“من الذي سيموت أنا أم والدتي أمّ القنّاص؟” أحداث الطيّونة تُرعب الصغار وتعيد رسم خطّ تماس الكبار


2021-10-16    |   

“من الذي سيموت أنا أم والدتي أمّ القنّاص؟” أحداث الطيّونة تُرعب الصغار وتعيد رسم خطّ تماس الكبار
صورة مركّبة انتشرت على مواقع التواصل أمس

في الشارع الفاصل بين الشيّاح وعين الرمانة هدأت أصوات القذائف والرصاص، المعركة انتهت مبدئياً، والحياة تحاول أن تعود إلى “طبيعتها” إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

وسط الشارع يقف صحافيون محليون وأجانب، يصوّرون الأبنية المتضررة ويتبادلون الأحاديث مع من يقف في الشارع من سكّان الأحياء المجاورة، على جهتي الشارع أي على مدخل المنطقتين اللتين يشار إليهما كطرفي المعركة (الشياح وعين الرمانة) أصحاب محال يكنّسون الزجاج المتناثر ويتفقّدون الأضرار، ومنازل يجيب الشبّان الواقفون في الشارع عندما تسأل عن أصحابها “تركوا البيوت أمس ربما يعودون اليوم، أيّام قليلة وتعود الحياة إلى طبيعتها”.

قنّاص طريق المدرسة

قد يكون صحيحاً ما يقوله الشبّان عن عودة الحياة قريباً إلى “طبيعتها”، ولكنّها ستعود بالتأكيد مع صور إضافية طبعتها “معركة الخميس” في أذهان اللبنانيين عن حرب قيل لهم إنها انتهت ولكنّها تشتعل بين الفينة والأخرى معيدة رسم خطوط تماس قديمة، ومستكملة خوفاً ينتقل من جيل إلى آخر على طفل عالق في المدرسة تحت الرصاص، وطريق الوصول إليه محاط بالمسلّحين والقنّاصين.

 “المشهد نفسه يتكرّر بعد أكثر من 30 عاماً، أذكر كيف كنت طفلة أجلس في ممرّ المدرسة تحت أصوات القذائف أغطّي أذنيّ بيديّ بانتظار أن تأتي والدتي لتعيدني إلى المنزل، بالأمس سمعت صوت والدتي تقول هناك قنّاص علينا أن نسرع، ربما كرّرت الجملة نفسها على مسامع ابنتي حين أخذتها من المدرسة، لا أدري، لا أذكر” تقول عايدة (42 عاماً) التي اضطرّت أوّل من أمس إلى الذهاب لاحضار ابنتها من المدرسة القريبة نسبياً من الاشتباكات، مضيفة “لطالما كنت أسأل نفسي وأنا طفلة من سيموت أنا أم والدتي أم القنّاص، واليوم آمل أن يموت القنّاص وألّا تسأل ابنتي السؤال نفسه”.

الرّعب نفسه عاشته آية (27 عاماً) يوم الخميس، رعب تجسّد بشارع واحد يفصل بينها وبين الحضانة حيث ابنتها التي لا تتجاوز العام الواحد، شارع تحوّل إلى ساحة حرب، مسلّحون في كلّ مكان، دماء على الأرض، قذائف ورصاص في الأجواء، وقنّاص يصطاد ضحاياه بدم بارد.

 “حاولت أن أقطع الشارع لأصل إلى ابنتي، كانت تبعد عنّي دقائق ولكنّ الأمر احتاج إلى ساعات، الجيش منعني حفاظاً على سلامتي، كنت أصرخ أريد الوصول إلى ابنتي” تقول آية لـ “المفكرة القانونية” راوية رحلة الوصول إلى ابنتها من الحادية عشرة والنصف صباحاً إلى الثانية بعد الظهر.

حتى اللحظة لا تزال آية تفكّر إن كان ما حصل معها حقيقي أم أنّه مشهد من فيلم شاهدته، “نقلتني سيارة إسعاف من حي إلى آخر كي أصل إلى ابنتي، كانت أصوات القذائف قويّة، ولا يوجد إرسال، لم أكن أستطيع التواصل مع حضانة ابنتي بشكل جيّد، لم أكن أسمع شيئاً، في الإسعاف شاهدت الدم على الأرض، افتكرت للحظة أنني مصابة، تفقّدت جسدي فعرفت أنّ الدم ليس دمي” تقول آية، مضيفة “بعد ساعات من اللف والبحث عن طريق آمن وصلت إلى ابنتي، لم أستطع أن أحملها، ركضنا أنا وهي قطعنا الشارع بسرعة وهي تقول “أوف” كلّما سمعت صوت قذيفة، كانت تبكي وتصرخ، بالتأكيد لم تفهم ماذا يجري ولكنّها استشعرت الخوف”.

هل سأموت؟

ابنة آية التي لا تجيد الكلام بعد، عبّرت عن خوفها بالصراخ والبكاء، أمّا طلاب مدرسة “الفرير” فرن الشبّاك القريبة من الاشتباكات فكانوا يسألون أسئلة لا يملك أحد إيجابات لها، “هل سأموت؟ هل سيموت والدي على الطريق قبل أن يصل إليّ؟ أين أخي أوصتني أمي أن اهتمّ به؟ أسئلة كرّرها التلامذة والخوف يتملّكهم” تقول مديرة المدرسة كلير سعيد لـ “المفكرة” واصفة كيف كان التلامذة يجلسون في الممرات يختبئون خائفين،  يغطون آذانهم بأيديهم علّهم لا يسمعون أصوات الرصاص والقذائف، يبكون ويصرخون، وكيف كانوا غير قادرين على سماع أسمائهم عندما يناديهم أحد الأساتذة ليبلغهم أنّ أحد والديهم قد أتى ليأخذهم.

شهدت مدرسة الفرير الحرب الأهلية، واعتادت حينها أبوابها مشهد خروج التلامذة راكضين هرباً من القذائف والرصاص، ولكنّ التلامذة الحاليين الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و14 عاماً لم يعشوا الحرب، وربّما هذه المرة الأولى التي تصل فيها أصوات القذائف والرصاص إلى صفوفهم، وتعيّشهم في أجواء أقلّ ما يقال فيها “غير إنسانية” على حدّ تعبير كلير.

تؤكّد كلير أنّ التلامذة سيحصلون على دعم نفسي واجتماعي وأنّ المدرسة ستعمل من خلال الموسيقى والمسرح على تخفيف تبعات ما حصل يوم الخميس ولكنّها تؤكّد أنّ ما حصل مع التلامذة لن يمرّ بالسهل إذ إنّ أولياء الأمور أخبرونها أنّ أبناءهم استيقظوا ليلاً خائفين وأنّ بعضهم يرفض العودة إلى المدرسة، مشيرة إلى أنّ هؤلاء الأطفال مرّ عليهم الكثير من الضغوطات مؤخراً بدءاً من عزلة “كورونا” وصولاً إلى تبعات الانهيار الاقتصادي الذي غيّر نمط حياتهم مروراً بتفجير الرابع من آب، وأنّ كلّ هذه العوامل تستدعي بذل جهود إضافية.

لم يكن سهلاً على الأساتذة والمشرفين في المدارس والحضانات القريبة من مكان الاشتباك تهدئة الأطفال ولكنّ عيش الأساتذة قبل أكثر من 30 عاماً الحالة نفسها جعلتهم يفهمون ما يشعر به الطلاب وهنا تكمن المأساة، على حدّ تعبير أحد الأساتذة الذي يقول لـ “المفكرة” “كأنّ لعنة تروما الحرب نتوارثها من جيل إلى آخر، كأنّها بصمة تطبع ذاكرة كلّ لبناني قرّر ألّا يهاجر”.

 الخوف نفسه عاشه أطفال حضانة “بامبينو موندو” الواقعة في مبنى وسط الشارع الذي دارت به الاشتباكات يوم الخميس، نقل القيّمون على الحضانة الأطفال إلى الممرّات وإلى غرفة آمنة نسبياً، حاولوا أن يمنعوهم من سماع أصوات الرصاص، “وضعنا لهم فيلم رسوم متحرّكة ورفعنا صوت التلفاز، ولكنّ صوت الرصاص كان مسموعاً والأطفال استشعروا الخوف، فهم شعروا أن ّشيئاً غير اعتيادي يحصل، بخاصّة وأنّهم مجموعون في مكان واحد” يقول مدير الحضانة لـ “المفكرة”.

35 طفلاً علقوا داخل الحضانة تتراوح أعمارهم بين 8 أشهر و3 سنوات، حاول العاملون في الحضانة إشعارهم بالأمان، وعملوا على حفظ سلامتهم، “اتصلنا بذويهم لم يستطع الجميع الوصول، فكّرنا بنقلهم بسيارة واحدة ولكنّنا خفنا أن تحصل مجزرة إذا ما أصيبت السيارة بقذيفة، وبعد ساعات بقي في الحضانة 5 أطفال حملناهم إلى مكان آمن لأنّ صوت القذائف أصبح أقوى، اتصلنا بذويهم وأعلمناهم بمكان تواجدنا وهكذا استطعنا أن ننجوا بهم، لم يكن الأمر سهلاً، ولن يكون سهلاً على الأطفال الذين قد يربطون الخوف بالحضانة فيرفضون الحضور أو الخروج من المنزل، المشاهد التي رأونها قاسية جدا عليهم”.

هل يمكن العيش في “منطقتهم”؟

أرجعت أحداث الخميس استخدام كلمة “مناطقهم” و”مناطقنا” كما أعادت رسم خطّ التماس في أذهان مواطنين ظنّوا أنّه اختفى إلى غير رجعة.

 “خرج المسلّحون والقنّاصون من المنطقة آمنين أحراراً، ما يعني أنّ عودتنا إلى المنطقة لن تكون آمنة، ما حصل أمس أقنعني بما قالته أميّ يوم استأجرتُ منزلي هنا في عين الرمانة قبل أكثر من 7 سنوات، قالت لي حينها الحرب لم تنته وخطوط التماس لم تمحَ هي نائمة تستيقظ عند أي استحقاق طالما أنّ من يحكمنا هم زعماء حرب، الشيعي يجب أن يعيش بين الشيعة والمسيحي بين المسيحيين” تقول لينا وهي تدخل سيارتها تاركة منزلها مؤقّتاً متجهة إلى قريتها، وتضيف في حديث مع “المفكرة” أنّ الوقت لم يعد مناسباً لانتقاء الكلمات حفاظاً على السلم الأهلي فـ “أيّ سلم أهلي هذا الذي يقف على مسلّحين وقنّاص، وأيّ كذبة عشناها حين اقتنعنا أنّ خطوط التماس رحلت إلى غير رجعة، لن أعود إلى المنطقة”.

ما تقوله لينا يكرّره الكثيرون من سكان المنطقة وتحديداً أولئك الذين جاؤوا إلى بيروت من قراهم واستأجروا أو اشتروا في مناطق ظنّوا أنّها ما عادت تُعرف بـ “مناطقن”  أو “عندن” إذا كانت النون تعود للآخر للطائفة الأخرى.

نهى (56 عاماً) هي واحدة من هؤلاء الذين اعتبروا أنّ “النون” تعود إلى اللبناني وأنّ لا وجود لعبارة “مناطقنا ومناطقهم” وأنّ الحرب الطائفية انتهت إلى غير رجعة، فاستأجرت قبل أكثر من 6 سنوات منزلاً في منطقة عين الرمانة.

“عندما قرّرت استئجار منزلي، طلب كلّ من حولي منّي التفكير قبل السكن في منطقة حسّاسة، وسألوني ماذا سأفعل إذا اشتعل فتيل حرب أهليّة، ولكنني اعتبرت أنّهم من عالم آخر، أنّهم عالقون في حرب انتهت منذ سنوات” تقول نهى لـ “المفكرة”، إلّا أنّ ما حصل يوم الخميس دفعها إلى إعادة النظر في قناعاتها حول انتهاء الحرب الأهلية، فالرعب الذي عاشته أرجعها بالذاكرة إلى العام 1989 حين تركت منزلها وعادت إلى قريتها هرباً من القذائف.

حينها كان سنّ نهى لا يتجاوز 24 عاماً ولم تعرف أنّها إذا تركت منزلها لن تعود إليه، أمّا الخميس وبعدما اشتدّت الاشتباكات وضعت نهى في حقيبتها كلّ ما تحتاجه، كلّ ما لا تريد أن يعبث به غرباء إذ أنّها ظنّت أنها لن تعود إلى المنزل، وأنّها ستهجّر منه ليأتي آخر ويسكن فيه”.

تتحدّث نهى عن ساعات رعب حقيقية، عن خوف من البقاء في المنزل وخوف من الخروج منه والقنص في الخارج مستمر.

“جلست أنا وزوجي في الممرّ لساعات في مكان بعيد عن الزجاج، مئات الأفكار مرّت برأسي، تخايلت أنّ الحرب ستمتد إلى كلّ لبنان، وأنّها ستكون طويلة جداً، تماماً كما الحرب الأهلية، فكّرت بنسبة النجاة” تقول نهى موضحة أنّها تشعر بالندم ليس لأنّها سكنت على خط تماس بين منطقتين، سكانهما مجرّد متاريس وأدوات بيد السلطة، تستخدمهما متى شاءت غير آبهة بحياتهم.

تؤكّد نهى أّنها ستعود إلى منزلها بعد التأكّد من هدوء الأوضاع ولكنّها تشعر بخوف شديد على ابنها “ماذا لو قرّر أحد الانتقام منه لمجرّد أنّه يسكن في عين الرمّانة؟ الانتقام قد يكون من أيّ طرف، خوفي الوحيد على ابني”.

على عكس نهى لا يندم محمد (40 عاماً) على اختياره السكن على خط التماس، ويقول لـ “المفكرة”: “حين اشتريت منزلاً في عين الرمانة قبل 11 سنة، لم أفكر في خطوط التماس ولا المعارك التي دارت في هذه المنطقة، ولا في الابتعاد عن بيئتي والسكن في مكان لا يشبهني، كلّ ما فكرت فيه، أنني وجدت منزلاً مناسباً مع إطلالة على الجبل، وبسعر يناسب ميزانيتي، فقط لا غير، هذه ميزة أن تكون علمانياً، تفكر في الآخر على أنّه شريك لك وليس عدوّاً”.

يروي محمد أنّه عندما قرّر أن يشتري منزله سمع كلاماً كثيراً من أقاربه عن كيف له أن يسكن في منطقة تعتبر “مسيحية”، وعمّا سيحصل له في حال اندلاع حرب أهلية، وكيف سيكون وعائلته أوّل الضحايا، ولكنّه اشترى المنزل في عين الرّمانة وسكنه مع عائلته لسنوات طويلة، ويقول: “قد أكون المسلم الوحيد في الحي، لكنني أعيش بسلام لأننّي لست بطائفي والدين لا يعني لي شيئاً، بل حاولت تقريب وجهات النظر وتصحيح بعض الأفكار المغلوطة لدى سكان البناية ومن ينتمون إلى بيئتي، لست نادماً على سكني في منطقة تقع على خطوط التماس، ولست نادماً على ممارستي قناعاتي التي تربّيت عليها”.

ويرى محمد أنّ المشكلة لم تكن يوماً بين أهالي الشياح وعين الرمانة، إنّما مع الزعماء المتحكّمين بعامّة الشعب” ويضيف: “يبدو ذلك واضحاً في التنقّلات اليومية، شبّان من الشيّاح يأتون الى عين الرمانة لشراء الكحول، وشبّان من عين الرمانة يقصدون الشياح لشراء الحشيش، لطالما كانت العلاقات ودّية، ولولا تدخّل الزعماء وتصريحاتهم المؤثرة على أصحاب العقول الضعيفة، لكنّا في مكان أفضل”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، حرية التنقل ، الحق في الحياة ، عدالة انتقالية ، فئات مهمشة ، حقوق الطفل ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، حراكات اجتماعية ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني