معادلة مؤسسات الاقتصاد التضامني الصعبة: الخصوصية والديمومة


2020-11-17    |   

معادلة مؤسسات الاقتصاد التضامني الصعبة:  الخصوصية والديمومة

يُعرّف المشرّع مؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي بكونها “مجموع الأنشطة الاقتصادية ذات الغايات الاجتماعية المتعلقة بإنتاج السلع والخدمات وتحويلها وتوزيعها وتبادلها وتسويقها واستهلاكها التي تؤمنها مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، استجابة للحاجيات المشتركة لأعضائها والمصلحة العامة الاقتصادية والاجتماعية”. ويستشفّ من هذا التعريف أن تلك المؤسسات تتمايز في تصورها الوظيفي عن المؤسّسات الاقتصادية الاستثمارية الربحية بكونها كيانات اقتصادية هدفها خدمة القضية الاجتماعية وتحقيق التنمية ولكنها في المقابل لا تنفذ سياسة الدولة ولا تخضع لسلطتها. وتفرض هذه الخصوصية السؤال عن تفاصيلها كتحري شروط تلاؤمها مع دينامية الحياة الاقتصادية وقواعد التنافسية التي تحركها.

الوظيفة الاجتماعية للمؤسسة: معايير من خارج المجال

يصنف القانون مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي في خانة المؤسسات ذات الغايات الاجتماعية بما يكون معه أهداف نشاطها، وحسب حرفية نصه، هي “توفير ظروف عيش لائقة بغاية الإدماج والاستقرار الاجتماعي والترابي تحقيقا للتنمية المستدامة والعمل اللائق زيادة على  نشر “قيم التضامن الاجتماعي” و”تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثورة” و”الرفاه الاقتصادي والاجتماعي وتحسين جودة الحياة”. و هي بذلك أداة لمعالجة الإشكاليات الاجتماعية والتنموية ووسيلة تحقيق لتطلعات التصور الاعتيادي للمؤسسة الاقتصادية والذي يربط وجودها بعملية الإنتاج وعلاقاته ويستند في تقييم أدائها لمعيار الربحية دون سواه. فتستحيل العملية الإنتاجية التي يمثلها هذا النمط الإنتاجي جزءا من مشروع سياسي تنموي.

يُذكّر المشروع السياسي في علاقته بالنشاط الاقتصادي بالطرح الاقتصادي الاشتراكي وبقيم مؤسسات القطاع العام التي تدير المرافق العمومية لجهة أنه يلقي على المؤسسة واجب تحقيق التنمية وضمان التوزيع العادل للثروة زيادة على لعب دور في حل المشاكل الاجتماعية. لكنه يتميز عنه بأنه لا يستند لموارد الدولة ولا ينفذ مخططاتها التنموية بل يعتمد على المبادرة الخاصة وعلى التشارك كممارسة تستجيب لتطلعات مشتركة وتكون نتيجة لها.

كما يلتقي مع فكرة المسؤولية المجتمعية للمؤسسة التي تعني أن تخصص المؤسسة جانبا من مداخيلها لتطوير محيطها. ولكنه يتميز عنها بأنه لا يوجه اهتمامه لمحيطه الاجتماعي والبيئي في سياق تعويضي أي في إطار اعتراف بدور نشاطه السلبي عليه[1] ولكن باعتبار حماية ذاك المحيط وتطويره هدفا وموضوع عمل.

فتكون هنا مؤسسات هذا الاقتصاد نتاجا لمحيطها المجتمعي ووسيلة دمقرطة لبنيته كما هي عنوان قيم مختلفة لاقتصاد ينتظر منه أن يستثمر في الإشكاليات التنموية. وعليه، يؤمل أن يحوّل هذا الاقتصاد البطالة إلى فرصة عمل في وقت تعمل فيه الأنماط الإنتاجية الأخرى على تخفيف تعويلها على قوة العمل طلبا للحد من كلفة الإنتاج. كما يؤمل أن يحوّل هذا الاقتصاد ضعف البنية التحتية إلى دافع على الإنتاج في وقت تُعدّ في غيرها سببا لتعطيله.

تنتهي هذه الخصوصيات لإعلان الاقتصاد التضامني والاجتماعي اقتصادا يلتزم – وكما فرض ذلك نص القانون صراحة -” بأولوية الإنسان والغاية الاجتماعية على رأس المال”. وتفرض أهمية المشروع بقيمه المجتمعية والسياسية تلك السؤال عن فرص نجاحه فعليا في محيط اقتصادي يدين بقيم الربحية.

الجدوى الاقتصادية: شروط الصمود والتطور

يحاول أنصار القطاع العام في كل مناسبة يكون موضوعها الحديث عن أدائه التنبيه لكون هدفه التشغيلي والدور التنموي الذي يلعبه يجعل من المجحف في حقه اعتماد الربح كمعيار للتقييم. وقد يكون ذاك القول مؤسسا فعليا ونظريا اعتبارا لكون التدخل الاقتصادي لهذا القطاع كثيرا ما يكون الدافع عليه تأمين الحق في الخدمة وتحقيق التنمية. إلا أن هذه الاعتبارات لم تمنع النظر إلى قدرة تلك المؤسسات على منافسة القطاع الخاص وحساب خسارتها لتحديد الحاجة لمواصلة التعويل عليها من عدمه. وهو ما يقيم الدليل على كون الحديث التشريعي عن غياب الأولوية الربحية والأدوار الاجتماعية لمؤسسات الاقتصاد التضامني لا يمكنه أن يضمن استمرارها ما لم تعاضده ربحية وقدرة على التطور في محيط تنافسي يمتاز فيه عليها القطاع الخاص بثقافة الربح وخلق الثروة والقطاع العام باحتكار قطاعات حيوية وبسهولة الوصول للتمويل العمومي كلما احتاجه. ونقدّر هنا أن لتحقيق نجاعة الأداء تلك شروط بعضها تتحمل مسؤولية تحقيقه الدولة وبعضها الآخر المنتمون لحلقة الإنتاج فيما يكون كذلك فيها لحس المواطنة والتزام حقوق المستهلك دور لا يقل أهمية عما سبقه.

مسؤولية الدولة

تأمل السلط العمومية أن يكون الاقتصاد التضامني بوابة إصلاح لمنوالها التنموي. فتنتظر منه أن يحدّ من ظاهرة الاقتصاد الموازي كما تأمل أن تخفف حيوية مؤسساته من ضغط الحراك الاجتماعي للمعطلين عن العمل. وسعيا لتمكين تجربته من فرص نجاح فعلي تنسي فشل تجربة التعاضد التي سبقته، ضمن المشرّع لتلك المؤسسات الأمور الآتية:

  • امتيازات جبائية:

أرسى الفصل 17 من القانون عدد 30 لسنة 2020 مبدأ تخصيص مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي بامتيازات جبائية. وينتظر تاليا صدور الأمر الحكومي التطبيقي الذي سيحدّد مضمونها. وتبدو فكرة التحفيز الجبائي مهمة خصوصا وأنها قد تكون سببا في تطوير قدرة مؤسسات الاقتصاد التضامني التنافسية.

  • خطوط تمويل:

نص القانون فيما تعلق بتمويل مؤسسات الاقتصاد التضامني على استحداث “صندوق ضمان” يكون سندا لها في طلب الإقتراض من المؤسسات المالية ولا يعلم هنا ما سيتوفر لهذا الصندوق من أموال وبالتالي ما سيكون له من قدرة على توفير ضمان الخلاص للمقترضين لعدم صدور الأمر المنظم له بعد. كما ذكر ذات القانون بإمكانية بعث بنوك تعاضدية. ويلاحظ هنا أن هذا التذكير قد لا يكون ذا أثر لغياب فرص جدية لنجاح مثل تلك التجربة في السوق المالية التونسية التي تعاني من كثرة البنوك وضعف الموازنات.

  • تخصيص كوتا في الطلبيات العمومية:

ألزم المشرع الإدارة بتخصيص “نسبة من الطلبات العمومية لفائدة مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني مع احترام مبدأ المنافسة وتكافؤ الفرص بينها”[2]. وينتظر أن يكون لهذا الامتياز دور هام في تنشيط الحركية الاقتصادية لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي، خصوصا أن الإحصائيات الرسمية تبين أن المستثمر العمومي يحتكر لوحده 45% من الاستثمارات بتونس[3] .

يبدو عند هذا الحد استعمال الدولة لما لها من صلاحيات مالية وجبائية لفائدة الاقتصاد البديل مبشرا. ويظهر استحداث “المجلس الأعلى للاقتصاد الاجتماعي والتضامني” وتكليفه بصياغة تشاركية للتوصيات التي تضمن تطور هذا النمط الإنتاجي خطوة مهمة في اتجاه إدارة ديمقراطية لهذا الاقتصاد الجديد الذي يظل أداء من يؤسسون تجربته العنصر الأساسي الذي سيحدد مستقبل وجوده وأدائه.

مسؤولية الفاعلين في مجتمع الاقتصاد التضامني

تتميّز تجربة الاقتصاد التضامني عن تجربة التعاضد التي شاركتها منطلقاتها وسبقتها زمنيا بكون المبادرة لاعتمادها انطلقت من القوى الاجتماعية وليس بفعل قرارات مفروضة من المركز. ويكون بالتالي ما يميز هذه التجربة من روح تطوع وتحمس لها من المشاركين فيها هو رصيدها الحقيقي، والذي يمكن أن يكون سبب نجاعتها الاقتصادية وديمومتها لأنه يكتنز ميزاتها التفاضلية والتي تتمثل أساسا في المساواة بين الشركاء وتشابك المصالح وتكاملها.

  • المساواة بين الشركاء: ميزة تصنع الشفافية وتعزز الحوكمة

يحط  الاقتصاد التضامني من قيمة الرأس مال في مقابل إعلائه قيمة الإنسان. وفي هذا السياق، أقر قانونه مبدأ “صوت واحد لكل شريك”. تمنع هنا المساواة بين المساهمين هيمنة من لهم النصيب الأكبر من رأس المال على إدارة المؤسسة. وتؤدي بالتالي لشفافية في تداول المعلومات بشكل شفاف حول كل المعاملات المالية بما يعزز الحوكمة في الاقتصاد التضامني وقد يكون من أسباب صلابة مؤسساته.

  • تشابك المصالح وتكاملها: ميزة تنافسية

تفرض مبادئ هذا الاقتصاد ألا يكون الربح الهدف الوحيد لمن يختارونه كنمط إنتاج وأن يكون عنوان جهدهم البحث عن المصلحة المشتركة. ويؤدي هنا استبدال الربح بالمصلحة للقبول بفكرة أن يكون المساهم حريفا لمؤسسته في حين أن ذلك يكون في الشركات الربحية من صور تضارب المصالح المحجر. ويمكن هنا أن يكون لقاء المصالح وتبادل المنافع بين الأعضاء بما يمثله من قرب وعدم حاجة لجهد تسويقي عاملا هاما لإعطاء الأفضلية لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي على منافسيها، خصوصا في نسيج الاقتصاد داخل المناطق والجهات.

مسؤولية المستهلك

يعد الاقتصاد التضامني اقتصاد التزام بالمجتمع وبخدمة الآخر تؤسسه تلك القيمة وينشط لأجلها. وقد يكون ثقل هذه المسؤولية رغم كثرة المحفزات وروح التطوع سببا في عرقلة تجربته. ويمكن هنا أن يكون المستهلك الذي يخدمه هذا الاقتصاد سببا في تجاوز هذه الصعوبات متى شارك الإلتزام.

يذكر هنا أن القانون أرسى علامة مميزة لمؤسسات الاقتصاد التضامني ونظم شروط إسنادها بشكل يمنع نظريا على الأقل كل إمكانية للتلاعب بها. وقد تكون هذه العلامة سببا في ازدهار هذا الاقتصاد متى استحالت عنصر اختيار يعتمدها المستهلك فيقبل على المواد التي تحملها لعلمه أن جانبا من الأموال التي سيصرفها لأجلها ستوجه لخدمة المجتمع وأن من ينتجونها مناضلون آمنوا بالاقتصاد العادل ومضوا في سبيل بنائه رغم قلة ما يحققه لهم من دخل.

 

 

نشر هذا المقال بالعدد 19 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بين زمنين

 

[1]  عرف القانون عدد 35 لسنة 2018 مؤرخ في 11 جوان 2018  المتعلق  بالمسؤولية المجتمعية للمؤسسات تلك المسؤولية بكونها مبدأ المصالحة بين المؤسسات ومحيطها البيئي والاجتماعي من خلال مساهمتها في مسار التنمية المستدامة والحوكمة الرشيدة وفقا للتشاريع الجاري بها العمل.وتتنزل المسؤولية المجتمعية للمؤسسات ضمن المبادئ التي كرسها الدستور والمجتمع الدولي إستنادا إلى ميثاق الأمم المتحدة للمسؤولية المجتمعية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق منظمة العمل الدولية وإعلان ريو بشأن البيئة والتنمية.وتعتبر المسؤولية المجتمعية مبدأ تنتهجه المؤسسات حرصا منها على ضرورة تحملها مسؤولية تأثير نشاطها على المجتمع والبيئة من خلال تبني سلوك شفاف يعود بالفائدة على المجتمع جهويا.

[2]  الفصل 16 من القانون عدد 30 لسنة 2020 .

[3] Institut Tunisien de la Compétitivité et des Études Quantitatives 13 avril 2018 – Le défi de l’investissement

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، مجلة ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني