هبة للقضاء تفتح جدلا حول مفهوم استقلاله ودوره الاجتماعي في لبنان


2015-05-18    |   

هبة للقضاء تفتح جدلا حول مفهوم استقلاله ودوره الاجتماعي في لبنان

في بدء أيار 2015، قامت مؤسسة الوليد بن طلال بتقديم هبة الى صندوق تعاضد القضاة بهدف مكننته[1]. وقد طرح قبول هذه الهبة من مجلس ادارة الصندوق أسئلةً عديدة لا بدّ من التوقف عندها، خصوصاً لجهة الاشارات السلبية التي تبعثها نحو استقلالية القضاء والانتظام العام للدولة.

في استقلالية وحيادية القضاء وصون دوره الاجتماعي

السؤال الأول والأهم ازاء هذه الهبة هو حول مدى مشروعيتها، وخصوصاً لجهة مدى توافقها مع مبادئ استقلالية القضاء. الجواب الوحيد عن هذا السؤال جاء من المدير السابق للصندوق، القاضي المتقاعد وعضو المحكمة الخاصة بمحاكمة قتلة رفيق الحريري، عفيف شمس الدين[2]. فقد استند هذا الأخير على قواعد تقنية بحتة لتبرير الهبة. ف"مجلس إدارة الصندوق قد وافق عليها دون مخالفة للنصوص اذ يسمح القانون بقبول التبرعات بعد موافقة سلطة الوصاية". وكأنما احترام آلية الموافقة على الهبات الموضوعة في القانون تحجب عن الفعل خطورته، أو مساسه بمبادئ دستورية وقانونية أسمى. وفي الاتجاه نفسه، أردف شمس الدين أن "صندوق التعاضد مؤسسة تؤمن منحاً ومساعدات للقضاة، وأن لا فرق إذا أُمنت التجهيزات من أموال "الست ليلى الصلح" أو من أموال الصندوق الخاصة، اذ لا تأثير بأي شكل على سلوكية القضاة أو تصرّفاتهم أو مثلاً ردّ الجميل للوليد بن طلال اذ لا أحد يلزمهم بذلك".
الاّ أن هذا المنطق لا يستقيم. فمفهوم استقلالية القضاء يتعدّى الامتناع عن التدخل مع القاضي لإلزامه باتخاذ موقف ما، وهو مفهوم مركّب يفرض ضمانات أوسع بكثير.

فإلى وجوب ضمان الاستقلالية المادية للقضاء، يشير الاجتهاد الأوروبي[3]الى وجوب مراعاة الاستقلالية الظاهرية l’apparence d’indépendanceللقضاء، أي تفادي أي عمل من شأنه أن يولد موضوعياً شبهة أو ارتياباً مشروعاً حول استقلالية القضاء. فعلى النظام القضائي أن يكون محايداً بشكلٍ ظاهرٍ[4].

وبهذا المعنى، لا يكفي الالتفات الى ضمير وسلوك القاضي العملي للقول باستقلالية وحيادية القضاء، انما ينبغي قياسهما في بعدهما هذا بشكل موضوعي. لذلك يأتي قبول الهبة من قبل صندوق تعاضد القضاة، خصوصاً لكونها مقدمة من رجل أعمال، ليخدش الثقة بالاستقلالية الظاهرية للقضاء ولينشئ شكّاً مشروعاً في حيادتيه تجاه الفئات الاجتماعية كافة، بمعزل عن سلوكيّات وقرارات القضاة الفعلية اللاحقة. وليست علنية "الاحتفال" الا خير دليل عن تطبيع واسع المدى في الثقافة العامة لسلوكيات تمسّ استقلالية السلطة القضائية.

ومن المعلوم أن فقدان الحيادية قد ظهر في أحيان أخرى بشكل ملموس في عدد من القرارات القضائية. ويفيد مثلاً هنا التذكير أن محكمة المطبوعات بدت في العديد من ملفات القدح والذم متأثرة بالمركز الاجتماعي أو بالمكانة في الأوساط التجارية والمهنية لأحد الأفرقاء[5]، لا بل ذهبت في أحد قراراتها الى وصف رجل الأعمال الأمير وليد بن طلال مقدِّم الهبة الى صندوق تعاضد القضاة ب"صاحب الأيادي البيضاء"[6].
وتتولّد خطورة هذا الشك تجاه حيادية القضاء وبقائه بعيداً عن تأثير أي من الفئات الاجتماعية، من دوره المحوري في بتّ صراع المصالح بين هذه الفئات من جهة – خصوصاً مثلاً أن لرجل الأعمال صاحب الهبة الراهنة مصالح اقتصادية هامة في لبنان –، وفي التأثير الإيجابي تالياً لهذا الدور على تغيير واقع النظام الحالي القائم على تأطير المواطنين في أطر طائفية-زبائنية.

فمن المفترض أن يكون القضاء هو الملاذ للمواطنين كافة، لترجيح كفة العدالة، ولتمكينهم من التمتع بحقوقهم، بمنأى عن علاقات المحسوبية أو الزبونية.
 
في شيوع قبول مؤسسات حيوية في الدولة لهبات من رجال أعمال ونافذين

وما يزيد الأمر سوءاً هو أنها ليست المرة الأولى التي تُطرح فيها مسألة الهبات المقدمة من رجال أعمال لمؤسسات رسمية حساسة. وكانت المفكرة القانونية عمدت الى دراسة وجدولة مراسيم قبول الهبات خلال سنة 2012[7]لتصل الى أن 46% من الهبات موجّهة الى الأجهزة الأمنية والعسكرية، حوالي نصفها مقدّم من شركات تجارية خاصة أو أشخاص طبيعيين، أي من "رجال أعمال"، مع ما يحمل ذلك من اشارات خطيرة لاستباحة مواقع حساسة في مفهوم الدولة من قبل رأس المال، ومن تساؤل حول المكتسبات المحققة مقابل هذه الهبات، من "مونة" أو امتيازات الخ… لرجال الاعمال هؤلاء.

الاّ أن وصول هذه الظاهرة الخطيرة الى القضاء، مع ما له من وظيفة ومكانة محورية كاحدى السلطات الثلاث في الدولة، هو بالأمر الجديد والملفت، بشكل خاص نظراً الى أهمية مبدأ استقلالية القضاء المصان في الدستور في المادة 20.

"الشأن العام" في رحمة الجهات المانحة

وأخيراً، تطرح مسألة الهبة اشكاليةً أخيرة مرتبطة بالمفهوم المؤسساتي للدولة، وذلك من خلال تمويل مرافق حيوية للدولة بهبات يقدمها متمولون أو جهات غير حكومية تولّد روابط مميزة منافية لمبدأ المساواة بين المواطنين وتبقى بمنأى عن شروط المحاسبة العمومية. ومن شأن هذه الممارسات أن تحوّل الدولة الى ما يشبه جمعية غير حكومية.

وكان المثال الساطع على ذلك مشاركة "وزير الداخلية" بصفته هذه والقيمين على عدد من أجهزتها أو على جهات حكومية أخرى في تأسيس جمعية غير حكومية يكون هدفها تلقي هبات ل"تأهيل السجون" واصلاحها، وهي مهام تدخل مباشرةً ضمن وظيفة وزارة الداخلية. واذ عادت الوزارة عن هذه المخالفة الجسيمة فحلت الجمعية تلك في إثر اثارة المفكرة القانونية لذلك[8]، رجع وزير الداخلية نهاد المشنوق ليؤسس بصفته الشخصية مع رجال أعمال آخرين[9]، جمعية تحمل الاسم نفسه وكذلك الهدف. وبالطبع، الهبات التي ستحصّلها هذه الجمعية ستبقى خارج الرقابة أو المساءلة التي تخضع اليها الأموال العامة تبعاً لقواعد المحاسبة العمومية.

وبالعودة الى صندوق تعاضد القضاة، وعدا ما يطرحه من اشكالات حول كيفية تمويله من خلال رسوم يعيّنها أحياناً من دون سند قانوني[10]، تأتي هبة الوليد بن طلال لتقوّي الشعور بتفكّك قواعد الانتظام العام واضعاف القدرة على المراقبة الشفافة على مؤسسة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسلطة القضائية، مما يؤدي يالتأكيد الى مفاقمة المخاطر المتأتية عنها.
 



[1]لم يتم الكشف عن قيمة الهبة، الا أن مصادر سربت للمفكرة أنها تبلغ حوالي 120 الف دولاراً أميركياً. 
 
[2]يُرجى العودة الى التقرير المعد عن الموضوع ضمن نشرة أخبار ال  LBCIبتاريخ 11/5/2015.
[3]أنظر القرارات الآتية على سبيل المثال لا الحصر:CEDH 22 juin 1989, Langborger c/ Suède, série A, no 155, § 32 ; CEDH 22 nov. 1995, Bryan c/ Royaume-Uni, req. no 19178/91, § 37
[4]V. M.-A. Frison Roche, L’impartialité du juge, D. 1999, p. 53, spéc. no 16. « La seule façon pour le système d'être assurément impartial, c'est de l'être manifestement, afin que chacun puisse avoir objectivement confiance dans la justice. C'est dans ce sens, et dans ce sens seulement, que l'on peut parler d'apparence d'impartialité, non pas comme une impartialité de surface mais au contraire comme une impartialité directement préhensible. Dans ces conditions, l'éloignement de l'impartialité par rapport à la conscience du juge s'accentue. En effet, quand bien même celle-ci serait parfaitement limpide, si l'institution peut donner prise au soupçon de partialité, si elle n'est pas ouvertement impartiale, si un doute, même infondé, peut être émis à ce propos, le principe est compromis ».
 
 
[5]يُراجع عن هذا الموضوع مقال علاء مروة، "أدب المقامات في أحكام المطبوعات"، نُشر في العدد الخامس عشر من مجلة المفكرة القانونية (نيسان/أبريل 2014).
 
[6]راجع الحكم الصادر عن محكمة المطبوعات بتاريخ 28-6-2010، الحق العام ضد فقيه وعبدو، مذكور في المرجع نفسه
 
[7]أنظر المقالة بعنوان "مراسيم قبول الهبات 2012: هدايا العسكر في دولة المجاملة"، نُشر في ملحق2012مع العدد السابع من مجلة المفكرة القانونية، شباط / فبراير  2013.
[8]أنظر غيدة فرنجية، "الداخلية تصلح السجون من خلال جمعية غير ربحية: اصلاح زواريب وبذور لدولة موازية"، المفكرة القانونية "، العدد الخامس عشر (نيسان/أبريل 2014).
 
[9]أنظر سارة ونسا، "الداخلية في لبنان متنكرة بزي جمعية غير حكومية"، المفكرة القانونية 11 آب/أغسطس 2014.
 
[10]أنظر مثلاً قرار مجلس ادارة الصندوق رقم 137 بتاريخ 14 أيار/مايو 2014 الذي فرض رسوماً على بعض المعاملات والشكاوى الجزائية المقدمة أمام النيابات العامة، كما على بعض المعاملات لدى القاضي العقاري، دون وجود أي قانون من المجلس النيابي بهذا الشأن.
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني