هل يشكّل ادعاء الطفل ضد المعتدين عليه جزءاً من العلاج؟


2014-05-06    |   

هل يشكّل ادعاء الطفل ضد المعتدين عليه جزءاً من العلاج؟

تتمّ مواجهة العديد من حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال في معرض ممارسة اختصاصيي العلاج النفسي مهنتهم في لبنان، الأمر الذي يؤكد عملياً شيوع هذه الظاهرة.تشير التقديرات في الدراسات السكانية التي جرت في الغرب إلى أن نسبة الاعتداء الجنسي على الأطفال تتراوح بين 27 و38% للفتيات و11% للفتيان الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً [1]. أما في لبنانوالدول العربية، فتبقى المعلومات بهذا الشأن نادرة وهي تميل عند وجودها الى التخفيف من انتشار الظاهرة[2].

وأبرز ما يميّز الاعتداء الجنسي على الأطفال هو طبيعته السرية والإنكار المتكرر للاعتداء من قبل المعتدي والشعور بالذنب ولوم الذات اللذان ينتابان الضحية [3]. فلهذه العوامل دور مركزي في عملية الاعتداء وما بعدها، وهي تسهم في انخفاض معدلات الملاحقة القضائية والإدانة، على الرغم من ارتفاع معدلات الاعتداء الجنسي على الأطفال كما يبدو من الممارسة في عيادات العلاج النفسي [3]. ويمكن تفسير سبب التشكيك في شيوع هذه الظاهرة وإزاء أي محاولة للكشف أو البوح بها بالمحرمات الاجتماعية ووصمة العار التي تحيط ضحايا الاعتداء الجنسي من الأطفال، فضلاً عن غياب الشهود على مثل هذا العمل السري، الأمر الذي يساعد على تعزيز إنكار الاعتداء من قبل المعتدي المزعوم. بالإضافة إلى ذلك، عندما ينتمي المعتدي إلى مؤسسات سياسية أو دينية نافذة، فقد يشعر الضحايا بالرهبة أو الخوف من الإبلاغ عن الاعتداء أو الشروع بأي إجراءات قانونية. ومن العوامل الأخرى التي تتم ملاحظتها أيضاً في لبنان عدم الإبلاغ عن حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال لدى السلطات المختصة من قبل الأطباء، على الرغم من أن الواجب القانوني يلزم الأطباء بالإفادة عن أي حالة حتى ولو على خلفية الاشتباه فقط. كما تقتضي الإشارة بداية الى أن الحالتين اللتين أستعرضهما هنا، هما حالتان سريريتان، عُرضتا في هذه المقالة بعد الحصول على موافقة الأشخاص المعنيين وأولياء أمورهم، من دون الكشف عن هويتهم.

كيف تتداخل الإجراءات القانونية مع العملية العلاجية في أعقاب الاعتداء الجنسي على الأطفال؟
من المعروفأن الاعتداء الجنسي على الأطفال يشكّل عامل خطر كبيراً للإصابة بأعراض نفسية في مرحلة الطفولة والمراهقة والبلوغ [3]. تشكّل الاضطرابات النفسية نقطة انطلاق للاشتباه بحالة اعتداء جنسي على الأطفال، وذلك تبعاً لأعمارهم. فالمراهقون أكثر عرضة من الأطفال الأصغر سناً للإصابة بالاكتئاب والقلق والأفكار الانتحارية والسلوك المؤذي للذات، فضلاً عن الهروب وتعاطي المخدرات. أما الأطفال الصغار، فيكونون أكثر عرضة لتطوير سلوك عدائي ومضطرب، فضلاً عن سلوك جنسي غير لائق بالنسبة إلى أعمارهم. وقد تتخذ ردود فعل ما بعد الصدمة أيضاً شكل كوابيس وومضات من الذاكرة وتجنب كل ما من شأنه التذكير بالصدمة. كما يتصارع عادةً كل من المراهقين والأطفال مع مشاعر تدن في احترام الذات والعار والذنب وفقدان الشعور بالثقة الأساسية، خاصة عندما يكون المعتدي شخصاً موضع ثقة وتقدير (فرد مقرب من الأسرة، كاهن، معلّم…).

ومن العوامل السلبية الأكثر تأثيراً على الطفل/المراهق، اصطدامه بعدم تصديقه أو بعدم دعمه أو توجيه اللوم إليه على ما حدث بعد بوحه بالاعتداء [3]. وفي هذا السياق، قد تكون الإجراءات القانونية التي تعقب الاعتداء الجنسي على الأطفال، إن حدثت، مؤلمة للطفل إذا ما تعين عليه الشهادة أمام القاضي أو الخضوع للاختبار النفسي. وفي الواقع، قد يؤدي ذلك إلى إعادة إشعاره بأنه ضحية تلاعب من نوع جديد أو أن كلامه موضع شك أو أنه يخضع للفحص، بالإضافة إلى استعادة الصدمة بتفاصيلها، الأمر الذي قد يولّد لديه مشاعر يأس عميق. هذا ما حدث لطفل لبناني في العاشرة من عمره، كان قد عانى معاناة حادة من الاعتداء الجنسي على الأطفال. وقد أصيب باكتئاب حاد وردود فعل شديدة ما بعد الصدمة، مع ميول وأفكار انتحارية، وبحلول الوقت الذي أحيل فيه إلي، كان يرفض بشدة أي تفاعل مع المحكمة، خاصة بعد لقائه الأول مع خبير “طبي” أحضرته المحكمة وتبين لاحقاً أنه ليس طبيباً مسجلاً. من وجهة نظري، إجبار هذا الطفل على الشهادة أو الاجتماع بأي خبير إنما كان بمثابة إخضاعه من جديد لشكل من أشكال الاعتداء والإكراه، وذلك لعدم احترام إرادته وحاجته النفسية إلى تجنب أي تذكير بالصدمة. فسعيت من خلال العلاج بالتالي إلى بناء علاقة قائمة على الثقة والشعور بالاطمئنان معه، مع تجاهل الصدمة لفترة من الوقت، وذلك لشفاء الطفل تدريجياً من مشاعر العار والذنب التي كان يتصارع معها ومساعدته على استعادة الثقة الأساسية بالآخرين. وقد اتُّخذ القرار بتأجيل المحاكمة، بموافقة أولياء أمره وبالتنسيق مع المحامي، إلى حين استعداد الطفل من الناحية النفسية لمواجهتها.

لكن في قضية أخرى، كان لبدء محاكمة المعتدي تأثير مفيد هائل على الضحية، فتى في الرابعة عشرة من عمره. كان هو أيضاً ضحية اعتداء جنسي متكرر من قبل رجل نافذ اجتماعياً عندما كان في الثانية عشرة. تابعت حالته بسبب إصابته باكتئاب حاد وأعراض قلق. تمثلت العناصر البارزة في قضيته في مشاعر الظلم التي كانت تصيبه جرّاء تمتّع المعتدي بقدر كبير من “الحماية”، وذلك بسبب وضعه الاجتماعي، والشعور بأنه لن يلقى عقابه (فقد حاولت بعض المنظمات غير الحكومية ثني الطفل ووالديه عن بدء أي إجراءات قانونية). وعندما التقى أخيراً مع محام وأخبره هذا الأخير عن إمكانية اللجوء إلى المحكمة وأنه ما من قوة أو مكانة اجتماعية من شأنها تبرير الاعتداء الجنسي على الأطفال في نظر القانون، تحرر الطفل من شعوره العميق بالعجز. وحتى لو أن المحاكمة لم تحدث فعلياً بعد (نظراً إلى العديد من الأسباب التي لن أدخل في تفاصيلها في هذه المقالة)، إلا أن تأثير هذا اللقاء مع المحامي والاستماع إليه وهو يؤكد شرعية رغبة الفتى في ملاحقة المعتدي قد كان له مفعول علاجي كبير لهذا المراهق على وجه الخصوص. فقد أدى ذلك إلى إشعاره بأنه شخص قادر على اتخاذ القرارات والإجراءات وليس مضطراً للاكتفاء بقبول قرارات الآخرين والخضوع لها، ومنحه نوعاً من الشعور بقيمة ذاته واحترامها.

ومن بين الأمور العديدة التي يمكن استخلاصها من هذه الحالات هو أن كل طفل يتفاعل بطريقة فريدة ومختلفة بعد تعرّضه للاعتداء الجنسي. فقد يؤثر عمر الطفل على ردة فعله، إذ مع زيادة النضج، يتّضح فهم المراهق للآثار المترتبة على تعرضه للاعتداء الجنسي، وعادة ما يطلب تعويضاً أو إنصافاً للضرر الذي لحق به. ويكون احترام إرادة الطفل واحتياجاته النفسية إثر تعرضه للاعتداء الجنسي أمراً بالغ الأهمية للسماح له باستعادة بعض الشعور بالثقة بقدراته الذاتية.

التصدي لبعض الفرضيات الشائعة حول الاعتداء الجنسي على الأطفال
في ما يتعلق بالمعتدين، ليس هناك خصائص نفسية واحدة تميزهم، والمعتدون الجنسيون يشكلون مجموعة غير متجانسة من حيث العوامل الشخصية والاجتماعية والديموغرافية، فضلاً عن اختلاف دوافعهم ونياتهم. فثمة مفهوم خاطئ شائع حول مرتكبي جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال وهو أنهم جميعاً يعانون من اضطراب يتعلق باشتهاء الأطفال، وبالتالي ينبغي النظر إليهم على أنهم يعانون من اضطراب نفسي وأنهم قد يستجيبون للعلاج النفسي. وعلى الرغم من أن اشتهاء الأطفال يشكل على الأرجح قوة محفزة لمرتكبي جرائم الاعتداء الجنسي على هؤلاء، إلا أن الدراسات قد أظهرت أن ثمة محفزات أخرى عديدة غير الإشباع الجنسي، مثل رغبة المعتدي في السلطة والمتعة السادية الناجمة عن التلاعب
بشخص ضعيف والسيطرة عليه [3]. وتوضيح هذا المفهوم الخاطئ من شأنه تجنيبإضفاء الطابع الطبي منهجيا على هذا العمل الإجرامي.

وبالإضافة إلى ذلك، ليس جميع مشتهي الأطفال معتدين جنسيين، إذ قد يشعر البعض بالاستثارة الجنسية تجاه الأطفال دون سن البلوغ ولكن من دون الإقدام على أي عمل يترجم هذه الشهوة، سواء بسبب مثبطات داخلية أو خارجية أو نقد ذاتي أو قدرة الشخص على إدراك الضرر الذي قد يلحق بالضحية المحتملة؛ هؤلاء الأشخاص عادة ما يأتون طوعاً لطلب المساعدة/العلاج النفسي [3].

من العوامل البيئية التي تزيد خطر حدوث الاعتداء الجنسي على الأطفال الأطر المؤسسية، مثل دور الأيتام، وذلك بشكل رئيسي بسبب انعدام الرقابة وتقديم الرعاية من قبل موظفين بدلاً من الآباء والأمهات والفوضى الجنسية [6]. لقد أثير هذا الموضوع في الآونة الأخيرة إثر قضية منصور لبكي والتنبه إلى خطر الاعتداء الجنسي داخل مؤسسات الرعاية التي يتم إدخال معظم الأطفال إليها بسبب الفقر وليس اليتم. بالإضافة إلى ذلك، فقد تم تسليط الضوء على الانتشار الواسع لظاهرة الاعتداء الجنسي من قبل رجال الدين الكاثوليكيين خلال السنوات القليلة الماضية في عدد من البلدان، بما في ذلك لبنان. وقد أدى ذلك إلى بروز الحاجة إلى تحمل الكنيسة للمسؤولية المؤسسية عن سلوك الكاهن، ابتداءً من لحظة دخوله الكهنوت. سياقات الحرب واللجوء هي أيضاً من العوامل التي تزيد خطر حدوث اعتداءات جنسية على الأطفال، كما سبق وأفيد في معرض أزمة النازحين السوريين الحالية في لبنان [7]. ومن العوامل الأخرى التي تزيد من احتمال التعرض للاعتداء الجنسي، هشاشة الطفل وأوجه الضعف التي قد يعاني منها، مثل الإعاقة الذهنية أو الجسدية أو الإهمال أو العزلة الاجتماعية، والافتقار إلى الهياكل الأسرية التي تحميه أو علاقات الثقة المحيطة به [3]. في الواقع، يدرك المعتدون أن هذه العوامل تجعل الطفل ملائماً لسوء المعاملة والاعتداء، غير أن هذه العوامل المساهمة لا تبطل بأي شكل من الأشكال مسؤولية المعتدي عن الاعتداء.

للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا
نشر في العدد السادس عشر من مجلة المفكرة القانونية

ترجمت النص من الإنكليزية الى العربية: غادة حيدر.

المراجع:
[1] May-Chahal, C et al. Measuring child maltreatment in the United Kingdom: A study of the prevalence of child abuse and neglect. Child abuse and neglect, 2005: 29:969-984.
[2] Usta JA et al. Child sexual abuse: The situation in Lebanon. 2008. See link: http://www.kafa.org.lb/StudiesPublicationPDF/PRpdf22.pdf.
[3] Glaser D. Child sexual abuse. In: Rutter’s Child and Adolescent Psychiatry, 5th edition, Wiley-Blackwell, 2010;29: 440- 458.
[4] See link: http://www.girlsnotbrides.org/states-adopt-first-ever-resolution-on-child-marriage-at-human-rights-council/
[5] Nour NM. Child Marriage: A Silent Health and Human Rights Issue. Rev Ob3stet Gynecol. 2009; 2(1): 51–56.
[6] Johnson, R. et al. Young Children in Institutional Care at Risk of Harm. Trauma Violence Abuse, 2006; 7(1): 34-60.
[7] Ouyang H. “Syrian refugees and sexual violence”,  The Lancet, Editorial, 2013, 381:2056, published online on June 14, 2013.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني