خرج مركز إحتجاز الأمن العام الواقع “تحت جسر العدلية” من تحت الأرض وانتقل إلى ساحة العبد، خلف مبنى الـ”TVA” في منطقة االعدلية. بضعة أمتارٍ قد تحسّن ظروف الأشخاص المحتجزين، ولكن أترافقها تحسيناتٌ أخرى على مستوى حقوقهم الأساسيّة، خاصةً لجهة التواصل مع العالم الخارجيّ؟ والأهم، كيف يؤثر تغيير موقع المركز على قانونية الإحتجاز الإداريّ فيه؟ علماً أن هذا الإحتجاز غالباً ما يكون فاقداً للأساس القانونيّ، وفقاً للقضاء اللبنانيّ.
منذ مطلع العام 2015 وحتى شهر تموز 2016، دخل نظارة دائرة التحقيق والإجراء في الأمن العام في بيروت 28476 شخص، بينهم 18329 من الجنسيّة السوريّة. معدل الأشخاص الذين يُحتجزون شهرياً في هذا المركز هو 1488، منهم 956 سورياً.[1] ما يعكس إزدياد عدد المحتجزين السوريين منذ تغيير شروط إقامتهم في لبنان بحيث تجرّد كثرٌ من إقاماتهم الرسميّة. أهمية الأرقام هنا تتعلّق أولاً بعدد الأشخاص المعرّضين لإنتهاك حقّهم الأساسيّ بحريّتهم، من خلال إحتجازاتٍ إداريّةٍ غير محدّدة المدة. وثانياً، تثبّت الأرقام تراكم الواقع اللا-إنسانيّ، في إكتظاظٍ يتزايد بهذه الوتيرة العالية، في مكانٍ غير معدٍّ أساساً ليعيش فيه إنسانٌ مدّةً من الزمن.
الشهر الفائت، نشرت “حركة ضد العنصريّة” عبر صفحتها على “فايسبوك” نصّاً يصف المعاناة التي يختبرها زوّار المحتجزين: “تحت جسر العدليّة في بيروت، تحوّلت مساحة مخصصة لركن السيارات إلى مركز إحتجازٍ مؤقتٍ للعمّال والعاملات الأجانب ولعددٍ ضخمٍ من اللاجئين الذين يتم إحتجازهم يوميّاً في بيروت، وغالباً ما يكون ذلك لأسبابٍ إداريّة، أيّ من دون قرار قضائيّ (…).” خلال اليومين المحدّدين للزيارة، “يبدأ الأشخاص بالوصول عند الساعة الـ6 صباحاً، وينتظرون حوالي 4 أو 5 ساعات في الطريق رغم الطقس الحار، من دون إمكانية الوصول إلى حمامات أو أماكن للجلوس، أو حتى إلى الظلّ”. إلى ذلك، يتعرّض هؤلاء “لمعاملة تمييزية حيث يتم تفضيل بعض المجموعات على الأخرى (بالنسبة للدور وإمكانية لقاء الموقوف): العائلات مقابل الأصدقاء، الذين يزورون الرجال مقابل الذين يزورون النساء، الذين يرتدون ملابس معيّنة، وبالطبع حاملي الجنسية اللبنانيّة مقابل الآخرين من الجنسيات الأخرى. بعد ساعات طويلة من الإنتظار، يتوجب على الزائرين السير عبر مكبّ للنفايات (…). بعدها ينتظر الأشخاص مدّة أطول في المدخل الرطب والمغطّى ببيوت عنكبوتيّة قبل النزول عبر الدرج إلى قاعة الزيارات الضيّقة، والانتظار من جديد لرؤية المعتقلين. تستمرّ الزيارة 5 أو 10 دقائق وتكون خالية من الخصوصيّة أو الإتّصال الجسدي. حتّى أنّه شبه مستحيل رؤية أو سماع الشخص الذي تزوره”[2].
لا تنفصل هذه المعاناة بالطبع عمّا يعيشه المحتجزون أنفسهم، ولا بد أن تكون أضعاف معاناة زوارهم. فالظروف المأساويّة التي يعانيها المحتجزون بلا أدنى الشروط الصحيّة للعيش، تتفاقم مع حرمانهم شبه الكامل من الإتصال بالعالم الخارجيّ. هذا الحرمان تجسّد مدّة الزيارات، إمكانية التواصل خلالها، ومنع المحامين من مواجهة موكليهم.
تروي إحدى المحاميات لـ”المفكرة القانونيّة” حادثة منعها من مواجهة موكلها عام 2014: “توجّهت إلى المديريّة العامة للأمن العام لطلب إذنٍ لمواجهة موقوفٍ بناءً على وكالتي عنه، فأعلمني أحد العناصر أنه لا يحق لي الحصول على إذن مواجهة. ولدى مراجعتي رئيس شعبة المعلومات، كان جوابه مفاجئاً: أنت محامية! لا يمكنك مواجهته”. وبرّر ذلك بأن الأمن العام يحمي الأجانب من “إستغلال المحامين لهم وأخذ أموالهم”، وأنه “لا حاجة للدفاع عنه، سيصدر قرار الترحيل وينفذ فوراً لأنها قرارات إداريّة وليست قضائيّة”. ما يشكّل بالنسبة إليها “قلباً للمعايير التي تفرض أن يقوم المحامي بحماية الموقوف ضد تعسّف الإدارة وليس العكس”، وأنه يحقّ للموقوف الطعن بقرار ترحيله.
عبر السنوات الماضيّة، بدا العمل في الأمن العام على إستحداث مركزٍ جديدٍ في ظلّ إستتباب الواقع المأساويّ مثيراً للتساؤل الجدّي حول تغيّراتٍ فعليّة، أبعد من رؤية الأفراد المحتجزين للشمس، وتصبّ في مصلحتهم. هنا، تؤكد المديرية العامة للأمن العام في إجابته على أسئلة “المفكرة القانونيّة” حول المركز الجديد أن “الهدف من إنتقال النظارة هو تأمين حقوق الموقوفين وفقاً للمعايير الأساسيّة الدوليّة، خاصةً من الناحية الصحّية والإنسانية”.
تؤكد المديرية أن مواجهة المحامين للموقوفين باتت مباحة، منذ شهر أيار 2016 بناءً على مذكرة تفاهم موقّعة بين المديرية ونقابة المحامين[3]، مع العلم أن موقع الأمن العام لا يزال يؤكد منع المحامين من مواجهة الموقوفين والإكتفاء بالسماح لهم بالدخول إلى “دائرة التحقيق والإجراء” فقط لتسليم مستندات[4]. بالتالي، سبق هذا التحسين الإنتقالَ، ولكنه لا ينسحب على الزيارات العادية. فعلى هذا الصعيد، “لم يطرأ أيّ تعديل على الإجراءات السابقة، كون كلّ أسباب التواصل مع الموقوفين تتمّ ضمن الأصول القانونيّة المعتمدة”. هذه الزيارات إذاً مباحةٌ “لمن يرغب، يومي الثلاثاء والخميس”.
في خلاصة أولية، يمكن القول أن لا تغييراً جوهرياً يترافق مع إنتقال النظارة، لا سيما أن الأمن العام يستمر في تبرير الإحتجاز على أنه مجرد “إحالة للموقوفين الأجانب إلى دائرة التحقيق والإجراء في الأمن العام للبتّ في أمر إقامتهم على الأراضي اللبنانيّة، وليس إحتجازاً”. في الواقع، هذه النظارة لا تفرّق بين متهمٍ وبريء، فالأخير يبقى محتجزاً رغم تبرأته إلى حين البتّ بأمر إقامته. هذه الفئة مثلاً لا تحتاج لارتكاب جرمٍ حتى يتم إحتجازها.
نشرت هذه المقالة في العدد |43|أيلول/سبتمبر 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.