وزير يتمرّد على قرارٍ قضائيّ: هذا المطار لي


2016-09-01    |   

وزير يتمرّد على قرارٍ قضائيّ: هذا المطار لي

برزت في الفترة الأخيرة قضية المزايدة التي أجرتها وزارة الأشغال العامّة والنقل في “مطار رفيق الحريري الدوليّ” في بيروت، لتلزيم مواقف المطار. فبعد انتهاء عقد “شركة المرافق اللبنانية” المملوكة من آل الخرافي في أواخر حزيران الماضي، أجرت إدارة المناقصات مزايدتين متلاحقتين: الأولى، ربحت فيها شركة Parking ControlVIPلتعود وتخسر في الثانية أمام شركة تابعة لمجموعة الخرافي (أدناه “شركة الخرافي”). إذ ذاك، اعترضت VIPعلى الأولى. فتقدمت هذه الأخيرة بطعن أمام مجلس شورى الدولة الذي أصدر قراراً لمصلحتها. إمتنع وزير الأشغال غازي زعيتر عن تنفيذ القرار، وذهب حدّ الطعن في مشروعية مضمونه. إزاء ذلك، خرج رئيس مجلس شورى الدولة شكري صادر إلى الإعلام ليستهجن تمرّد الوزير على الأحكام القضائية وامتناعه عن تنفيذها.
بالنظر إلى أهمية هذه الوقائع، نستعيد في هذا المقال مجريات المزايدة، متناولين كيفية تغطية الإعلام لها. كما نعود إلى حادثة مماثلة في العام 2011 محاولين إظهار التداعيات التي تتكبدها الدولة جرّاء امتناعها عن تنفيذ القرارات القضائيّة.

“شورى الدولة” يبطل المزايدة
حددت وزارة الأشغال والمديريّة العامة للطيران المدنيّ موعد تلزيم مواقف السيارات في المطار في 19 نيسان الماضي. وكانت مدة العقد السابق بين الدولة اللبنانية و”شركة المرافق اللبنانية” لبناء مواقف السيارات في المطار وتشغيلها قد إنتهت (15 سنة) في آخر يوم من حزيران 2016.
بناءً عليه، عقدت لجنة تلزيم “مزايدة إدارة واستثمار مواقف السيارات في مطار بيروت الدولي” جلسة في 18 أيار الماضي خصّصتها لفضّ عروض ستّ شركات، من بينها شركتي VIPوشركة الخرافي. فازت شركة VIP، وقيل حينها أن المزايدة فصّلت على قياس الشركة لاسيما بعدما أدخل عليها بندٌ وصف بالتعجيزي، يشترط على الشركات إمتلاك خبرةٍ دوليّةٍ في إدارة مواقف السيارات في المطارات.
لكن، سرعان ما ألغت إدارة المناقصات نتيجة المزايدة ودعت إلى إجراء مزايدةٍ جديدةٍ بحجة أن “المناقصة فيها عيبٌ جوهريّ لعدم توفّر المنافسة الكاملة”. على أساسه، إتخذت وزارة الأشغال قرارها بـ”إدخال التعديلات اللازمة التي أوصت بها إدارة المناقصات، وذلك توخياً للمزيد من الدقة والوضوح والمنافسة والشفافية[1]“. عدّلت وزارة الأشغال دفتر الشروط، وحدّدت الرابع من تموز 2016 موعداً لإجراء المزايدةالجديدة.أوحى هذا القرار بأن الوزارة تبنّت هذه الإستراتيجية لضمان فوز “شركة الخرافي”، ولإقصاء الشركات الأخرى عن المنافسة. وبالفعل، تمكّنت هذه الشركة وحدها من الحصول على 100% من العلامة الفنيّة، فيما كان سعرها ثاني أعلى سعر بين الشركات المتنافسة. لجأت شركة VIPحينها إلى القضاء، فقدّمت مراجعة عجلة أمام مجلس شورى الدولة في 29 حزيران لتعديل دفتر الشروط وتعليق جلسة فضّ العروض. فأصدر مجلس شورى الدولة قراراً قضى بإلغاء المزايدة. اعتبر مجلس شورى الدولة في قراره أن التعديلات التي أدخلتها إدارة المناقصات على دفتر الشروط لا تحقّق شرطَيّ المنافسة والمساواة بين الشركات المشاركة في المزايدة. فأجبر الإدارة على وضع دفتر شروط جديد يحترم الشروط المنصوص عليها تمهيداً لإعادة إجراء المزايدة.

إدارة المناقصات لم تكترث للقرار القضائيّ، فأجرت المزايدة وأعلنت فوز “شركة الخرافي”. حجّة وزارة الأشغال أنها لم تتبلغ بالطعن قبل موعد اجراء المزايدة. فيما أكدّ رئيس مجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر أن قرار المجلس صدر قبل إجراء المزايدة الجديدة، “ونزلنا خصيصاً إلى العدلية لتبليغ القرار، ما يعني أن إجراء المزايدة هو مخالفة للقرار القضائي[2]“.
في المقابل، صرّح رئيس لجنة المناقصات الدكتور جان العلية في حديث للـ “أل. بي. سي.” أن إدارة المناقصات لم تتبلغ الحكم القضائيّ من أيّ مرجع: “وبالرغم من ذلك، تريّثت وعلقت المزايدة حتى أتبلغ بالقرار. وتواصلت مع وزير الأشغال. هذا الأخير أبلغني أن الوزارة لم تتبلغ وطلب السير بالمزايدة وأرسل كتاباً خطياً يطلب بموجبه ذلك[3]“. يستشف من هذا الكلام أن المعنيين كانوا على اطلاع بوجود قرار بإلغاء المزايدة، بمعزل عما إذا كانوا تبلغوا به رسمياً أم لا، ورغم ذلك قرّروا تجاوز مضمونه.

في 2 تموز 2016، تقدّم زعيتر بطلب إستئناف القرار الصادر عن مجلس شورى الدولة. لكن الوزارة لم تنتظر البتّ في الإستئناف، إنما أرسلت الملف إلى ديوان المحاسبة للحصول على موافقته في منح التلزيم لـ”شركة الخرافي”، في تحدٍّ واضح لقرار مجلس الشورى. وفي 20 تموز، ردّ مجلس شورى الدولة الإستئناف. وتاليا، أصبح القرار الصادر عن قاضي العجلة لدى المجلس مبرماً، ما يوجب إبطال النتائج المرفقة بالملف المرفوع إلى ديوان المحاسبة. وقد نقلت جريدة “الأخبار” عن مجلس شورى الدولة أنه “بات لزاماً على ديوان المحاسبة أن يدرس الملف في ضوء قرار المجلس، وأن يرفض منح وزارة الأشغال الموافقة المسبقة على التلزيم[4]“. في المقابل، نقلت جريدة “الأخبار” مقاربة قانونية مختلفة عن مصادر في ديوان المحاسبة، تعتبر أن “القرار القضائيّ الصادر عن قضاء العجلة في مجلس شورى الدولة، سطا على صلاحيات ديوان المحاسبة الذي يفترض أن يكون صاحب الإختصاص ريثما يتم إنشاء المحاكم الإدارية في المناطق”. وقد استندت هذه المصادر على البند الخامس من المادة 66[5] من نظام مجلس شورى الدولة، الذي يمنح لرؤساء المحاكم الإدارية في المناطق أو من ينتدبونهم صلاحية النظر في “حال الإخلال بموجبات الإعلان وتوفير المنافسة، التي تخضع لها الصفقات العمومية والاتفاقات المتعلقة بإدارة المرفق العام[6]“. إلا أن هذه الحجة تخالف الإتجاه المعمول به لدى مجلس شورى الدولة، حيث عمد المجلس منذ صدور قانون إنشاء المحاكم الإدارية في العام 2000 لممارسة صلاحياتها إلى حين إنشائها[7].

وعليه، تحوّلت القضية من تجاهل وزارة الأشغال للقرارات القضائية إلى نقاش حول صلاحيات مجلس الشورى وديوان المحاسبة للبتّ في هذا الملف. وتمكنت الوزارة بالتالي من إحداث بلبلة قانونية حول هذه القضية، ما دفع رئيس مجلس الشورى إلى الخروج على الإعلام مرتين لتوضيح ملابسات القضية وتحذير السلطة التنفيذية من عدم تنفيذ القرارات القضائية.

صادر يدافع عن قرارات المجلس، وزعيتر يردّ
يعدّ لجوء صادر إلى الإعلام أمراً إستثنائياً، بالنظر إلى فهم القضاء اللبنانيّ لموجب التحفّظ، الذي يُثني القضاة غالباً عن الإدلاء بتصاريح إلى الوسائل الإعلامية وفي المنابر العامة، وإن كانت في معرض الدفاع عن قرارٍ قضائيّ وعن مصلحة القضاء. لكن، رغم ذلك، اختار صادر الدفاع عن السلطة القضائيّة من خلال المنبر الذي يلجأ إليه السياسيون عادةً لإنتقاد القضاء عندما يصدر أحكاماً تتعارض مع مصالحهم. أطلّ صادر في الإعلام للمرة الأولى في 7 تموز، عقب إعلان زعيتر عن فوز “شركة الخرافي”. حذّر صادر من الإستمرار في تجاوز قرارات مجلس الشورى وأحكامه، في مقابلةٍ عرضتها قناة “أل.بي.سي.” ضمن نشرة أخبارها المسائية. و أكدّ صادر، مرةً أخرى، أن المزايدة التي أجريت في 4 تموز “صارت خلافاً لقرار قضائي كان قد أبطلها سابقاً. وكانت هيئة القضايا قد أبلغت بأن هذه المزايدة أبطلت[8]“. واعتبر أن الدولة أصبحت تتعمّد تجاهل قرارات الشورى “لأن ما في حسيب ولا رقيب”. لكنه في الوقت عينه، حذر من تداعيات الإمتناع عن تطبيق هذه القرارات، لاسيما أنها ترتب على الدولة دفع تعويضات كبيرة للشركات المتضرّرة، ما يؤدي إلى مزيد من الإضرار بحقوق المواطنين. “وقت اللي بدك تحكمي على الإدارة بالتعويض، عم يندفع من جيبة كلّ مواطن. لماذا يجب على المواطن أن يدفع ثمن عدم تنفيذ وزير لقرارات الشورى؟[9]“. فالتعويضات تنشأ إما بالغرامات التي تفرض على الدولة أو بتعويضات جديدة كما حصل في ملف شركة Imperial Jet. وهنا، يجدر التذكير بأن صادر كان قد خرج إلى الإعلام في 2015 على خلفية الأضرار الحاصلة من جرّاء عدم تنفيذ الأحكام الصادرة في هذه القضية. حينها، امتنع وزير الأشغال العامة والنقل السابق غازي العريضي عن تنفيذ الحكم القاضي بإبطال قراره بسحب تراخيص الطيران من الشركة المعنية، فلجأـت الشركة المذكورة في 2014 إلى التحكيم الدوليّ مطالبة بمبلغ ملياري دولار أميركي[10]. فأوضح القاضي صادر في مقابلة مع قناة “أم.تي.في”[11] أن المبلغ قد ترتب ليس نتيجة قرار المجلس إنما نتيجة عدم إحترام هذا القرار. فلو تمّ تنفيذ القرار بوقف تنفيذ سحب الترخيص في 2009، لما تمكّنت الشركة من إثبات الضرر المطالب به في الدعوى التحكيمية. وأشير لاحقاً إلى مشروع تسوية يقضي بأن تدفع الدولة 148 مليون دولار كتعويض، بينما تستعيد الشركة حقها في العمل.

وبالعودة إلى قضية مواقف المطار، لم يتأخر زعيتر بالردّ على صادر في مقابلةٍ مع القناة نفسها في 11 تموز، أيّ بعد تقدّمه بطلب إستئناف قرار المجلس. استغرب زعيتر قرار المجلس بإلغاء المزايدة و”حضور القاضي يوم سبت لإصدار القرار”. وقد فات الوزير أن السبت يوم عملٍ عاديّ، والناس عادةً تشكو البطء في عمل المحاكم، لا السرعة في بتّ الملفات. كما استهجن زعيتر خروج رئيس مجلس الشورى على الإعلام قبل البتّ النهائي بالملف. واعتبر أنه لا يمكن للقاضي “اللي بيكون الحكم والحاكم” أن يلجأ إلى الإعلام ويعطي رأيه قبل الإنتهاء من البتّ ومناقشة هذا الموضوع بين الطرفين المتنازعين. كما اعتمد الوزير على تفسيره الخاص للمادة 66 الفقرة 5 من نظام مجلس شورى الدولة: “مجلس شورى الدولة نظر في الإستدعاء على أساس قاضي عجلة. وهذه ليست من صلاحياتهم. المادة 66 الفقرة 5 نصّت على إمكانية مراجعة رئيس المحكمة الإدارية أو من ينتدبه رئيس المحكمة. أنا اللي حكم عليي مبارح وحكي بالإعلام، نفسه بده يرجع يبتّ بالإستئناف. هل يعقل هذا؟[12]“. وبالتالي، نقل زعيتر النقاش مرة أخرى من إمتناع السلطة التنفيذية عن تطبيق أحكام القضاء إلى إعادة تفسير صلاحياته والتشكيك بأحكامه. وختم زعيتر المقابلة بدعوة صادر إلى التنحّي عن الملف. نسي الوزير أن الملف لم يكن في يد صادر، وأن هذا الأخير تناوله في الإعلام دفاعاً عن صلاحيات المؤسّسة القضائية، وبعدما أدرك أن قرارات مجلس الشورى بات ضربها عرض الحائط.
عاد صادر مرة أخرى للظهور على “أل.بي.سي.” في 23 تموز بعدما أصدر مجلس الشورى قراراً بردّ الإستئناف المقدّم من وزارة النقل والأشغال العامّة. ذكر صادر أن نسبة “20 إلى 25% من قرارات مجلس شورى الدولة لا تنفذ من قبل الوزراء”. ونبّه إلى أن المادة 93[13] من نظام مجلس الشورى تنصّ على إلزامية أحكامه. وأكّد أن تفسير زعيتر للمادة 66 خاص، وأن “مجلس شورى الدولة هو المرجع الإداريّ الأول والأخير. فقرارات التفتيش المركزيّ يتمّ تمييزها في مجلس شورى الدولة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى نقض قرارات ديوان المحاسبة[14]“، في إشارةٍ واضحة إلى عدم صلاحية ديوان المحاسبة البتّ في الملف.

بعدها، توالت الملفات المتعلقة بإدارة المطار في الإعلام. فبعد مزايدة مواقف المطار، كشف الإعلام أن زعيتر عمد إلى نقل موظفين في الإدارة لمجرّد معارضتهم قراراته. كما تطرّقت وسائل إعلامية إلى إرتفاع الأسعار في مطاعم المطار. عندها، عقد وزير الأشغال مؤتمراً صحافيّاً في 17 آب للردّ على ما اعتبره حملة “من التضليل وتشويه الحقائق” في الإعلام. وخصّص النصف الأول من كلمته للردّ على رئيس مجلس الشورى من دون أن يسمّيه.
اعتبر زعيتر أن ما يقال عن عدم تنفيذه القرارات القضائية يأتي في إطار “الزعم” و”الإفتراء”. ورأى أن مشكلته “ليست مع العدل، بل مع بعض الذين يظنون أنهم رجاله”. قدّم زعيتر نفسه على أنه الوزير الأول الذي يطلب إستشارة مجلس شورى الدولة في دفاتر شروط المزايدات أو المناقصات. قال أنه كان يطلب رأي مجلس الشورى في القضايا التنظيمية “إلتزاماً بالأحكام المرعية الإجراء بهذا الخصوص”، وأكمل: “المفارقة هنا عندما يصدر الرأي الإستشاري بالموافقة على مشروع القرار، ثم يطعن به ويقضى بإبطاله بالرغم من الموافقة المسبقة عليه، فما هي الجدوى إذاً من عرض مشروع القرار وطلب الرأي الإستشاري؟”. بالطبع، كلام الوزير هنا يتعارض مع ممارسة قانونيّة مزمنة مفادها أن مجلس شورى الدولة حين يحكم كقضاء، لا يكون ملزماً بآرائه الإستشارية. وهذا أمرٌ بديهي طالما أن الآراء الإستشاريّة تعطى بغياب الفرقاء المعنيين بالمزايدة وبمعزل عنهم، فلا تكون ملزمة لهم.

رأى زعيتر في ما يتعلق بمزايدة المواقف في المطار أن ما طرحته وسائل الإعلام مغايرٌ للحقيقة. فعاد بالتفاصيل إلى الوقائع التي تلت جلسة المزايدة الأولى، ليوضح أن رئيس إدارة المناقصات وجّه في 20 أيار الماضي كتاباً خلص فيه إلى أن “عنصر المنافسة لم يكن متوفراً في جلسة المزايدة، وأن إجراءات المزايدة خالفت قواعد المنافسة التي تحكم الصفقات العمومية، وهي مشوبة بعيوبٍ جوهرية لا يمكن التغاضي عنها”. بقيت شركةٌ واحدة في هذه المزايدة. فحتى لو لم تشبها عيوبٌ لهذه المزايدة، لمّا تبقى فيها شركةٌ واحدة، يتوجّب على الإدارة تلقائياً إعادة إجراء المزايدة. فكيف إذاً وردني كتاب من الإدارة المعنية بهذه المزايدة لإعادة المزايدة؟”. واعتبر أنّ “عيوباً كثيرة شابت القرار الصادر عن قاضي العجلة في 2 تموز 2016، وقد قمنا بالردّ عليها. العيوب إن كان من جهة الإختصاص أو لجهة الوقائع غير الصحيحة التي وردت في هذا القرار”. لم يخفِ زعيتر امتعاضه من لجوء القاضي صادر إلى الإعلام وانتقاده له كونه لم ينفذ قرار مجلس الشورى: “أحد القضاة أعطى رأيه المسبق أمام الوسائل الإعلامية. المعني مباشرةً بالملف تطرّق للقضية قبل البتّ بها. مع أن وزارة الاشغال كانت لا تزال تتبادل اللوائح مع مجلس شورى الدولة. وإذ ظهر أحدهم على الإعلام وقال أنه ممنوع مناقشة قرار قضائي. أنا أتأسف أن يتمّ التطرق في الإعلام إلى ملف أمام القضاء قبل أن يتمّ البتّ به”. غاب عن زعيتر مرة أخرى بأن مجلس الشورى كان قد بتّ بالملف، ووزارة الأشغال امتنعت عن تنفيذه. وهو، بناءً على ذلك، أخلّ بتنفيذ قرار السلطة القضائيّة.
أكّد زعيتر أن القضية قد أضحت برمتها أمام ديوان المحاسبة: “القضاء الذي هو الإدارة يتمتع في مكانٍ ما بسلطة إستنسابٍ أمام الوزارة في القضايا التي لديها طابع فني وتقني، وتخرج تالياً عن رقابة القاضي الإداري. ولكن، في مكان آخر، لا تتمتع تلك الإدارة بسلطة استنساب في القضايا عينها، وتخضع بالتالي لرقابة القاضي الإداريّ[15]“.أصرّ زعيتر إذاً على نقل الكرة إلى ديوان المحاسبة، وفق تفسيره للقانون، متجاهلاً مرة أخرى قرار مجلس شورى الدولة. فالردود التقنية هي في النهاية مجرّد تمرّد على القرار القضائيّ.
توقفت الأمور عند هذا الحدّ بين الطرفين حتى كتابة هذا المقال. لكن تناول ملف مزايدة مواقف المطار بقيَ يشغل الإعلام، المنهمك بمتابعة ملفات الفساد.

المقاربة الإعلاميّة للقضية:
مواجهاتٌ إعلاميّة استلزمت قراراً قضائيّاً.. فطُبّق!
أولت بعض وسائل الإعلام المرئية أهميةً للقضية، معتبرة أنها فصلٌ آخر من فصول قضايا الفساد التي تتوالى على حكومة الرئيس تمام سلام. وضعت هذه الوسائل المسألة في هذا الإطار، فركّزت على الشركات المعنيّة في القضية، خلفياتها وارتباطاتها السياسيّة. وباستثناء مقاربة الـ”أل.بي.سي.”، وردت إشكالية عدم تنفيذ القرارات القضائية عرَضاً من باب إثبات فداحة الفساد، من دون أن تشكّل إشكالية مستقلة بحدّ ذاتها. فقد استضافت هذه المحطة رئيس الشورى مرتين في تقاريرها، لإعطائه حق الردّ وشرح خطورة ما يحصل. لكنها لم تنقل النقاش إلى مبدأ استقلالية القضاء وإلى تجاهل القضاء كسلطة ثالثة. وبقيَ تركيزها الأساسيّ على الفساد في المزايدات لضمان فوز الشركات التابعة أو المقرّبة من السلطة. فاعتبر إدمون ساسين في تقرير في 4 تموز أنه “تمّ دوس قرار مجلس شورى الدولة وهيبة القرار الإداريّ[16]“، فيما سألت القناة في مقدمة نشرتها في 7 تموز عن التجاوز للقضاء: “فكيف لهذا الوزير (الأشغال) أن يحرص على القانون، ويدير المؤتمرات الصحافية حماية له في قضية شاطئ الرملة البيضاء، وعلى بعد كيلومترات معدودة تتبدل المعايير، فيتغاضى عن تطبيق القانون؟ إلى أي مدى سيبقى القانون مستباحاً؟”[17].

من جهتها، خصصت قناة “الجديد” مساحة في نشراتها الإخبارية للملف من زاويته السياسية، فأشارت إلى العلاقة التي تربط الخرافي برئيس مجلس النواب نبيه برّي. واعتبرت أن هذا الأخير جنّد وزير الأشغال، المحسوب على فريقه السياسيّ، لتأمين فوز الخرافي بالمزايدة: “هذه هي حقيقة مواقف مطار بيروت التي يسعى برّي إلى تلزيمها لشركة خرافية تشغل تلفزيون NBN. وهذه هي الدولة التي لا يهزّها قرار مجلس شورى ولا الأسعار الباهظة للباركينغ”. كانت هذه الجملة من مقدمة أخبار “الجديد” في 23 تموز، كفيلة بإشعال مواجهة بينها وبين قناة NBN، التي ردّت في اليوم التالي على “الجديد”. فهاجمت في مقدمة أخبارها مالك “الجديد” تحسين الخياط من دون أن تتطرّق إلى قضية مواقف المطار والإتهامات الموجهة إلى الوزير زعيتر بمخالفة القرار القضائيّ. جلّ ما فعلته القناة هو ربط الموضوع بالدفاع عن كرامة برّي، فتحوّل النقاش إلى جدال شخصيّ عنيف على حساب القضية العامة.

دافعت “الجديد” في اليوم التالي عن حقّها في المساءلة وعن واجبها في التحرّك عندما تتأثر المسائل العامّة بالمصالح الخاصة. واعتبرت أن برّي أعطى أمراً بتحويل الـNBNإلى منبر للتهجّم على الخياط. واحتدمت الأمور بين المحطتين ما دفع قاضية الأمور المستعجلة في بيروت زلفا الحسن إلى إصدار قرارٍ في 5 آب يمنع “الجديد” من “الإساءة الى شخص برّي وعائلته وحركة أمل وشركة الشبكة الوطنية للإرسال (NBN)”. كما نصّ القرار على منع NBNمن “الإساءة والتعرّض لقناة الجديد وصاحبها تحسين الخياط”. ونصّ القرار على إجبار المخالف بدفع مخالفة قيمتها 50 مليون ليرة لبنانية. أوردت “الجديد” في نشرتها في 12 آب تقريراً عن “الجامعة اللبنانية” زجت فيه برّي وعقيلته، فتحركت NBNوطالبت القضاء بـ”تطبيق قراراته النافذة وإحقاق الحق ومنع أي كان من إعتبار نفسه فوق القوانين والقرارات القضائية”. في هذه الحالة، بدت قرارات القضاء مبرمة ويقتضي تطبيقها لصون كرامة الزعماء. أما قضايا المال العام وما قد يشوبه من مخالفات فلا ضير من إهمالها.
واللافت أن قناة MTVلم تتطرّق إلى قضية مزايدة مواقف المطار، بل دخلت على خط المواجهة للدفاع عن NBN. فالقضية التي يشوبها أكثر من خلل لم تسترعِ اهتمام MTVإلا عندما وجدت فيها مساحة لتصفية حسابات خاصة مع “الجديد”.
أما في الإعلام المكتوب فقد تابعت جريدة “الأخبار” مجريات القضية عن كثب، فكشفت عن الخلل الذي شاب المزايدات الأولى والثانية. وكانت “الأخبار” الأولى في تطرّقها إلى العلاقة بين برّي والخرافي وتدخّل رئيس مجلس النواب شخصياً في القضية لإعادة إجراء المزايدة. كما تناولت القضية من الجانب القانوني، فنقلت وجهات نظر كلّ من مجلس شورى الدولة وديوان المحاسبة من خلال مصادر في المؤسستين. وانتقدت الصحيفة عدم تنفيذ القرارات القضائية، وحذرت من نتائجها لكنها لم تضع القضية في سياق التدخل المستمر في عمل القضاء وعدم احترام إستقلاليته كسلطة ثالثة.

نشرت هذه المقالة في العدد |42|آب/أغسطس 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :

وزير يتمرّد على قرارٍ قضائيّ: هذا المطار لي



[1] هادي الأمين. في موقف المطار: شورى الدولة يقرر…ووزير الأشغال يخالف. نشرة أخبار الجديد، 12 تموز 2016
[2] ايفا الشوفي. الصراع على مواقف المطار: وزارة الأشغال تكسر قرار القضاء. جريدة الأخبار، 5 تموز 2016
[3] ادمون ساسين. خرافة مزايدة مواقف المطار ترسو مجدداً على الخرافي. نشرة أخبار أل.بي.سي. 4 تموز 2016
[4] محمد وهبه. وزارة الأشغال تضع ديوان المحاسبة في وجه مجلس الشورى. جريدة الأخبار، 23 تموز 2016
[5] المادة 66معدلةوفقا للمرسوم 259 تاريخ 6/10/1993 والقانون رقم 227 الصادر في 31/5/2000
خامسا – يمكن مراجعة رئيس المحكمة الادارية او من ينتدبه في حال الاخلال بموجبات الاعلان وتوفير المنافسة التي تخضع لها الصفقات العمومية والاتفاقات المتعلقة بإدارة المرفق العام بموجبات.
ان الاشخاص المؤهلين للادعاء هم ذوو المصلحة لإبرام العقد والذين يمكن ان يتضرروا من هذا الاخلال، وكذلك ممثل الدولة في الادارة المعنية حيث ابرام العقد او يجب ان يبرم من قبل بلدية او مؤسسة عامة.
يمكن مراجعة رئيس المحكمة الادارية قبل ابرام العقد وله ان يأمر المخل بالتقيد بموجباته وان يعلق توقيع العقد او تنفيذ كل قرار متعلق به ويمكنه ايضا ابطال هذه القرارات ومحو البنود المعدة لكي تدرج في العقد والتي تخالف الموجبات المذكورة. ينظر رئيس المحكمة الادارية او من ينتدبه وفقا للأصول المستعجلة.
يمنح الخصوم من تاريخ تبلغ الطلب مهلة تتراوح بين أربع وعشرين ساعة واسبوع للجواب على طلب صاحب العلاقة.
يقبل قرار رئيس المحكمة الادارية او من ينتدبه الاستئناف امام مجلس شورى الدولة خلال مهلة اسبوع من تاريخ التبليغ وينظر مجلس شورى الدولة بالاستئناف بالطريقة عينها.
[6] محمد وهبه. المرجع المذكور أعلاه.
[7]عن إنشاء هذه المحاكم، يراجع إلهام برجس. قضية المحاكم الإدارية في المناطق: أخطاء الماضي تضعنا أمام الأمر الواقع؟، المفكرة القانونية، العدد 37، آذار 2016.
[8] هدى شديد. بماذا يرد القاضي شكري صادر على مزايدة مواقف المطار؟ نشرة أخبار أل.بي.سي. 7 تموز 2016
[9] هدى شديد. المرجع المذكور أعلاه.
[10] سلوى بعلبكي. حقيقة الأزمة بين “أمبريال جت” والطيران المدني: قرار باقصائها و”الشورى” أنصفها. جريدة النهار، 1 حزيران 2015
[11] نخلة عضيمي. قضية Imperial Jet. نشرة أخبار ال أم.تي.في. 2 تموز 2015
[12] هدى شديد. مزايدات المطار ضائعة بين الرد والرد المضاد. نشرة اخبار ال ال.بي.سي. 11 تموز 2016
http://bit.ly/2aZyAFt
[13] المادة 93- أحكام مجلس شورى الدولة ملزمة للادارة، وعلى السلطات الادارية أن تتقيد بالحالات القانونية كما وصفتها هذه الاحكام.
على الشخص المعنوي من القانون العام أن ينفذ في مهلة معقولة الاحكام المبرمة الصادرة عن مجلس شورى الدولة تحت طائلة المسؤولية وإذا تأخر عن التنفيذ من دون سبب، يمكن بناء على طلب المتضرر الحكم بإلزامه بدفع غرامة اكراهية يقدرها مجلس شورى الدولة وتبقى سارية لغاية تنفيذ الحكم.
كل موظف يستعمل سلطته أو نفوذه مباشرة أو غير مباشرة ليعيق أو يؤخر تنفيذ القرار القضائي المذكور في الفقرة السابقة يغرم أمام ديوان المحاسبة بما لا يقل عن راتب ثلاثة أشهر ولا يزيد عن راتب ستة أشهر.
[14] هدى شديد. مجلس الشورى يردّ الكرة إلى وزارة الأشغال. نشرة أخبار أل.بي.سي. 23 تموز 2016
http://bit.ly/2arwzpS
[15] مؤتمر صحفي لوزير النقل والأشغال العامة غازي زعيتر. 17 آب 2016.
[16] ادمون ساسين. خرافة مزايدة مواقف المطارترسو مجدداً على الخرافي. نشرة أخبار أل.بي.سي. 4 تموز 2016
http://bit.ly/2apknSC
[17] مقدمة نشرة أخبار أل.بي.سي. 7 تموز 2016
انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني