نقل القضاة وفق معايير موضوعية؟

نقل القضاة وفق معايير موضوعية؟

في 14-8-2015، سجّل النائب روبير غانم اقتراح قانون بتعديل مادة وحيدة هي المادة الخامسة من قانون تنظيم القضاء العدلي. وقد برّر غانم اقتراحه وفق ما جاء في أسبابه الموجبة بأنّ “استقلال السلطة القضائية يصطدم من الوجهة العملية بعوائق يعود بعضها إلى الآلية المتّبعة في إصدار التشكيلات القضائية”، وبأنّ “الصلاحيّات المعطاة للسلطة السياسيّة في الوضع القانوني الحالي تغلّب رأي هذه السّلطة على رأي مجلس القضاء الأعلى بسبب النصّ على صدور التشكيلات القضائيّة بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل مما يعني إمكان تجاوز رأي المجلس وتجميد التشكيلات بالرغْم من اعتبار هذا الرأي نهائياً وملزماً وفق النصّ المعمول به حاليّا”. وللتذكير، كان المجلس النيابي أقرّ في 2001 ما ادعي أنه “إصلاحات لتعزيز استقلال القضاء” منها: حصر صلاحية وضع مشروع أولي للتشكيلات القضائية بمجلس القضاء الأعلى بعدما كان يمكن له أو لوزير العدل وضعها، تغيير آلية الحسم في حال حصول خلاف بين المجلس ووزير العدل حول مضمون مشروع التشكيلات. فقد بات المجلس قادراً على الحسم بإقراره الصيغة النهائية للمشروع بأكثرية سبعة من أعضائه العشرة بعدما كانت صلاحية الحسم في هذه الحالة تعود لمجلس الوزراء أي للسلطة التنفيذية. إلا أنه سرعان ما تبين أن هذا الإصلاح حبر على ورق طالما أن التشكيلات تفترض لنفاذها إصدار مرسوم بناء على اقتراح وزير العدل. فاشتراط وجود مرسوم يعني أنه يقتضي الحصول على تواقيع عدد من المسؤولين عليه ومنهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير المالية، ووزير الدفاع في حال تضمنه ما يتصل بتعيين قضاة عدليين في المحكمة العسكرية. وعليه، يكون لأي من هؤلاء قدره على تعطيل صدور المشروع من خلال رفض توقيعه.

وتجدر الإشارة إلى أن غانم كان سجّل قبل ذلك في 2-2-2015 بالتنسيق مع رئيس مجلس القضاء الأعلى اقتراح قانون أول تضمن تعديل مواد عدة من قانون تنظيم القضاء العدلي من بينها المادة الخامسة المشار إليها أعلاه. وقد انطلق إذ ذاك من مسودة كان نشرها وزير العدل السابق شكيب قرطباوي على الموقع الإلكترونيّ لوزارة العدل في 2012 وتفرّدت المفكّرة آنذاك بالتعليق عليها[1]. ومع تقدّمه باقتراحه الثاني، يكون غانم قد حصر مطلبه في ما يعدّه أولوية ملحّة، متراجعاً ضمناً، أقلّه إلى حين، عن مناقشة التعديلات المقترحة سابقا” على قانون تنظيم القضاء العدلي. ولاعتبار تعديل هذه المادّة أولويّةً ملحّةً أسبابٌ مباشرةٌ، طالما أن وزير العدل الحالي أشرف ريفي جمّد مشروع التّشكيلات الذي كان أقره مجلس القضاء الأعلى في أيار 2015 وحذا بذلك حذوَ أسلافه من وزراء العدل بشأن مشاريع التشكيلات، كلما كانوا غير راضين عنها.
ومراجعة نص الإقتراح، إنما تفرض ملاحظتين اثنيتن:

الملاحظة الأولى: أن تعزيز صلاحيات مجلس القضاء الأعلى تمّ في موازاة تعزيز قدرة السلطة السياسية على التدخل في قراراته:

من البيّن أن الاقتراح آل إلى تضييق دور السلطة التنفيذية وتقييده. وقد تجلى ذلك من خلال مجموعة من الأمور، أهمها حصر صلة السلطة التنفيذية بالتشكيلات بوزير العدل. فله وحده حق إبداء ملاحظات على مشاريعها، وهو وحده الذي يصدرها بموجب قرار منه، من دون حاجة إلى مرسوم. وتالياً، يكون الاقتراح قد أقصى سائر أعيان السلطة التنفيذية عن هذا الشأن. وهذا الأمر يسري حتى على وزير الدفاع بما يتصل بالقضاة المدنيين المعينين في المحكمة العسكرية. فضلاً عن ذلك، ربط الاقتراح صلاحية الوزير في إبداء ملاحظاته على مشروع التشكيلات وفي عقد جلسة لمناقشتها بمهل قصيرة (15 يوماً لتبيان أوجه الإختلاف)، حتى إذا استمر الخلاف لمهلة مماثلة أو تمنّع الوزير عن إعلان أسباب مخالفته أو مناقشتها، يعدّ المشروع نهائيا ونافذا.

واذ تهدف هذه التعديلات إلى تعزيز صلاحيات مجلس القضاء الأعلى، فإن الاقتراح تضمّن مقابل ذلك ما يصح تسميته “تسوية استباقية”. وقد قامت هذه التسوية على رفع الأكثريّة المطلوبة لحسم مشروع التشكيلات عند حصول اختلاف مع وزير العدل من سبعة إلى ثمانية أعضاء أي ما يعادل 80%. وهي أكثرية تعزز عمليّا قدرة الأطراف السياسيّة في التأثير على مقررات المجلس من خلال أعضائه. فيكفي إقناع ثلاثة منهم لتعطيل المشروع. ولإدراك إحتمال حصول ذلك، يكفي التذكير بمسألتين: الأولى أن 8 أعضاء من أصل 10 معينون من قبل السلطة التنفيذية، والثانية أن المجلس يتكون على أساس المعادلة الطائفية المعمول بها في المجالس التي يبلغ عدد أعضائها عشرة (سنيان وشيعيان ودرزي مقابل ثلاثة موارنة وأرثوذكسي وكاثوليكي) وأن الأطراف السياسيّة لا تخفي أحياناً إصرارها على التعامل مع تعيين أعضاء المجلس وفق منطق المحاصصة الطائفية، بمعنى أن يعين كل زعيم وازن الأعضاء من طائفته. وقد أدّى هذا الأمر في فترات عدة إلى تعطيل تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى (2005-2008) تبعاً للتجاذب الحاصل حول الأشخاص المراد تعيينهم وولاءاتهم لهذا الفريق أو ذاك. ويُرتقب أن تتفاقم في هذه الحالة ميول الأطراف السياسيّة في تعيين المقربين منها في المجلس، وذلك ضماناً لإسماع صوتها داخل المجلس والتأثير في قراراته بعدما تمّ التخفيف من قدرتها في التأثير فيها من خارجه. فيصبح اذ ذاك تعطيل المجلس وسيلة محتملة لفرض قرارات معينة تماماً كما حصل مع المجلس الدستوري حين نجح ثلاثة أعضاء فيه (الربع المعطل) بتعطيله ومنعه من النظر في دستورية قانون تمديد ولاية النواب. بل ربما يكون هذا السيناريو هو التفسير المنطقيّ الوحيد لرفع الأكثرية المطلوبة لحسم التشكيلات. فكأنما واضع الاقتراح يسعى إلى إقناع الأطراف السياسية بالتخلي عن صلاحياتها في وقف التشكيلات القضائية من خلال إعطائها ضمانات تحول دون فرض تشكيلات لا ترغب بها عليها. وبكلام آخر، يؤول الإقتراح في حال إقراره إلى نقل السياسة إلى داخل المجلس تحت غطاء تحرير المجلس من ثقل السياسة.

وأبعد من ذلك، يبدو هذا الاقتراح بمثابة إعادة ترتيب للصلاحيات بين المؤسسات في تنظيم القضاء، دون أن يكون لها أثر حقيقيّ على بناء استقلاليّته. ولعلّ خير دليل على ذلك هو أن الإقتراح خلا من أي مراعاة أو حتى إشارة إلى مبدأ عدم نقل القاضي إلا برضاه الذي يشكّل أحد أكثر المعايير الدولية رسوخاً.  فإشكالية الإقتراح تبقى: ما هي الجهة الصالحة لنقل القضاة، وكيف؟ من دون أيّ تساؤل بشأن كيفيّة حماية القاضي إزاء مختلف أشكال التعسّف، سواء جاء من خارج القضاء أو من داخله، وتاليا بشأن كيفية تقييد المجلس منعاً للتعسّف. وما يعزّز ذلك أمران: (1) أن الاقتراح خلا من أي تعديل لشروط تعيين أعضاء المجلس في اتجاه زيادة عدد المنتخبين من القضاة أنفسهم، و(2) أنه ترك المجلس حراً في تحديد معايير التشكيلات عند وضعها من دون أيّ قيد. فاذ اشترط أن يوضع مشروع التشكيلات وفق “معايير موضوعية يضعها مجلس القضاء الأعلى قبل إعداده”، نفهم من ذلك أن الاقتراح ترك للمجلس كامل الحرية في تحديد مضمون هذه المعايير عند إعداد مشاريعه، وأنه لا مانع وفقه من أن تكون المعايير الموضوعيّة ظرفيّة واستنسابيّة. وما يزيد قابلية الأمر للإنتقاد، هو أن العبارة المذكورة حلّت محلّ عبارة أكثر تفصيلا وأقلّ عموميّة كانت وردت في اقتراح غانم السابق تيمّناً بمسودة قرطباوي، ومفادها أن المشروع يستند إلى “معايير موضوعية واضحة تأخذ بعين الإعتبار المناقبية والإنتاجية والعلم والأقدمية”. فإذا بالإقتراح الجديد يشطب كل هذه الاعتبارات ليستبدلها باعتبار واحد: إرادة مجلس القضاء الأعلى. ومن شأن ذلك طبعاً أن يبقي هامش المساومة والمجاملة واسعاً. وبذلك، لا نخطئ إذا قلنا أن الاقتراح يبقى ضمن سقف الخطاب الاصلاحيّ السّائد منذ اتفاق الطائف[2] الذي غالبا ما يؤدّي إلى اختزال استقلال القضاء بتعزيز صلاحيات مجلس القضاء الأعلى من دون إيلاء أيّ اهتمام لاستقلالية القاضي بحد ذاته.

نشر هذا المقال في العدد | 33 |تشرين الثاني/نوفمبر/  2016 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

تشريع الأمر الواقع



[1] العدد الرابع من المفكرة القانونية-لبنان، نيسان، 2012.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني