغلبيّتهم من المستوردين، بخطر منافسة الموانئ الأخرى لساحل الشرق المتوسط، بخاصّة ميناء حيفا الذي ازدهر تحت الانتداب البريطاني على فلسطين. بالتالي، حثوا السلطات الفرنسية على حماية ارتباط بيروت التجاري مع الداخل السوري وتحديث منشآت مرفئها وتوسيعه. أخذت السلطات الفرنسية هذا الموضوع بإيجابية استجابةً للمصالح الاقتصادية الفرنسية، وكسياسة لتخفيف استياء تجّار بيروت من منافسة أبناء جبل لبنان، أو الوافدين الجدد إلى المدينة، لهم.[3] بفضل هذه المشاريع الطموحة أثبتت بيروت نفسها كعاصمة ومرفأ تجاري. إلّا أنّ الرأسمالية الليبرالية التي أدخلها الانتداب، والتي تميّزت بانحيازها الديني والطبقي، لم تلغِ علاقات الزعامة والزبائنية التي سادت تحت الحكم العثماني بل وطّدتها. وبالتالي ساعدت في نشوء أوليغارشية مالية – اقتصادية تمكّنت بعد الاستقلال من التحكّم بالمصالح الاقتصادية للبلاد وفق منطقها واحتياجاتها.[4]

بعد الحرب الأهلية (1975-1990)، باتت الرغبة في استعادة دور وسط العاصمة وقدرته التنافسية على رأس أهداف مشروع إعادة إعماره وتطويره. فكما هو معلوم، تمّ تقسيم بيروت خلال الحرب إلى جزئين، شرقية وغربية. تحوّل وسطها التاريخي إلى جبهة قتال وتعرّض مثله مثل مناطق أخرى على خطوط التماس، لأضرار بالغة. تهجّر سكّانه وأقفلت شركاته وتوقّفت أنشطته وفقد دوره الاقتصادي والثقافي الوطني والإقليمي لصالح مراكز أخرى. عليه، ركّز خطاب القيّمين على المخطّط التصميمي للمشروع على أنّ إعادة إعمار وسط المدينة “ضرورة اقتصادية ومطلب عام كونه يوفّر أرضية للتفاعل الاجتماعي والسياسي بين اللبنانيين على أسس جغرافية محايدة”.[5] وأشادوا بأهمية التجديد الحضري لجعل هذا الوسط “مركزاً متعدّد الاستخدامات يعمل على مدار الساعة” ويتمتّع “بمساحات عامّة شاسعة ومفتوحة”، ممّا يعيد له دوره “كنقطة التقاء” في مدينة معروفة بالتعدّدية الدينية والاجتماعية.[6]

لا شكّ أنّ الجوانب المادية للمشروع، معطوفة على الأهمية الجغرافية والتاريخية لوسط بيروت وسياسات لبنان المالية والضريبية، أدّت الدور الأساسي في تسليعه وإبرازه بصورة استعراضية جذّابة للمستثمرين في القطاع العقاري. بالفعل نجحت سوليدير في بيع أكثر الأراضي المعدّة للتطوير. ومؤخراً، بعد انفجار أزمة لبنان المالية – الاقتصادية، باعت العديد من الأراضي التي كانت لا تزال في حوزتها ممّا سمح لها بتسديد قروضها من المصارف اللبنانية (ولن تبيع الأراضي القليلة المتبقّية معها كونها سدّدت كافة ديونها).[7]السؤال هنا، الذي طُرِح مراراً، هو: لمن هذه المدينة؟ مشروع سوليدير حتماً أعاد إنتاج جغرافيّات الانقسام المكاني والتمييز الاجتماعي. فالاستثمار في وسط بيروت أصبح حكراً على الأثرياء والمتموّلين وأغلبهم ممّن لا يعيشون في لبنان.

ليس من الممكن التوسّع هنا في السياق المؤسّسي والقانوني الذي أتاح إنتاج هذه الجغرافيّات الجديدة، لكن يجدر التذكير بارتباط نهج التخطيط العمراني الذي تبنّته الحكومة اللبنانية بعد الحرب بالنهج النيوليبرالي للتنمية الاقتصادية الذي انتشر في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي في الكثير من البلدان النامية بالتوازي مع برامج الإصلاحات الهيكلية التي حثّ عليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. بالدرجة الأولى، ركز هذا النهج الاقتصادي على خصخصة الخدمات العامّة وشجّع الشراكات بين القطاعين الخاص والعام في تنفيذ المشاريع الريادية المنتجة، على فرضية أنّ مؤسّسات الدولة ليست قادرة وأنّ قوى السوق هي الآلية الفعّالة التي تستطيع تلبية جميع احتياجات أفراد المجتمع.

في الواقع، أهملت حكومات بعد الحرب أهمية الإنماء المتوازن وضرورة وضع برنامج إنعاش وطني شامل وأولت انتباهها للقطاع العقاري والمصرفي والمشاريع الكبيرة (وسط بيروت، وتوسعة المطار، والمدينة الرياضية) التي تعيد موضعة بيروت على الخريطة الإقليمية، ظنّاً أنّ لبنان يمكنه استعادة دوره الخدماتي الوسيطي السابق بين البلدان العربية والأوروبية.[8] بالنسبة لوسط بيروت، عرضت حكومة رفيق الحريري الذي تولّى منصب رئيس الوزراء في 1992 ليقود عملية إعادة الإعمار، آلية إنشاء شركة عقارية باعتبارها الآلية الأفضل. رغم الاعتراض الشديد من قبل أصحاب الحقوق والكثير من المثقفين، أنشئت شركة سوليدير وقُدمت كشراكة بين القطاعين العام والخاص، إلّا أنّ اسمها ارتبط بالنسبة للكثيرين باسم الحريري ومصالحها بمصالحه. يفسّر ذلك، اللغط الكبير حول المشروع، بخاصّة أنّ سوليدير حصلت على عدد من الامتيازات بما فيها الإعفاء من الضرائب لمدة 10 سنوات بعد تأسيسها وحقوق تطوير الأرض المستصلحة من البحر.[9] ليست الطريقة التي استحوذت فيها الشركة على الأراضي أقلّ إثارة للجدل ولا الطريقة الانتقائية التي تعاملت فيها مع تاريخ المدينة وذاكرتها. المفارقة أنّه على الرّغم من الأموال الهائلة التي أنفقت على إعادة الإعمار بقي وسط المدينة بمعظمه فارغاً، أجوف، بلا سكان.

 

التخطيط الإقليمي والإنماء المتوازن

لم يكن تاريخ التخطيط العمراني لوسط بيروت مقتصراً على المشاريع الاستعراضية الكبرى ولم يكن دوماً معزولاً عن محيطه المادي والاجتماعي وعن السياق الحضري الأكبر لبيروت. فقد استوجبت كثافة بيروت السكانية المتزايدة في فترة الانتداب الفرنسي وبعد الاستقلال وضع المخطّطات لتوجيه نموّها. كان هناك أكثر من مخطط. الأبرز بينها هو المخطط المعتمد حالياً (رغم مرور الزمن عليه) والمعروف باسم مخطط إيكوشار، وهو المخطّط الثاني الذي وضعه إيكوشار لبيروت وضواحيها (بيروت الكبرى). وضع هذا المخطط في الفترة الشهابية (1958 ــ 1964) التي عرفت بالإصلاحات الإدارية والخطط الشاملة والتحسينات الكبيرة في البنية التحتية للنهوض بدولة الرفاهية والمؤسّسات والمواطنة. كذلك وُضعت في تلك الفترة التشريعات اللازمة للتخطيط العمراني والخطط الإنمائية بغية تحقيق التوازن المناطقي وتقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين بيروت وأطرافها، وأُنشئت المؤسّسات اللازمة لهذا.[10]

شكّل المسح الشامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الذي أجرته بعثة IRFED الفرنسية (1959-1964) برئاسة الأب لويس جوزف لوبريه، بشكل خاص إحدى الأسس الرئيسية لمشروع الرئيس شهاب التحديثي-التنموي على المستوى الوطني. ويعتبر هذا المسح والخطة السابقة التي وضعها المهندس اليوناني (Doxiadis (1957-1958 محاولتان رائدان للنظر إلى لبنان كوحدة جغرافية متكاملة – الدراسة الوحيدة اللاحقة التي تبنّت هذا المفهوم هي الخطة الشاملة لتنظيم الأراضي اللبنانية التي صدّقت بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء في حزيران 2009. لكن على الرّغم من الخطط والإصلاحات الشهابية، استمرّت الفوارق الكبيرة بين المركز والأطراف. ولم تنجح إصلاحات تلك الفترة في القضاء على نظام الزبائنية القائم ولا على إضعاف الأوليغارشية المالية – الاقتصادية التي أحكمت إرادتها على اقتصاد البلاد وتبوّأت مراكز سياسية وانخرطت في القطاع العقاري وتحكّمت بمسار التخطيط والإنماء الوطني والمناطقي.

بالنسبة إلى بيروت، شكّل مخطط إيكوشار (1963-1964) محاولة جدّية لربط نموّها وتطويرها بمخطّط إقليمي يشمل ضواحيها (من نهر الكلب إلى خلدة). حافظ إيكوشار في هذا المخطّط على الاقتراحات الأساسية التي ميّزت مخطّطه الأوّل (1942-1943) الذي لم يُوافق عليه، ومنها فكرة مدينتين جديدتين في بئر حسن والشياح لإزالة الاحتقان من مركز بيروت التاريخي المكتظ.[11] إضافة إلى هذا المخطّط، كُلف إيكوشار في 1961 بوضع مخطّط رئيسي لإنشاء مجمّعات إدارية كبيرة على تخوم وسط بيروت التاريخي، تحديداً في منطقتي الصيفي وغلغول. بالتالي، قدم إيكوشار  وفريق عمله في 1963 مخطّطاً هيكلياً متكاملاً اقترح فيه إنشاء مراكز مختلفة لبيروت الكبرى وشبكة طرقات سريعة تربط التكتّلات العمرانية المختلفة مع المراكز الحضرية المستحدثة. لكن مثل الخطط الشهابية لم تُطبّق جميع مقترحاته. فقد تمّت الموافقة على خطّته الثانية لبيروت الكبرى بعد أن أُجريت عليها تعديلات تخفّف من قيودها، وذلك إرضاءً للمطوّرين العقاريين الذين أرادوا ضوابط أقلّ صرامة ومساحات أكبر للاستغلال وكثافة عمرانية أعلى داخل المناطق الوسطية. المخطط الذي وضعه لمنطقتي الصيفي وغلغول لم يُصدّق. كذلك أطاحت الخطّة المعدّلة بالمدن الجديدة التي اقترحها، أي بالمفهوم الرئيسي لخطّته، ممّا دفعه إلى إعلان انسحابه من الخطة المنشورة رسمياً.[12]

في الواقع، حاول إيكوشار الذي كان معروفاً بالتزامه الاجتماعي واهتمامه بالإسكان العام ودفاعه عن الصالح العام ضدّ المصالح الخاصّة والرأسمالية الليبرالية التي قدّمها الانتداب، ترجمة التحوّلات الفكرية في مجال التخطيط العمراني التي شهدتها أوروبا في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي على أرض الواقع من خلال مخطّطاته.[13] لكن، رغم أنّه لم يغفل أهمّية التطوير العقاري والتنمية الاقتصادية للمناطق المحيطة بالمركز التاريخي لبيروت، ورغم استخدامه مفاهيم التصميم الحضري المعاصر ليتمكّن من تحقيق المساحة المبنيّة نفسها التي سمح بها قانون البناء آنذاك، ورغم سعيه إلى نوع من حلّ وسطي يراعي توقعات أصحاب الأراضي لحثّهم على قبول بعض أفكاره، لم يستطع تجاوز تحكّم المطوّرين العقاريين بالقرار.[14]

من المرجّح أنّ المخطّطات التي اقترحها إيكوشار، لو صُدّقت من دون تعديل، كانت ستجنّب بيروت الكثير من الفوضى العمرانية التي تتّصف بها اليوم. إلّا أنّ قدرتها على تحقيق الإنماء المتوازن والعدالة الاجتماعية وردع المضاربات العقارية ليس بالأمر الأكيد، إذ سرعان ما تمّ تسييس المؤسّسات الجديدة التي أنشئت في تلك الفترة لإدارة التخطيط العمراني والتنمية الحضرية وقلّلت الطائفية والمحسوبية من كفاءتها ومصداقيتها.[15] كذلك أدّت السياسة والطائفية دوراً علنياً في صياغة المخطّط الذي وضع خلال الحرب لبيروت الكبرى (1986). ومن المرجّح أنّ المعيار الرئيسي الذي اتّبعه هذا المخطط لتحديد حدود بيروت الكبرى كان تحقيق التوازن الديموغرافي بين المسيحيين والمسلمين في منطقة العاصمة.[16] في المحصّلة، نمت بيروت، باستثناء وسطها، بدون أي رؤية استراتيجية ممّا يفسّر زحفها العمراني غير المنضبط والتدمير التدريجي لنسيجها العمراني القائم واستبدلته بالأبراج الشاهقة.

 

بين الماضي والحاضر والمستقبل المنظور

أراد المخطّط التصميمي لوسط بيروت الذي تبنّته شركة سوليدير أن يفتح ساحة الشهداء على البحر متخيّلاً أنّها “ساحة احتفالية” و”مكاناً للشعب” ومساحة رمزية للبنان. تحقّق هذا الأمر بعد اغتيال الحريري في 14 شباط 2005، وفي أزمة النفايات التي اجتاحت شوارع بيروت وكافّة المناطق اللبنانية في صيف 2015، ومؤخراً في الانتفاضة الشعبية التي ابتدأت في 17 تشرين الأول 2019 (ثورة تشرين). لكن ما جمع الناس مجدّداً في هذه الساحة وشوارع وسط المدينة ومساحاتها الخالية لم يكن النشاط الاقتصادي أو الثقافي؛ بل المطالبة بالاستقلال الحقيقي للبنان، والتصدّي للفساد المستشري في الإدارات العامّة، والرفض للنظام السياسي الطائفي – الزبائني – التحاصُصي الذي ميّز لبنان منذ نشأته ونجح في سلب الناس أبسط حقوقهم. وسط بيروت هو اليوم ساحة احتجاجات للعديد من الأطراف والمجموعات. بعضها يعتبر ما تحوّل إليه بعد الحرب رمزاً لسياسات التنمية الاقتصادية النيوليبرالية المجحفة التي اتبعها لبنان منذ ثلاثة عقود.

كذلك بعد مجزرة مرفأ بيروت في 4 آب الفائت تعالت أصوات الكثيرين من أصحاب المباني التراثية في الأحياء المتضرّرة المحاذية لوسط بيروت رفضاً لبيع منازلهم لسماسرة العقارات وتحويل منطقتهم مستقبلاً إلى ما أسموه سوليدير 2 التي اعتبروها مثالاً على الاجحاف الاجتماعي. إلّا أنّ مستقبل هذه الأحياء، والمدينة عموماً، مرهون بالخيارات السياسية والاقتصادية التي يتّخذها لبنان. الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة، وانحسار فرص العمل الضئيلة أساساً، وانعدام الأمن الاجتماعي، والممارسات القمعية، والتضييق على الحرّيات، والانقسام السياسي، والتخوّف والتخويف من زعزعة الأمن القومي كلّها أمور ترجّح تفاقم التهجير والهجرة (القسرية)، الشرعية وغير الشرعية، من لبنان. وكما حصل في الحرب الأهلية من الجائز جداً أن يستغلّ تجّار العقارات الوضع ليراكموا ثرواتهم عن طريق نزع ممتلكات من هم بأمسّ الحاجة إلى السيولة وبأبخس الأثمان. عندها سوليدير2 وربما 3 و4، بتجليات مختلفة، قد لا تكون مجرّد تكهّنات.

مع انفجار مرفأ بيروت يعود أيضاً الصراع الإقليمي الاقتصادي – السياسي للسيطرة على شرق المتوسط إلى الواجهة.[17] ومع الحديث عن الدور الطليعي التي يتحضّر له مرفأ حيفا في فلسطين المحتلة، قد تكثر التساؤلات الوجيهة حول مستقبل مرفأ بيروت وأهمية تحديثه وإعادة ربطه بالمدينة. بلا شك، تحسين المرافق العامة وتجديد صورة المدينة مهم جداً لاستقطاب النشاط الاقتصادي والاستثمارات في زمن يتزايد عولمة وتنافسية. لكن السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم هو: وفق مصلحة من تتغيّر المدينة؟ من الواضح أنّه لا توجد رؤية إرشادية موحّدة. في أغلب الأحيان تختلف الرؤى وتتضارب المصالح وتسود آراء من هم في مواقع أقوى حتى لو كانت طموحاتهم ومصالحهم تتعارض مع اهتمامات الأكثرية من سكان المدينة. تحديث مركز بيروت التاريخي وربطه بالبحر في فترة الانتداب الفرنسي حسّن قيمة عقاراته وأسهم في وضع بيروت على الخريطة الإقليمية، لكن على حساب الكثيرين. ومشروع إعادة إعماره بعد حرب 1975-1990 جذب المتموّلين والذين آمنوا أنّ وسط العاصمة هو المكان الذي سيبرز نشاطهم. إلّا أنّهم أخطأوا التقدير. فالحركة الاقتصادية الخجولة التي عادت إليه، أيضاً على حساب الكثيرين، ما لبثت أن فارقته لتغدو بيروت مثالاً لمدينة بدون قلب.

بالخلاصة، هذا يعني أنّ توفير مرافق عامّة وبنى تحتية وأماكن حديثة وجميلة لا يكفي لجذب الاستثمارات والأنشطة. فمع تزايد المنافسة العالمية بين المدن، يبحث المستثمرون وأصحاب الاعمال أيضاً عن مواقع آمنة تضمن الاستقرار وتملك القدرة المؤسّسية لحلّ النزاعات وتقليل التوتّرات وتحقيق الاستدامة.[18] بالتالي، تعتمد قدرة التخطيط العمراني على تحريك عجلة الاقتصاد المحلّي على الإرادة السياسية والرغبة الحقيقية في بناء دولة قوية وقادرة على وضع وتطبيق نُهج تنموية متكاملة تراعي العدالة الاجتماعية والبيئية وتقلّص الفوارق المكانية والانقسامات والتفاوتات الاجتماعية المتنامية. بدأ لبنان هذا المسار في زمن الرئيس فؤاد شهاب واستكماله مطلوب اليوم أكثر من أيّ وقت مضى. من غير ذلك، ستكون تداعيات الأزمة الرّاهنة خطيرة بالتأكيد. وأكثر من أيّ شيء، تعتبر مفاهيم الدولة والمواطنة، على المستويين الوطني والمُدني، على المحكّ.

 

 

 

[1] Saliba, Robert. 2003. Beirut City Center Recovery: The Foch-Allenby and Etoile Conservation Area. Steidl, Gottingen.

[2] Buheiry, Marwan. 1986. “Beirut’s Role in the Political Economy of the French Mandate: 1919-39”. Centre for Lebanese Studies, Oxford. 

[3]   المرجع أعلاه.

[4] Traboulsi. Fawwaz. 2007. A History of Modern Lebanon. Pluto Press, London.

[5] Kabbani, Oussama. 1998. “Public Space as Infrastructure: The Case of the Postwar Reconstruction of Beirut”. In Rowe, P. and Sarkis, H. (eds), Projecting Beirut: Episodes in the Construction and Reconstruction of a Modern City. Prestel, Munich

[6] Gavin, Angus. 1998. “Heart of Beirut: Making the Master Plan for the Renewal of the Central District”. In Rowe, P. and Sarkis, H. (eds). 

[7] Sunniva, Rose. “Lebanon’s real estate sector booming despite financial crisis”. The National. July 1, 2020.

[8]  “الاقتصاد اللبناني: معالم الأزمة، ملامح الحل”، جورج قرم، 2004، مجلة الدفاع الوطني، العدد 47 (كانون الثاني).

[9]  النظام الأساسي، الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط مدينة بيروت.

[10] أنشأت مديرية التنظيم المدني في وزارة الأشغال (1959) والمجلس الأعلى للتنظيم المدني (1963). وقبل هذه الفترة كانت قد أُنشأت وزارة التصميم (1954) ثم أُلغيت خلال الحرب وحلّ محلّها مجلس الانماء والإعمار (1977).

[11]Ghorayeb, Marlene. 1998. “The Work and Influence of Michel Ecochard in Lebanon”. In Rowe, P. and Sarkis, H. (eds).  

[12]Salam, Assem. 1998. “The Role of Government in Shaping the Built Environment”. In Rowe, P. and Sarkis, H. (eds).

[13]Ghorayeb, Marlene. 1998. In Rowe, P. and Sarkis, H. (eds).  

[14]Verdeil, Eric. 2004. “Methodological and Political Issues in the Lebanese Planning Experiences”. In Harb, M. (ed.), The Lebanese National Master Plan, City Debates 2003 Proceedings, American University of Beirut.

[15] Salam, Assem. 1998. In Rowe, P. and Sarkis, H. (eds).

[16] Sarkis, Hashim. 1998. “Dances with Margaret Mead: Planning Beirut since 1958”. In Rowe, P. and Sarkis, H. (eds).

[17] زياد غصن. “مرفأ طرطوس وبيروت وسكة بغداد: تجارة شرق المتوسط إلى حضن إسرائيل؟”. جريدة الاخبار، 25 آب 2020.

[18] Healey, Patsy. 1997. Collaborative Planning: Shaping Places in Fragmented Societies, Macmillan Press Ltd, New York.

 

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، الحق في السكن ، لبنان ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني