معضلة كتلة الأجور في تونس: معدلات قياسية في ظل محدودية نمو الموارد


2019-12-12    |   

معضلة كتلة الأجور في تونس: معدلات قياسية في ظل محدودية نمو الموارد

وقعت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بين مشكلتين أساسيتين، المطالب الاجتماعية والاصلاحات الهيكلية للاقتصاد التونسي. بالنظر إلى تجارب الدول، فإن الإصلاحات الهيكلية عادة ما تتطلب وضعا إجتماعيا مستقرا. هذه الحقائق دفعت مختلف الحكومات إلى الإذعان للمطالب الاجتماعية والتي تتمثل أساسا في التشغيل، وإهمال التنمية والإصلاحات الأساسية للاقتصاد التونسي وذلك عبر خلق مواطن شغل في الوظيفة العمومية باعتبارها أسهل الحلول. سنة بعد سنة، ارتفع عدد الموظفين العموميين وتراجع نمو الاقتصاد التونسي لترتفع نسبة التضخّم وينهار الدينار ويظهر تحدّ جديد يتمثل في ارتفاع هائل لكتلة الأجور. لكن متاعب الحكومات التونسية لم تتوقف عند هذا الحد: فمع تزايد الطلب على القروض الخارجية، فرض صندوق النقد الدولي مجموعة من الإصلاحات أهمها التحكم في كتلة الأجور والعودة بها إلى حاجز 12% من الناتج الداخلي الخام. شرط وإن وافقت عليه حكومة الشاهد إلا أنها تعلم تماما استحالة تنفيذ هذه النقطة خصوصا مع الزيادة التي رفعت قيمة مخصصات الدولة لسداد رواتب موظفيها لتناهز 40% من الميزانية العامة.

كتلة الأجور في قانون المالية 2020

كشفت دراسة أعدتها الإدارة العامة للمصالح الإدارية والوظيفة العمومية برئاسة الحكومة أن عدد العاملين في الوظيفة العمومية تطوّر منذ الاستقلال وإلى حدود سنة 2017 بأكثر من 586146 عونا أي بما يساوي 16 مرة ليبلغ حاليا 690091 مباشر موزعين على النحو التالي: 348166 موظفا مدنيا، 106223 عاملا، 235702 حاملا للسلاح وأصنافا أخرى.

هذا الارتفاع في عدد الموظفين جعل كتلة الأجور تصل في قانون المالية الجديد لسنة 2020 إلى حوالي 19030 مليون دينار بعد أن كانت سنة 2019 ما يقارب 17165 مليون دينار. هذا التطور جاء نتيجة لعدد من المتغيرات التي كان من الضروري أخذها في الحسبان وأهمها الزيادة في الأجور في القطاعين العام والخاص في شهر فيفري لسنة 2019 وشهر جويلية 2019. وتنقسم مخصصات الرواتب لسنة 2020 إلى 17165 مليون دينار بعنوان كتلة أجور سنة 2019 وزيادة بقيمة 1865 مليون دينار توزع كالآتي: 965 مليون دينار بعنوان الانعكاس المالي لبرنامج الزيادة في الأجور لسنة 2018/2019  ويشمل تعديل القسطين الأولين، تعديل إنتدابات وترقيات 2019 بمبلغ قيمته 194 مليون دينار،  إنتدابات سنة 2020 بمبلغ قدره 188 مليون دينار، تدرج وترقيات لسنة 2020 بمبلغ قيمته 100 مليون دينار، تعديل الانعكاس المالي الناتج عن الترفيع في المساهمات المحمولة على المؤجر بقيمة 75 مليون دينار، إتفاقيات قطاعية لسنة 2019 بما قيمته 227 مليون دينار، قسط 2018 لتعديل زيادات الأمنيين والعسكريين بقيمة 176 مليون دينار وأخيرا تعديل تقاعد 2019 وسنة 2018 بمبلغ قيمته 60 مليون دينار.

هذا وتسعى الحكومة إلى تجميد الانتدبات منذ سنة 2016 والاقتصار على الانتدابات العاجلة وتعويض المتقاعدين ويبلغ عدد الخطط المعنية بالانتدابات في سنة 2020 حوالي 7720 بقيمة جملية تقدر بـ 188 مليون دينار.

تطور كتلة الأجور منذ 2011

منذ الثورة وحتى اليوم، تطورت كتلة الأجور في تونس بأكثر من 50% ووصلت في سنة 2019 إلى ما يقارب 15.3% من الناتج الداخلي وهو رقم يعتبر خطيرا جدا بالمقارنة بما يطالب به صندوق النقد من إصلاحات والعودة بكتلة الأجور إلى نسبة 12.4% من الناتج الداخلي الخام. يمينة الزغلامي العضوة باللجنة المؤقتة للمالية والنائبة عن حركة النهضة قالت إن إرتفاع الأجور في السنوات الفارطة ناجم عن مجموعة الاتفاقيات التي تمّ إمضاؤها مع إتحاد الشغل، وأوضحت يمينة الزغلامي في تصريحها للمفكرة القانونية أنه “منذ أشهر وقعت الزيادة في أجور موظفي القطاع العمومي. ثم بعد ذلك، وقعت مجموعة تحركات أفضت إلى إضراب عام مما أفضى بدوره إلى الزيادة في اجور موظفي الوظيفة العمومية”.

هذا وقد إرتفعت الأجور من 9780 مليون دينار سنة 2012 إلى 14751 مليون دينار سنة 2018 لتدخل عتبة الـــــــ 20000 مليون دينار سنة 2020. وترتفع الأجور في تونس بسبب عاملين رئيسين هما:

  • ارتفاع عدد الموظفين وسببه الرئيسي إرتفاع الانتدابات بعد الثورة بسبب التحركات الاحتجاجية المتواصلة منذ سنة 2011. وقد عمدت حكومة يوسف الشاهد إلى تجميد الانتدابات منذ 2016 كحلّ أولي لهذه المعضلة. قرار تجميد الانتدابات وإن لم تكن له آثار كبيرة على نسب البطالة التي حافظت منذ 2016 على نفس المعدلات التي تراوحت بين 15.3% و15.4% بين 2017 و2018 لكنه تسبب في حرمان الشباب المعطل عن العمل من أهم مصدر للتشغيل وهو الوظيفة العمومية والقطاع العام في ظل انكماش الاستثمار في القطاع الخاص. كما أنه تسبب في نقص في الموارد البشرية في بعض الإدارات رغم ارتفاع عدد الموظفين ويعود ذلك حسب إلى سوء توزيع الموظفين حسب الوزير المكلف بالإصلاحات الكبرى توفيق الراجحي. هذا إضافة إلى أن هذا القرار أوجد مشكلة كبيرة في وزارة التربية في ما يتعلق بإنتداب المعوضين مما نتج عنه موجة من التحركات الاحتجاجية المطالبة بالانتداب الفوري.
  • تراجع المقدرة الشرائية للموظف في القطاع العمومي بسبب الأزمة الاقتصادية المتواصلة منذ سنة 2011.

ويعلق هيكل المكي العضو باللجنة الوقتية للمالية والنائب عن حركة الشعب، خلال حديثه ل “المفكرة” موضحا أن الكارثة الحقيقية ليست في إرتفاع الأجور وإنما في أسباب هذا الارتفاع. ويؤكد المكي أن ارتفاع الاجور هو نتيجة لغلاء الأسعار وعدم التحكم في مسالك التوزيع وترك المضاربين يتحكمون في الاقتصاد كما يريدون، وأضاف: “في النهاية وبالنظر إلى نسبة للتضخم وفقدان الدينار لقيمته يمكن اعتبار ارتفاع الأجور تعويضا عن الغلاء”. هذا وقد وصلت نسبة التضخم في تونس في جانفي 2019 حوالي 7.1% بعدما كانت لا تتعدى 3.4% سنة 2016 وهو ما أثر سلبا على أسعار المواد الموردة وعلى القدرة الشرائية للمواطن عموما والموظفين بشكل خاص.

مؤشر آخر يعتبر من أهم المؤشرات الاقتصادية التي تتحكم في القدرة الشرائية للمواطن وعصب الاقتصاد التونسي وهو سعر صرف الدينار. وقد أدت الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي والتي تدعو إلى تحرير الدينار والحد من تدخل الدولة لدعمه، إلى تراجع قيمة الدينار التونسي مقابل الدولار بشكل كبير منذ 2012، كما يعتبر تراجعه مقابل اليورو المؤشر الأخطر بالنظر إلى حجم تعاملات تونس مع دول الاتحاد الاوروبي وهو ما يؤثر سلبا على أسعار جميع المواد المستوردة. في سنة 2012 لم يكن يتجاوز اليورو حوالي 2 دينار ليصل في سنة 2019 إلى ما يقارب 3.15 دينار لليورو الواحد. هذا الانهيار أثر بشكل كبير على عدة مؤشرات إقتصادية أخرى، أهمها نسبة النمو ونسب التضخم والاستثمار الاجنبي وقيمة الديون الخارجية. ورغم الارتفاع الهائل للأسعار والذي طال أغلب المنتجات الأساسية والكمالية وتأثيرها الملموس على المقدرة الشرائية، فإن المنذر بن عطية المقرر المساعد في اللجنة الوقتية للمالية والنائب عن ائتلاف الكرامة، يؤكد للمفكرة أن المستوى الحالي لكتلة الأجور وحجمها بالنسبة لميزانية الدولة والتي بلغت 40% تقريبا تمثل مؤشرا مرعبا مقارنة بباقي الدول النامية والمتقدمة على حد سواء.

تجربة الخطوط الجوية التونسية: حدود خيار التسريح الطوعي

صادق مجلس النواب الشعب في جانفي 2018 على مشروع القانون المتعلق بالمغادرة الاختيارية للأعوان العموميين. ويُمكّن القانون العاملين في الوظيفة العمومية أو مؤسسات القطاع العام والراغبين في مغادرة وظائفهم من الخروج الطوعي والحصول على منحة مغادرة تصرف دفعة واحدة وبقيمة 36 أجرا شهريا صافيا. وكانت شركة الخطوط الجوية التونسية أول من بدأ في تطبيق هذا القانون في إطار إعادة هيكلة الشركة نظرا لما تتعرض له من انتقادات كبيرة بسبب سوء خدماتها وتأخر رحلاتها بشكل دائم والتراجع المتواصل في مداخيلها. وقد صرح وزير النقل رضوان عيارة في فيفري من العام الماضي أن الشركة تعتزم تسريح 1200 عامل بشكل طوعي سعيا لخفض الأجور ضمن برنامج إصلاحي يشمل أيضا تجديد أسطول الشركة وتحسين الخدمات مع توقع احتدام المنافسة في الوقت الذي تستعد فيه تونس لتوقيع اتفاق السماوات المفتوحة مع الاتحاد الأوروبي. لكن يبدو بحسب رأي النائبة السابقة في حركة النهضة أن هذا القانون لم يحقق أهدافه وأصبح مثالا سيئا في تجربة خفض عدد الموظفين. الزغلامي قالت أن طريقة تطبيق هذا القانون أتت بنتائج عكسية لتوضح قائلة: “تم إقتطاع قيمة القروض التي تحصل عليها الموظفون المغادرون دفعة واحدة من المبالغ التي كانت ستسلم إليهم، مما جعلهم في وضعية سيئة وهو ما نتج عنه عزوف باقي الموظفين عن المغادرة”. لكن نائب حركة الشعب هيكل المكي كان له رأي أخر. فقد اعتبر المكي أن الدولة قامت بالاتفاق مع النقابات والنقابات وافقت على كل التفاصيل الخاصة بعملية التسريح الطوعي، لكن الدولة لم توفر الاعتمادات المالية بعنوان التعويض عن المغادرة، وهو ما أفشل جميع المساعي وأضاف: “تجربة شركة الطيران المغربية جيدة في تسريح الموظفين. لكن الدولة المغربية سعت إلى فتح أسواق وخطوط جديدة في إفريقيا وأماكن أخرى من العالم. في المقابل ماذا فعلت حكومتنا في إطار إصلاح الخطوط التونسية؟”

الحلول المقترحة لأزمة الأجور

لا تمتلك الطبقة السياسية اليوم حلولا حقيقية لإعادة هيكلة الوظيفة العمومية، والتي قد تؤتي أكلها على المدى القريب. كما لم تطرح أي من الحكومات المتعاقبة سوى حلولا للترقيع والهروب إلى الأمام إزاء حالة الانكماش الاقتصادية. لكن أغلب السياسيين متفقون أن ارتفاع كتلة الأجور هو نتيجة حتمية لما تعيشه تونس من أزمات اقتصادية متواصلة. إذ يرى المنذر بن عطية النائب عن إئتلاف الكرامة أن الدفاع عن المقدرة الشرائية للمواطن لا يكون بالزيادة في الأجور وإنما بالضغط على الأسعار ومحاربة الاحتكار. ويعتبر بن عطية أن محاربة الفساد سيؤدي إلى تنمية إقتصادية تنتج إنفراجا يخفض من وطأة كتلة الأجور على الموازنة العمومية. أما هيكل المكي النائب عن حركة الشعب فيرى أنه من الخطأ تحميل كتلة الأجور كل أسباب العجز المالي والإقتصادي، والأجدى بالنسبة له الإلتفات إلى الفساد وارتفاع الأسعار والمحتكرين والتهريب. كما يرى المكي أنه بالنظر إلى وضع تونس حاليا، فعدد الموظفين عدد عادي جدا وهو يوضح: “أغلب الانتدابات كانت في الأمن والجيش وهو أمر طبيعي بالنظر إلى تزايد التهديدات الأمنية التي تعيشها تونس. كما أن الإنتدابات الأخرى حصلت في قطاعات حساسة مثل التعليم والصحة. ورغم ذلك فما تزال هذه القطاعات تعاني نقصا في عدد الموظفين”. لكن النائبة السابقة عن حركة النهضة يمينة الزغلامي اعتبرت أن ارتفاع عدد الموظفين يرجع إلى عدم التمكن من رقمنة الإدارة وتواصل الاعتماد على العنصر البشري. أما بالنسبة للحلول، فأشارت الزغلامي ل “المفكرة” أن حركة النهضة، ومن خلال برنامجها الاقتصادي، تدفع نحو المبادرة الخاصة، وهو ما تجلى في عدة خطوات ترجمتها إلى واقع ملموس على غرار المصادقة على قانون تحفيز الاستثمار الذي بدأت أوامره التطبيقية تُنشر تباعا. لتضيف في نهاية مداخلتها أن الحل الحقيقي لمعضلة كتلة الأجور لا يكمن في الوظيفة العمومية إنما في القطاع الخاص”.

تفيد القاعدة الإقتصادية أنه عندما ترتفع نسبة الميزانية من الناتج الداخلي الخام فهذا دليل على أن اقتصاد الدولة يعيش على وقع أزمة. في تونس إرتفعت الميزانية من 19000 مليون دينار سنة 2010 إلى 47000 دينار سنة 2019. ارتفاع تزامن مع زيادة هائلة في كتلة الأجور التي وصلت في سنة 2019 إلى ما يقارب 40% من الميزانية. هذه النسبة التي تعتبر قياسية بالنسبة للمعدلات العالمية حسب صندوق النقد الدولي، لا يبدو أنها ستجد طريقا نحو التراجع في ظل غياب أي تصورات لحلول جذرية وفي ظل إدارة تعاني من البيروقراطية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حقوق العمال والنقابات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني