نقل القضاة بسبب الترقية في المغرب: أي موازنة بين المصلحة القضائية ومبدأ عدم نقل القاضي إلا برضاه؟


2019-05-23    |   

نقل القضاة بسبب الترقية في المغرب: أي موازنة بين المصلحة القضائية ومبدأ عدم نقل القاضي إلا برضاه؟

يتبين من بيان نادي قضاة المغرب الأخير بشأن تتبع أشغال المجلس الأعلى للسلطة القضائية أن المجلس قام من جديد بإحياء مقتضى نقل القضاة بسبب الترقية ومن دون طلب. وكانت هذه المسألة شكلت محورا للحراك القضائي الذي عرفه المغرب عقب دستور 2011، وحتى قبل هذا التاريخ، حيث كان النقل بسبب الترقية يستعمل في كثير من الأحيان وسيلة للتضييق على القضاة، أو المس بالضمانات القانونية المخولة اليهم.

إعادة النقل بعد التنازل عن الترقية حالة فريدة أم تكريس للترقية الملغومة1؟

من الحالات المثيرة التي تضمنتها نتائج أشغال المجلس الأعلى للسلطة القضائية، حالة قاض تمت ترقيته مؤخرا من الدرجة الثالثة إلى الدرجة الثانية. وقد قرر المجلس في سنة 2018 نقله بمناسبة الترقية من منصب قاضي حكمٍ من المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، إلى منصب قضاء النيابة العامة لدى المحكمة الابتدائية بخريبكة. وبمجرد توصل المعني بالأمر بهذا القرار، رفع إشعارا للمجلس يخبره فيه برغبته في تطبيق مقتضيات المادة 35 من النظام الأساسي للقضاة، والتي بمقتضاها يمكنه رفض المنصب الجديد مقابل تنازله عن حقه في الترقية، على أن يتم تسجيله في لائحة الترقي في السنة الموالية، وهو ما استجاب له المجلس.

لكن بعد سنة من هذه الواقعة، قرر المجلس الأعلى للسلطة القضائية سنة 2019، وللمرة الثانية، نقل القاضي المذكور من جديد بعد ترقيته من المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، إلى المحكمة الابتدائية بخريبكة، أي إلى نفس المحكمة التي رفض العمل بها، تحت مسمى “المصلحة القضائية”.

نقل القضاة بدون طلب استثناء لا يجوز التوسع فيه

تعيد هذه النازلة إلى الواجهة إشكالية نقل القضاة من دون رضاهم. فمن المعلوم أن حصانة القضاة ضد النقل تبقى من بين أهم المبادئ التي كرستها المعايير الدولية ذات الصلة باستقلال القضاء، على غرار عدد من النصوص الوطنية.

ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى المادة 11 من مبادئ الأمم المتحدة لاستقلال القضاء، التي تنص على ما يلي: “يتمتع القضاة، سواء أكانوا معينين أو منتخبين، بضمان بقائهم في منصبهم إلى حين بلوغهم سن التقاعد الإلزامية، أو انتهاء الفترة المقررة لتوليهم المنصب، حيثما يكون معمولا بذلك”. كما تنص المادة 8 من الميثاق العالمي للقضاة الذي أقره المجلس المركزي للاتحاد الدولي للقضاة بتاريخ 17-11-1999، على أنه: “لا يجوز نقل القاضي أو وقفه عن العمل أو استبعاده من منصبه ما لم ينص على ذلك القانون، وعلى أن يتم ذلك بقرار ووفقا للإجراءات التأديبية (..)”.

وينص الفصل 108 من الدستور، على أنه: “لا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون”.

واذا كانت المادة 72 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، قد تطرقت للحالات التي يجوز فيها نقل القضاة وحددتها في النقل بناء على “طلب القاضي، أو على إثر ترقيته، أو إحداث محكمة أو حذفها، أو شغور منصب قضائي أو سد الخصاص”، فإن المحكمة الدستورية كرست عند بتها في مدى دستورية القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، الطابع الاستثنائي لنقل القضاة بدون طلب، حينما اعتبرت في قرارها، أن: “المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي أناط به الدستور، بصفة أساسية، السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم، لا يجوز له أن يقرر نقل قضاة الأحكام، في الحالات التي حددها المشرع، دون طلب منهم، إلا بصفة استثنائية، يبررها ضمان حق التقاضي المكفول دستوريا للمواطنين”.

وهو ما تبناه المجلس الوطني لحقوق الإنسان المغربي، حيث اقترح في مذكرته المقدمة إبان إعداد مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، ما يلي: “فيما يتعلق بعدم قابلية قضاة الأحكام للعزل والنقل إلا بمقتضى القانون، والمضمونة بمقتضى الفصل 108 من الدستور، فإن المجلس الوطني لحقوق الإنسان يقترح أن يكرس القانون التنظيمي موضوع هذه المذكرة هذا المبدأ، مع التنصيص على أن قضاة الأحكام لا يمكنهم أن يعينوا في مناصب جديدة دون موافقتهم، ولو تعلق الأمر بترقية”.

النقل بسبب الترقية وسيلة لحل مشكل العمل بالمناطق النائية

غالبا ما يرتبط نقل القضاة بسبب الترقية بإشكالية أعمق يعرفها القضاء المغربي تتعلق بالعمل بالمناطق النائية، ذلك أن مبدأ عدم قابلية القضاة للنقل بدون رضاهم، يصطدم بمبدأ آخر لا يقل عنه أهمية، وهو تأمين حق التقاضي لمرتفقي العدالة.

فنظرا لكون بعض المناطق النائية تفتقد لشروط التنمية، وبسبب غياب التحفيز، فإنها تعرف خصاصا دائما بسبب كثرة طلبات الانتقال منها، وغياب نية الاستقرار لدى غالبية العاملين فيها.

واذا كان مشكل العمل في المحاكم الابتدائية ومراكز القضاة المقيمين الكائنة بالمناطق النائية يمكن معالجته عن طريق تعيين القضاة الجدد المتخرجين من المعهد العالي للقضاء، فإن الإشكالية تدق حينما يتعلق الأمر ببعض محاكم الاستئناف نظرا لعدم إمكانية تعيين القضاة الجدد مباشرة في هذه المحاكم، لذا دأبت المجالس السابقة على اللجوء إلى آلية نقل القضاة بسبب الترقية لمعالجة مشكل الخصاص بهذه المحاكم.

وهو ما يعني أن آلية النقل بسبب الترقية ارتبطت بحسب الاجتهاد المستقر للمجلس الأعلى للسلطة القضائية-دأبا على عهد المجالس السابقة- بمشكل وجود الخصاص، وبالنقل إلى محكمة أعلى درجة، فضلا عما أقره النظام الداخلي الجديد للمجلس من وجوب مراعاة سبقية العمل في المناطق النائية.

التنازل عن الترقية والمصلحة القضائية

مراعاة لعنصر الاستثناء الذي ينبغي أن يحيط التعامل مع آلية نقل القضاة بدون طلب نصت المادة 35 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، على أنه: “يقبل كل قاض تمت ترقيته في الدرجة المنصب القضائي الجديد المعين به، وإلا ألغيت ترقيته، وفي هذه الحالة يسجل في لائحة الأهلية برسم السنة الموالية”.

ويتضح من خلال هذا المقتضى أن المشرع ورغبة منه في حماية القضاة من خطر النقل بدون طلب، خولهم إمكانية البقاء في منصبهم القضائي السابق شريطة التنازل عن الترقية، على أن يتم تسجيلهم في لائحة الترقية برسم السنة الموالية.

وهو استثناء أجازه المشرع للتوفيق بين الرغبة الشخصية للقاضي والتي تكون مبنية أساسا على اعتبارات شخصية تتعلق غالبا بالرغبة في الاستقرار الأسري، والمصلحة القضائية في المحكمة المراد النقل إليها عن طريق تأمين حق التقاضي لمرتفقيها احتراما للفصل 118 من الدستور.

علما بأن التنازل عن الترقية في حد ذاته يبقى قرارا “قاسيا” بالنظر إلى تبعاته النفسية والمهنية والمالية على القضاة.

أي مصلحة قضائية في إعادة تنقيل قاض سبق وأن رفض الترقية؟

باستحضار الطابع الاستثنائي لإمكانية نقل القضاة بدون طلب في القانون المغربي وكذا في المعايير الدولية ذات الصلة، وباستحضار أن مشكل الخصاص لم يكن مطروحا في هذه النازلة، طالما وأن المجلس الأعلى للسلطة القضائية وخلال نفس الدورة أصدر مقررا آخر بتعيين أكثر من مائتي قاض وقاضية بمختلف المحاكم التي تعرف شغورا مما يدل على انتفاء عنصر الاستثناء، يبدو وكأن قرار المجلس يهدف للتقليص من إمكانية لجوء القضاة إلى آلية التنازل عن الترقية لتجنب قرار نقلهم بدون طلب، وكأنه يقيد بذلك ضمانة أساسية خولها لهم المشرع لحماية استقلالهم.

مواضيع ذات صلة:

القضاة وإشكالية العمل بالمناطق النائية في المغرب

نادي قضاة المغرب يفتح أرشيف مظالم القضاة

نقاش حول معايير نقل القضاة للعمل في المحاكم المستحدثة في المغرب

نقل القضاة وفق معايير موضوعية؟

بعض مظاهر الاختلال في عمل المجلس الأعلى: من اعتمد على نفسه بقي في قسمه

مجلس السلطة القضائية يتراجع عن نقل قاض من دون رضاه في المغرب: سابقة هامة يؤمل تعميمها

قراءة في مذكرة نادي قضاة المغرب حول مشروع القانون المتصل بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ،

لهذه الأسباب، رفض نادي قضاة المغرب مسودة النظام الأساسي للقضاة

في قراءة نقدية للنسخة الثالثة لمشاريع قوانين السلطة القضائية في المغرب(1): في أبرز اعتراضات ومطالب الجمعيات المهنية للقضاة

في قراءة نقدية للنسخة الثالثة لمشاريع قوانين السلطة القضائية في المغرب (2): المتغير والثابت في فلسفة المشاريع الحكومية

مسودة مشروع قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية: أي جديد؟

نادي قضاة المغرب ينتقد مشروع النظام الأساسي للقضاة

1 برز مصطلح الترقية الملغومةفي أدبيات جمعية نادي قضاة المغرب، للدلالة عن ما نص عليه النظام الأساسي السابق لرجال القضاء من امكانية نقل القضاة دون طلب، بسبب الترقية.

أنظر لمزيد من التفاصيل:

أنس سعدون: الحراك القضائي بالمغرب من أجل سلطة قضائية، منشور بموقع المفكرة القانونية بتاريخ 14/11/2013.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مقالات ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني