بتاريخ 12/7/2019، أصدرت المحكمة العسكرية الدائمة برئاسة العميد الركن حسين عبدالله حكمها في قضية “المندسين” في مظاهرة الحراك المدني التي جرت بتاريخ 29/8/2015 بإعلان براءة خمسة أفراد من أصل 21 وجهت إليهم مجموعة من الاتهامات منها، “تشكيل مجموعات شغب” قامت “بالاندساس” في مظاهرة سلمية ورشق القوى الأمنية بقنابل المولوتوف والأدوات الحادة ومعاملتهم بشدة وشتم الإدارات العامة والمس بسمعة المؤسسة العسكرية وتخريب المنشآت العامة مما أدى لإصابة عدد من العسكريين بجروح كما أقدموا على إحداث تخريب في عتاد عسكري”.
وللتذكير، تعود هذه القضية إلى صيف العام 2015 حين تمّ إغلاق مطمر الناعمة وما هي إلا أيام حتى غرقت شوارع العاصمة بيروت بالنفايات. بعض الناس يومها عمدوا إلى حرق النفايات سعياً إلى التخلص منها فاختنقت الأجواء بالدخان في ظل ارتفاع حرارة الطقس، فما كان من مجموعة من الشباب سوى التوجه نحو السراي الحكومي ورفعوا يافطات حملت شعار “طلعت ريحتكم”. كان عددهم قليلا جداً ولكنهم كانوا الشعلة التي أطلقت الحراك الشعبي الحاصل اليوم في لبنان.
وبتاريخ 29/8/2015، سارت مظاهرة كبرى شارك فيها عشرات آلاف المتظاهرين. وربما تكون قد أربكت السلطة التي كانت تتخبط في ظل شرعية مشكوك بها نتيجة مجلس نواب مدد لنفسه ومعطل من ناحية وفي ظل عجزها عن إزالة النفايات في الشوارع من ناحية أخرى، لتجد نفسها في مواجهة غضب شعبي واسع. تبعا لذلك، برز توقيف المتظاهرين وإحالتهم إلى القضاء العسكري كأداة لردع التظاهر السلمي. وعليه، تم توقيف العشرات من المتظاهرين لآماد توقيف تراوحت بين أسبوع و 23 يوماً.
ضعف الحراك بعد ذلك. وبعد نحو عامين، أصدر قاضي التحقيق العسكري محمد وهبة قراره الظني بحق 21 متظاهر واعتبر في قراره أنهم قصدوا مكان التظاهرة وعمدوا إلى رمي المفرقعات والحجارة على عناصر القوى الامنية المولجة حماية المؤسسات الرسمية والمالية. كما عمدوا على تجاوز السلاسل الشائكة وتحطيمها وتوجيه عبارات التحقير للأجهزة الأمنية والرسمية، وقد تضررت بنتيجة أعمالهم بعض الآليات العسكرية. كما أصيبت بعض العناصر المولجة بحماية المكان بأضرار جسدية. سلسلة من المواد الجرمية وجهت للشباب وهي المواد: 346 و348 من قانون العقوبات (تجمعات شغب)، 381 عقوبات (تعنيف موظف أثناء ممارسة الوظيفة) 386 عقوبات (الذم بموظف)، 733 عقوبات (تخريب أشياء الغير). والمواد 136 من قانون القضاء العسكري (تدمير سلاح حربي) و157 قضاء عسكري (تحقير الجيش).
استجواب “المندسين”: قاصر تعرّض للضرب ومدعى عليه لم يكن في المظاهرة
قرابة الساعة الثانية من بعد الظهر، بدأت جلسة المحاكمة في هذه القضية. وكان قد حضر خمسة من المدعى عليهم في القضية، إثنان منهم كانوا قاصرين بتاريخ المظاهرة. وكانوا حضروا إلى المحكمة منذ الساعة الثامنة صباحاً حيث تم احتجازهم في قاعة المحكمة العسكرية طيلة النهار بانتظار جلستهم. وقد حضر برفقتهم المحاميان غيدة فرنجية وفاروق المغربي، كما حضرت مندوبة عن الأحداث. أما المدعى عليهم الباقون الذين تغيبوا عن الجلسة، فتمت محاكمتهم غياباً.
وقد قام رئيس المحكمة العميد عبد الله باستجواب المدعى عليهم عن مجريات ما حصل وعما إذا كانوا رشقوا القوى الأمنية بالحجارة.
فأدلى المدعى عليه القاصر أ.ع. بأنه أثناء التحقيق معه كان يتعرض للضرب وقال: “كان المحقق كلما سألني سؤالا، ينادي على أحد ليضربني بوكس لأقول الذي يريده. لكنني لم أرمِ الحجارة وكل ما فعلته هو التظاهر مثل باقي الناس”. فرد عليه الرئيس: “لقد كنت قاصراً وأحداً لم يفعل لك شيئا”.
أما المدعى عليه م. أ. فقال: “أنا كل ما فعلته هو أنني عبرت السياج.” فعاد رئيس المحكمة إلى المتهم الأول وقال له بأن زميله لم يتعرض للتعذيب ولم يدون في التحقيق معه شيء آخر. فعلقت المحامية غيدة فرنجية بأن “التحقيقات معهما تولتها أجهزة أمنية مختلفة. أ.ع. اختفى لمدة 24 ساعة. أما الباقون فكانوا موقوفين لدى قوى الأمن الداخلي في مخفر الجميزة وتمكنوا من مقابلة محامٍ فور توقيفهم وأن أ.ع. صرح لقاضي التحقيق أنه تعرض للضرب.”
كما علّق المحامي فاروق المغربي على سوء معاملة القاصرين خلال احتجازهم من قبل مخابرات الجيش والشرطة العسكرية حيث كان وضعهم المذري واضحاً خلال استجوابهم من قبل قاضي التحقيق.
وأكد أ.أ. أنه شارك في المظاهر السلمية ولم يشاغب ولم يتعرض لأحد.
أما المدعى عليه م.ع. فقال “أنا لم أكن بالمظاهرة وكنت أحتسي القهوة فقط.”
أما ب.ط. فقال أنه تم القبض عليه بينما كان صديقه يشتري البنزين، فرد رئيس المحكمة بأنه كان يشتري البنزين بطلب من المدعى عليه أ.ع الذي طلب منه المساعدة في إشعال النار فرد ب.ط عليه بأنه لا يعرف المدعو أ.ع حتى. وبسؤال المحامية فرنجية، أكّد أنه تم توقيفه بين الساعة السادسة والنصف والسابعة مساءً أي قبل أن يبدأ الاشكال بين القوى الأمنية والمتظاهرين وأنه شاهد المتظاهرين يتجاوزون الأسلاك الشائكة على التلفزيون خلال احتجازه.
وبسؤال المحامية إن تم توجيه أي إنذار للمتظاهرين قبل اقتحام القوى الأمنية للمظاهرة أجاب أ.أ. بالنفي وأنهم هجموا عليهم بشكل مفاجئ
مظاهرة في زمن استثنائي
ترافع المحاميان فرنجية والمغربي عن جميع المدعى عليهم الحاضرين. استهلت المحامية فرنجية مرافعتها بالتأكيد على أن”الوقائع المدعى بها حصلت في زمن استثنائي من تاريخ لبنان. فهي حصلت بعدما عاش اللبنانيون أزمة نفايات عصيبة تهدد أمنهم الصحي والبيئي وبعد تردي الأوضاع المعيشية. كما حصلت خلال زمن كانت فيه جميع آليات الدمقراطية لمحاسبة الحكومة والنوّاب معطلة، في وقت كان النواب قد احتكروا وكالة الشعب لهم بعدما مدّد المجلس النيابي لنفسه مرتين ففقد الشرعية الشعبية وأفقدها للحكومة. كما تقاعسوا عن معالجة أزمة النفايات التي تسببوا بها. وهو ما دفع المدعى عليهم في هذه القضية للتعبير عن استيائهم وغضبهم خلال مظاهرة 29 آب 2015 حيث تجمهر عشرات آلاف المواطنين في ساحتيْ رياض الصلح والشهداء “.
ولفتت إلى “اقتحام المظاهرة من قبل القوى الأمنية بعنف وشدة دون إنذار مسبق لمجرد محاولة بعض الشبان إزالة الأسلاك الشائكة الفاصلة بين ساحة رياض الصلح ومبنى الحكومة، وأقدمت وبشكل عشوائي على توقيف العديد من المتظاهرين المتواجدين في المنطقة القريبة من الأسلاك ومن ضمنهم متظاهرين سلميين. كما طوقوا ساحة التظاهر وأوقفوا العديد من الشبان خلال محاولتهم مغادرة المظاهرة. وقد وثقت وسائل الاعلام وشهود عيان عشوائية التوقيفات وضرب المتظاهرين وسحلهم في ساحة التظاهر وهو ما عكس إرادة سياسية في ضرب حرية التظاهر”.
ولفتت إلى أن “القضاء العسكري الاستثنائي تولى التحقيقات في هذه القضية حيث تم التحقيق مع المدعى عليهم من قبل جهات متعددة (مخابرات الجيش، الشرطة العسكرية، شعبة المعلومات، مفرزة بيروت القضائية وأربعه مخافر لقوى الأمن الداخلي) للاشتباه بقيامهم بأعمال شغب وتعاطي المخدرات، وهي تهم لا تخضع لصلاحية القضاء العسكري”.
قرار عشوائي في اتهام المتظاهرين
واعتبرت فرنجية أن القرار الظني صدر على نحو “عشوائي” وقالت: رغم عدم بروز أي دليل جرمي بحق معظم المدعى عليهم خلال استجوابهم من قبل قاضي التحقيق العسكري، صدر القرار الظني بعد عامين على حصول الوقائع وقضى بإحالتهم جميعاً للمحاكمة أمام المحكمة العسكرية بموجب ست جرائم مختلفة أي جميع المواد التي ادعى بموجبها مفوض الحكومة. وقد جاء القرار الظني مقتضباً دون تحديد المسؤوليات الفردية لكل من المدعى عليهم ودون توضيح الأدلة المستند إليها للظن في مخالفة لأبسط المبادئ القانونية. وأكّدت أن مثول م.ك. أمام هذه المحكمة وهو الذي لم يكن حتى مشاركاً في المظاهرة، هو أكبر دليل على عشوائية التوقيفات والعشوائية في إصدار القرار الظني.
ثم تناولت جميع مواد الاتهام الموجهة بحق الشباب واحدة تلو الأخرى وطالبت بإبطال التعقبات بحق جميع المدعى عليهم لعدم توفر العناصر الجرمية ولعدم كفاية الدليل بالنسبة لجميع الجرائم المدعى بها.
متهمون من دون وجود ضحايا
وفي المادة 381 عقوبات التي تتعلق بـ”تعنيف موظف أثناء ممارسته الوظيفة” وسألت:”من هم العناصر المصابون؟ كيف أصيبوا؟ وما هي إصابتهم وخطورتها؟” مشيرة إلى أنه “لم يتم ضبط إفادة أي عنصر أمني خلال التحقيقات المؤلفة من 150 صفحة، كما لا يتضمن الملف أي تقرير طبي يوثق الإصابات واي إشارة حتى إلى وقوع إصابات ضمن صفوف القوى الأمنية”. فهل يجوز إدانة أي شخص بمعاملة القوى الأمنية بشدة دون التعرف على هوية العنصر الذي وقع ضحية هذه المعاملة والضرر الذي لحق به؟”
كما رأت أن الملف يخلو من أي دليل على إقدام المدعى عليهم بتحقير المؤسسة العسكرية مؤكدة أن “الشعارات التي تطلق خلال التظاهر للتنديد بسياسات الحكومة تأتي في إطار ممارسة حرية التعبير والتظاهر المكفولة بموجب الدستوروبالتالي لا يجوز المعاقبة عليها”. كما أن “الملف يخلو من أي إثبات على صدور عبارات التحقير للأجهزة الأمنية والرسمية أو للمؤسسة العسكرية”. وسألت:”هل يجوز إدانة أي شخص بشتم الأجهزة الأمنية من دون معرفة ما هي الشتيمة التي نشرها أو قالها؟”
الادعاء على مدنيين بجريمة محصورة بالعسكريين
وفيما خص المادة 136 قضاء عسكري لفتت إلى أن”القرار الظني تحدث عن تحطيم بعض الآليات العسكرية وتحطيم الأسلاك الشائكة الفاصلة بين ساحة رياض الصلح ومجلس الوزراء وذلك لتبرير الادعاء بحق المدعى عليهم بموجب المادة 136 قضاء عسكري دون أن يتضمن أي دليل على ذلك”. فأين هي الآليات والأعتدة العسكرية المحطمة؟ وأوضحت أنه في جميع الأحوال “المادة 136 معطوفة على المادة 134 وهي تنطبق حصراً على الأفعال المرتكبة من قبل العسكريين وليس من قبل المدنيين” .
وأضافت: “أن المادة 136 قضاء عسكري تعاقب العسكري الذي أقدم على تخريب سلاح حربي أو أي شيء آخر يستعمله الجيش في الأعمال الحربية. وأنه على فرض وقوع ضرر بالأسلاك الشائكة، فلا يمكن اعتبارها من الأسلحة الحربية كون أعمال حفظ الأمن خلال المظاهرات لا يمكن اعتبارها من الأعمال الحربية”.
وأوضحت بأنه يتبيّن بوضوح عدم توفر شروط جميع الجرائم العسكرية التي نسبت إلى المدعى عليهم من أجل تبرير صلاحية القضاء العسكري في هذه القضية.
تجاوز السلك الشائك ليس جرماً
وفيما خصت المادة 733 عقوبات المتعلقة بتخريب أملاك الغير، أوضحت فرنجية أن”الملف يخلو من أي دليل على قيام المدعى عليهم بأي فعل يتعلق بتخريب أملاك خاصة تعود للغير” وقالت: “لم نعرف ما هي هذه الأملاك”. وتابعت:”على فرض اعتبار أن الأملاك المعنية هي الأسلاك الشائكة، فإن الملف لا يتضمن أي دليل على حصول ضرر أو تخريب بهذا الشريط، بل فقط اعتراف المدعى عليهم بمحاولة تجاوزه قبل هجوم القوى الأمنية المفاجئ لفض التظاهر. كما أنه لا يوجد صور تثبت وجود معظم المدعى عليهم في منطقة السياج الشائك.”
وأضافت “أن الملف لا يخلو فقط من الأدلة للإدانة بل يتضمن أيضاً أدلة على البراءة بما أن مكتب الحوادث أكد عدم تطابق بصمات جميع المدعى عليهم مع البصمات المرفوعة من مسرح الجريمة”.
واستطردت قائلة: “في مطلق الأحوال، لا يوجد أي نص قانوني يعاقب إزالة السياج أو محاولة اجتيازه”. أضافت أن جميع الأفعال المدعى بها وقعت في إطار ممارسة المدعى عليهم لحقوق أساسية لاسيما الحق بالتظاهر وبمحاسبة الحكومة، وتالياً أن هذه الظروف تزيل الصفة الجريمة عن هذه الأفعال استناداً للمادة 183 من قانون العقوبات على قاعدة أن لا جرم عند ممارسة حق بغير تجاوز.
الشغب: مواد تخالف الدستور والاتفاقيات الدولية والقوى الأمنية لم توجه إنذارا للمتظاهرين
أما بالنسبة للمواد 346و 348 من قانون العقوبات المتعلقة بتجمعات الشغب، فقد ترافع المحامي فاروق المغربي معتبراً أنه “يجب إبطال التعقبات بالجنحة المنصوص عليها في هذه المواد لكون الأفعال المدعى بها تأتي في إطار ممارسة حق التظاهر المكفول بموجب الدستور والاتفاقيات الدولية”.
وذلك لأن “هاتين المادتين تتعارضان مع المادة 13 من الدستور اللبناني والمادة 21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لكونها تمزج بين التظاهر السلمي والتظاهر غير السلمي”.
وشدد على أنه لا يمكن معاقبة تجمعات الشغب إلا في حال توفر عنصر إطلاق الإنذار من قبل السلطة العامة المنصوص عنه في المادة 347 عقوبات. وأن عدم تطبيق المادة 347 فيما يتعلّق بجريمة الشغب يؤدي الى معاقبة جميع المظاهرات السلمية. وبما أنه من الواضح أن القوى الأمنية اقتحمت المظاهرة بشكل مفاجئ دون إطلاق أي إنذار مسبق للمتظاهرين بوجوب التفرّق، فلا يجوز معاقبة المدعى عليهم على التظاهر. كما أضاف أن أفعال المدعى عليهم لا تشكل حريمة بسبب انتفاء النية الجرمية وتوفر الدافع السياسي الشريف وهو محاسبة الحكومة بسبب أزمة النفايات”.
ثم اختتمت الجلسة للحكم وأبقي المدعى عليهم الخمسة موقوفين لغاية صدور الحكم قرابة الساعة الثامنة ليلاً بإعلان براءة المدعى عليهم الخمسة الحاضرين في الجلسة. بالمقابل، صدر حكم بإدانة الأشخاص المحاكمين غيابيا، وهي أحكام تبطل فور مثول هؤلاء واعتراضهم على الحكم.
مقالات ذات صلة:
محامو الحراك (4): العلاقة مع القوى الأمنية
محامو الحراك (5): المحامون والقضاء العسكري
محامو الحراك (6): الإعلام، ممارسة حق الدفاع في قضايا الشأن العام
محامو الحراك (7): النقابة، تقنية التفاوض وتجنَب معارك الشأن العام