مشروع تعديل قانون الاجراءات الجنائية: لمن ينحاز المُشرع المصري؟


2018-01-13    |   

مشروع تعديل قانون الاجراءات الجنائية: لمن ينحاز المُشرع المصري؟

في الفترة الأخيرة، وُجهت انتقادات للنظام القضائي المصري بسبب الأحكام الصادرة منه، مثل الأحكام الصادرة بالإعدام أو الأحكام ضد ناشطين ومعارضين ومدافعين عن حقوق الإنسان. كما تقوم المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والعدالة بطرح تساؤلات حول مدى التزام السلطة القضائية في مصر بضمانات المحاكمة العادلة كما هي منصوص عليها في الشرعة الدولية. ويُعد قانون الإجراءات الجنائية القانون الأهم لضمان عدالة المحاكمة. وعليه، قام المشرع خلال السنوات القليلة الماضية بإدخال تعديلات متكررة عليه وسط انتقاد البعض وترحيب البعض الآخر. فقام المُشرع المصري متمثلاً في رئيس الجمهورية ومجلس النواب، منذ 2011، بتعديل قانون الإجراءات الجنائية خمس مرات في أعوام 2013[1]،  2014[2]، 2015[3]، و2017[4]. بالإضافة إلى تعديل القانون الخاص بطرق الطعن أمام محكمة النقض، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاُ بقانون الإجراءات الجنائية. وهي التعديلات التي أدت إلى إلغاء الحد الأقصى للحبس الاحتياطي في بعض الجرائم[5]، وإعطاء المحكمة الحق في عدم سماع الشهود[6]. كما أعطت الحق للمحكوم عليه بالحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر أن يطلب تشغيله خارج السجن بدلاً من تنفيذ العقوبة[7]، بالإضافة إلى النص على نظر محكمة النقض، في حالات محددة، لموضوع الدعوى عند نقضها للحكم[8]. ولكن الانتقادات الموجهة إلى الإجراءات المتبعة في التحقيقات وأثناء المحاكمة لم تتوقف بعد هذه التعديلات. وفي أغسطس 2017[9]، قامت الحكومة بتقديم مشروع قانون لتعديل قانون الاجراءات الجنائية إلى البرلمان الذي قام بتعديله على ضوء ما كانت أعدته لجنة الإصلاح التشريعي في 2015. بعد ذلك أرسلت النسخة المعدلة لقسم التشريع بمجلس الدولة[10]، الذي أبدى ملاحظاته على المشروع وأرسلها للبرلمان في نهاية سبتمبر 2017. وتمت الاستجابة لبعض ملاحظاته في النسخة التي يتم مناقشتها حالياً. وسيؤدي هذا التعديل، في حال إقراره، إلى تغيير كبير في القانون الحالي حيث يعدل ويحذف فقرات ومصطلحات ويستحدث أبوابا ومواد كاملة[11]. وهو الأمر الذي دفع قسم التشريع بمجلس الدولة بالتوصية بأن يقوم المشرع بإصدار قانون جديد متكامل يستوعب كافة التعديلات الراهنة والسابقة، معتبراً أن هذا الأمر سيكون من الأوفق تشريعياً.

وحيث أن مشروع التعديل سيؤدي إلى تغيير حقيقي في النظام الجنائي المصري، فإنه يتوجب علينا تناوله على حلقات لتغطية كافة جوانبه وإلقاء الضوء على إيجابياته وسلبياته. وقبل أن نتناول نصوص القانون بالتحليل والمناقشة حول مدى التزامها بنصوص الدستور والمبادئ الدولية، في المقالات القادمة، علينا أولاً أن نقرأ المشروع، محاولين التوصل إلى هدف وغاية المُشرع المصري من وراءه، ولمن انحاز فيه.

استجابة التعديل لرغبات سلطات الدولة

يُدخل المُقترح تعديلات على القانون تضفي صفة الضبطية القضائية على أفراد تابعين لوزارة الداخلية كما توسع من أماكن احتجاز المواطنين، بالإضافة إلى تقنينه لممارسات حالية كانت تُعتبر غير قانونية وتنتهك حقوقا دستورية. وهو الأمر الذي يجعل هذه التعديلات بمثابة استجابة لطلبات سابقة من سلطات الدولة المختلفة، مما يعكس انحياز المُشرع للسلطة على حساب المواطنين.

– تنفيذ رغبات وزارة الداخلية

نلاحظ أن المشروع استجاب لرغبات السلطة التنفيذية بشكل كبير في توسيع صلاحيات بعض الجهات، أو تقنين اجراءات وتدابير تعتبرها ضرورية.

فعلى سبيل المثال، قام التعديل المُقترح بإعطاء أفراد قطاع الأمن الوطني والأمن العام صفة الضبطية القضائية[12]. وهو الأمر الذي يندرج ضمن سياسة الدولة في السنوات الأخيرة في إضفاء هذه الصفة على كثير من الموظفين العموميين مثل موظفي الأمن في الجامعات[13]، وهم ذو اختصاص نوعي خاص حيث يختصون بالجرائم التي تقع في دوائر اختصاصهم ومتعلقة بأعمال وظائفهم. أما الجديد في هذا التعديل، فهو إعطاء أفراد قطاع الأمن الوطني والأمن العام اختصاصا عاما في جميع أنحاء الجمهورية، وبالتالي يكون من اختصاصهم القبض على مواطنين، في الأحوال التي نص عليها القانون، وتحرير محاضر رسمية. وهو الأمر الخطير نظراً لسوء سمعة هذه القطاعات وانتهاكها لحقوق المواطنين قبل الثورة وبعدها. بالإضافة إلى ذلك، أشار قسم التشريع بمجلس الدولة في ملاحظاته إلى طلب النيابة العامة بإضافة فقرة إلى هذه المادة تعطي النائب العام الحق في أن يخول بعض موظفي النيابة العامة صفة الضبط القضائي. وهو الأمر الذي يكشف عن اعتبار أجهزة الدولة الضبطية القضائية كنوع من الوجاهة الاجتماعية التي يجب التصارع حولها، وعدم السماح لجهة أن تستحوذ على هذه الصفة دون الأخرى، دون الأخذ بعين الاعتبار تأثير الإكثار من مأموري الضبط القضائي على الحق في الحرية الشخصية وحرمة الحياة الخاصة للمواطنين. فازدياد عدد مأموري الضبط القضائي يسمح بمزيد من الرقابة على المواطن والاشتباه فيه والقبض عليه تحت دعوى “التلبس بجريمة” دون ضوابط واضحة. ونطرح هنا تساؤلا حول الرسالة التي يكشفها هذا الأمر: فهل ارتفع معدل الجريمة في مصر إلى حد الإكثار من عدد مأموري الضبط القضائي إلى هذا الحد؟ ولماذا تصر السلطة التنفيذية على التوسع، على فترات، في إضفاء صفة الضبطية القضائية على موظفيها حتى نتساءل اذا كنا سنصل إلى إضفاء هذه الصفة على جميع موظفي الدولة؟

بالإضافة إلى ذلك، قام التعديل بزيادة الأماكن المخصصة لحجز المواطنين أو حبسهم بمقتضى أمر قضائي. فبينما ينص القانون الحالي على السجون فقط كأماكن للاحتجاز والحبس، ينص التعديل المقترح على “الأماكن والسجون”، من دون تحديد هذه الأماكن على وجه الحصر. وهذا الأمر يتيح لوزارة الداخلية تخصيص أي مكان لاحتجاز المقبوض عليهم والمتهمين. وبالتالي، يستجيب المقترح لما تتبعه وزارة الداخلية حالياً من احتجاز المتهمين في أماكن غير السجون مثل معسكرات الأمن المركزي.

– تقنين التعديات على حقوق المواطنين

على جانب آخر، من شأن التعديل المقترح تقنين تدابير تُتخذ حالياً من دون أن يكون لها أي سند قانوني. فمنذ 2013، كثفت السلطات المصرية من إصدار قرارات منع من السفر بحق معارضيها[14]، تحت حجة التحقيق معهم في قضايا متهمين فيها؛ وبالتالي هو إجراء احترازي لمنع هروبهم. ولم يكن الممنوع من السفر يُبلغ بقرار منعه، بل كان يكتشف الأمر أثناء تواجده بالمطار استعداداً للسفر. وتعتبر هذه القرارات، حتى اللحظة، من دون أي سند قانوني وهي تخالف الحق في حرية التنقل المكفول في المادة 62 من الدستور المصري[15]. ولكن طبقاً لمشروع القانون الحالي، فإن المنع من السفر سيصبح إجراء قانونيا مُنظما في قانون الإجراءات الجنائية. فالمشروع المُقدم أفرد فرعا كاملا لتنظيم “منع المتهم من التصرف في أمواله وإدارتها والمنع من السفر”. وبالتالي يصبح، وفقاً للمادة 155 المقترحة، من حق النائب العام أو من يفوضه (وكلاء ورؤساء النيابة العامة) وقاضي التحقيق إصدار قرارات منع من السفر أو وضع اسم مواطن على قوائم ترقب الوصول، مع إعلان الشخص الصادر بحقه القرار.

إلى جانب ذلك، وبعد محاولات وزارة الداخلية المتكررة في السنوات الأخيرة لفرض رقابة على مواقع التواصل الاجتماعي بشتى الطرق[16]، وبعد قيام أعضاء النيابة أثناء التحقيق بالتفتيش في الهاتف الخلوي للمتهم دون أي سند قانوني لذلك، يأتي التعديل المقترح ليقنن هذه الإجراءات. فحسب المادة 81 من التعديل المقترح، فإن عضو النيابة العامة، يستطيع أن يأمر بمراقبة “مواقع التواصل الاجتماعي والبريد الالكتروني والرسائل النصية أو المصورة على الهاتف الخلوي وضبط الوسائط الحاوية لها”. ولم يحدد المُقترح إذا كانت هذه المراقبة تسري على المشتبه به فقط أم تسري كذلك على أشخاص قريبين منه مثل أسرته وأصدقائه؛ مما يتيح مراقبة حسابات عدد كبير من الناس دون حاجة حقيقية لذلك في بعض الأحيان.

بالإضافة إلى ذلك، أعطى مشروع القانون في المادة 68 النيابة العامة الحق في تكليف شخص آخر غير كتبة النيابة العامة بكتابة أو تحرير المحاضر بعد تحليفهم اليمين. وهو الأمر الذي يقنن ممارسات النيابة العامة الأخيرة بالاستعانة بأمناء الشرطة لتحرير المحاضر في قضايا يُعتبرون الخصوم فيها حيث يقومون بالقبض العشوائي على المتهمين وتعذيبهم نفسياً وجسدياً قبل عرضهم على النيابة العامة[17]؛ مما يعصف بمبدأ حيادية التحقيق.

تكريس جمع النيابة العامة بين سلطتى التحقيق والاتهام

فرق قانون الإجراءات الجنائية، عند إصداره عام 1950، بين سلطتي التحقيق والاتهام، حيث نص على سلطة النيابة العامة في رفع الدعوى الجنائية أي توجيه الاتهام[18] واختصاص قاضي التحقيق بإجراء التحقيقات[19]. ولكن في عام 1952، تم تعديل القانون[20] ليتيح للنيابة العامة إجراء التحقيق وندب قاضي تحقيق اذا استدعت الحاجة. وبالتالي أصبح التحقيق اختصاصاً أصلياً للنيابة العامة[21]، مما ترتب عليه جمع النيابة العامة، منذ ذلك التاريخ بين سلطتي التحقيق وتوجيه الاتهام.

ويشار إلى أنه كان تم دسترة هذا الاختصاص بموجب المادة 189 من دستور 2014، التي نصت على اختصاص النيابة العامة بالتحقيق وتحريك ومباشرة الدعوى الجنائية. ويأتي التعديل الحالي لتطبيق النص الدستوري بتعديله للمواد[22] التي تنظم التحقيق واستحداث فصل كامل ينظم مباشرة النيابة العامة للتحقيق[23].

ويتم في مصر توجيه انتقادات لجمع النيابة العامة بين هاتين السلطتين، حيث يعتبرون أن هذا الجمع يؤثر على حيادية التحقيق حيث يؤدي إلى انحياز النيابة العامة ضد المتهمين، وعدم افتراض براءتهم بشكل جدي[24]، مما يجعل منها خصماً وحكماً. وتأتي هذه الانتقادات على ضوء أداء النيابة العامة في السنوات الأخيرة في القضايا ذات الطابع السياسي[25]، والتي كشفت عن انحياز النيابة في أحيان كثيرة لرواية السلطة التنفيذية، وسماحها بانتهاكات قام بها أفراد من وزارة الداخلية[26].

المحاكمة العادلة في مواد القانون

تبرز مبادئ المحاكمة العادلة عند الحديث عن قانون الإجراءات الجنائية، حيث أنها تطبق في الأصل على هذا القانون. وعند قراءة المُقترح، لا نستطيع أن نقول أنه يتوافق أو يختلف كلياً مع هذه المبادئ.

– التقاضي على درجتين

ففي خطوة لتكريس حق التقاضي ومبدأ التقاضي على درجتين، يهدف التعديل الراهن إلى إحداث تغيير جذري في النظام القضائي الجنائي المصري، حيث يستحدث الطعن بالاستئناف على مواد الجنايات. فالقانون الحالي لا يتيح الطعن على الأحكام الصادرة من محاكم الجنايات، التي تُعتبر على درجة محاكم استئناف، إلا أمام محكمة النقض. وعملا بالتعديل، تصبح الأحكام الصادرة في مواد الجنايات أحكاما قابلة للاستئناف[27]. ويندرج هذا الأمر في إطار الاستجابة للمادة 96 من الدستور التي نصت على “..وينظم القانون استئناف الأحكام الصادرة في الجنايات”. ويحترم هذا التعديل شروط المحاكمة العادلة التي تكفل الحق في الاستئناف؛ والذي يعني ضرورة أن يفحص القضاء القضية المعروضة على مرحلتين في الحد الأدنى[28].

– إلغاء الأحكام الغيابية في مواد الجنح

وعلى الجانب الآخر، يؤول التعديل إلى إلغاء الأحكام الغيابية، معتبراً أن كافة الأحكام الصادرة هي حضورية أو حضورية اعتبارية في مواد الجنح[29]، مستحدثاً طرقاً جديدة لإعلان المتهم. ويترتب على ذلك إلغاء الطعن بالمعارضة الذي يتم في الأحكام الغيابية، وهو الأمر الذي لم يبرره المشرع ولا نستطيع فهم الغاية والهدف منه. فهل هل هو يهدف إلى تحقيق العدالة السريعة الناجزة؟ أم أن المشرّع يعتبر أن طرق الإعلان المستحدثة تكفل معرفة المدعى عليهم برفع دعوى ضدهم وبالتالي لا يوجد مبرر لغيابهم؟ وأشار قسم التشريع في مجلس الدولة إلى هذا الأمر طارحاً تساؤلات حوله وموصياً بالإبقاء على الوضع الراهن الذي يكفل الحق في التقاضي. كما أن اعتبار كافة الأحكام حضورية ولو اعتبارياً يخل بحق المتهم في الدفاع. فقد وصل الأمر إلى الاكتفاء بحضور متهم واحد من المتهمين في الدعوى حتى يتم اعتبار الحكم حضورياً لكافة المتهمين[30]؛ مما يخل بصورة مباشرة بحق المتهمين الغائبين في الدفاع والحق في المحاكمة حضورياً. كما ينتهك التعديل حق الدفاع كذلك بنصه على السماح للمحكمة بعدم سماع أقوال شاهد الإثبات رغم تمسك الدفاع بذلك[31]. كما أن التعديل يعطي لعضو النيابة حق إجراء التحقيق في غيبة الخصوم وبالتالي لا يسمح للمحامي بالإطلاع على التحقيق قبل الاستجواب أو المواجهة بيوم كالمبدأ العام المنصوص عليه قانونا[32].

– حظر نشر وقائع الجلسات

كما أن المشروع يحظر نقل أو بث وقائع الجلسات إلا بموافقة رئيس الدائرة. كما يحظر نشر أخبار أو معلومات عنها “على نحو غير أمين أو على نحو من شأنه التأثير على حسن سير العدالة” دون تعريف ما هو النحو الذي قد يؤثر على حسن سير العدالة. وبالتالي، تُمنع الصحافة ووسائل الإعلام من النشر على قضايا قد تهم المواطنين. كما يمنع نقل المواطنين لوقائع الجلسات على صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي تحت طائلة المسؤولية. وهو الأمر الذي يتعارض مع مبدأ علانية المحاكمات الذي يقتضي حرية نشر ما جرى في قاعات المحاكم طالما أن القاضي لم يقرر سرية الجلسة لأسباب تتعلق بحقوق أطراف الدعوى أو خصوصيتهم.

خاتمة

يعكس مقترح تعديل الإجراءات الجنائية المناخ التشريعي في مصر بصورة كبيرة. فمثل هذا التعديل يحتاج إلى مناقشة جدية وفتح حوار مجتمعي حقيقي حوله وتخصيص الوقت الكافي لذلك. كما يكشف لنا بصورة كبيرة انحياز المشرع المصري إلى جانب السلطة التنفيذية على حساب حماية حقوق وحريات المواطنين في أحيان كثيرة. ويدفع البعض أنه، على أرض الواقع، لا يُغير هذا التعديل كثيراً من الأمور المُتبعة حالياً. إلا أننا نعتبر أن مجرد تدخل المُشرع لتقنين تدابير تنتهك حقوق المواطنين هو أمر جلل. ورغم إمكانية تعديل البرلمان لهذه المواد المُقدمة أو رفضها نهائياً إلا أننا نخشى ألا يقوم بذلك، أو أن يقوم بتعديل شكلي وليس تعديلا في المضمون؛ وذلك استناداً إلى أداء البرلمان الحالي منذ انتخابه وتمريره لقوانين عديدة ساد الجدل حولها، استجابة لرغبات السلطة التنفيذية، مثل قانون الجمعيات الأهلية.

وكما أوضحنا مخاطر المشروع، فإن ما يزيد الأمر قابلية للانتقاد هو مجمل الممارسات الحاصلة في السنوات الأخيرة حيث استخدمت الملاحقات لضرب المعارضة السياسية، لصالح السلطة؛ وتاليا ثمة مخاوف مشروعة في ظل واقع كهذا أن يؤدي التعديل إلى مزيد من الانتقاص من شروط المحاكمة العادلة.

كما يبدو المشرع  وكأنه يدمج في النص اتجاهات متباينة وأحيانا متعارضة: فمن جهة أولى، تراه يعزّز الشروط الشكلية للمحاكمة العادلة كالمحاكمة على درجتين في موازاة نسف العديد من هذه الشروط، وهو الاتجاه الأكثر انسجاما مع الواقع المعيوش. وتراه من جهة ثانية يوسع تارة صلاحيات السلطة التنفيذية في موازاة التضييق على صلاحيات أخرى. كما يواكب العصر في محلات ويتجاهل الواقع المصري في مواضع أخرى. كما أن تجاهل المُشرع ترابط هذا التعديل القانوني مع قوانين أخرى مثل القانون الخاص بإجراءات الطعن بالنقض، ومشروع قانون تداول المعلومات لجهة نشر وقائع الجلسات، والقوانين الخاصة بالأجهزة المعاونة لجهات التحقيق (الخبراء، الطب الشرعي، هيئة تنفيذ الأحكام…) يبرز غياب مبدأ “المنظومة القانونية المتكاملة والمترابطة” عن ذهن القائمين على صناعة القانون في مصر. وهي الأمور التي تعكس غياب الفلسفة التشريعية للمُشرع المصري بشكل كبير. وكأنما المشروع يخضع هذه الفلسفة للحسابات السياسية، فلا يقر إلا ما ينسجم مع هذه الحسابات، ولا يجد حرجا في الانقضاض على شروط المحاكمة العادلة كلما وجدها على نعارض معها.

إلى جانب ذلك، نطرح تساؤلا حول جدوى هذا التعديل على المدى القصير والبعيد في تحقيق تغيير حقيقي إيجابي خاص بعدالة التحقيقات والمحاكمات دون أي تغيير حقيقي في المنظومة القضائية بشكل أوسع. وهنا نشير إلى استقلال السلطة القضائية كضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة. فتطبيق قانون الإجراءات الجنائية يتم من خلال أشخاص هم أفراد وزارة الداخلية، أعضاء النيابة العامة والقضاة. ويُعد كل من أعضاء النيابة والقضاة منفذين للقانون كما أنهم مراقبون على أداء أفراد وزارة الداخلية ويضفون شرعية قانونية على تصرفاتهم في أحيان كثيرة. وبالتالي، فاستقلال أعضاء النيابة والقضاة ضمانة حقيقية لتطبيق قانون الإجراءات الجنائية بصورة تضمن عدالة المحاكمة وحقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية. وعليه، لا يمكن إلا أن نشير إلى ضرورة تعديل قانون السلطة القضائية الحالي في مواضع عديدة مثل إجراءات تعيين وترقية أعضاء النيابة العامة والقضاة، ندب القضاة لجهات تابعة للسلطة التنفيذية، التنظيم الهرمي للنيابة العامة؛ بالإضافة إلى تعديل قانون تعيين رؤساء الهيئات القضائية الصادر مؤخراً[33].

كما أن تعديل قانون الإجراءات الجنائية لن يكون له أي أثر حقيقي على ضمان عدالة المحاكمات، إذ استمر الهروب من تطبيقه عن طريق إحالة المتهمين إلى محاكم أمن الدولة والقضاء العسكري. فتحقيق عدالة المحاكمة يستوجب أمورا أبعد من مجرد تعديل قانون الإجراءات الجنائية، فهو أمر يحتم تغييرا جذريا في عقيدة السلطات المصرية لجهة احترام الدستور والقانون وعدم استخدام القانون لتفادي تطبيق قانون آخر أو لتقنين انتهاك حق من حقوق المواطنين الأساسية.

للاطلاع على المقالات الأخرى حول تعديل قانون الاجراءات الجنائية:

مقترح تعديل قانون الإجراءات الجنائية: عندما تصبح علانية المحاكمة الاستثناء

حق الطعن في مقترح تعديل الاجراءات الجنائية المصري: بين تعزيزه في الجنايات وانتهاكه في الجنح

توسيع سلطات القبض والاحتجاز في تعديل الاجراءات الجنائية: العصف بالحرية الشخصية للمصريين

 تنظيم المنع من السفر في مقترح تعديل قانون الاجراءات الجنائية: هل يضع حدا للتعسف في استخدامه؟

مقترح تعديل قانون الاجراءات الجنائية: أي حرمة للحياة الخاصة للمصريين؟


[1] قانون رقم 83 لسنة 2013.

[2]  قانونى رقم 49 و138 لسنة 2014.

[3]  قانون رقم 16 لسنة 2015.

[4]  قانون رقم 11 لسنة 2017.

[5]  في الجرائم المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد. المادة 143 حسب التعديل الصادر بالقانون رقم 83 لسنة 2013.

[6] المادة 277 من قانون الإجراءات الجنائية بعد تعديلها بالقانون رقم 11 لسنة 2017.

[7] راجع المادة 479 من قانون الاجراءات الجنائية بعد تعديلها بالقانون رقم 49 لسنة 2014.

[8] راجع المادة 39 من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض بعد تعديلها بالقانون رقم 11 لسنة 2017.

[9] نُشر الخبر في جريدة اليوم السابع بتاريخ 1-8-2017.

[10]  راجع رنا ممدوح، “تفعيل الدستور والتحايل عليه في تعديلات الإجراءات الجنائية”، مدى مصر، 2-1-2018.

[11]  حسب ملاحظات قسم التشريع بمجلس الدولة، يقوم المشرع بالتغيير في أكثر من 350 موضعاً.

[12] تنص المادة 23 من مشروع القانون على: “…ب) ويكون من مأموري الضبط القضائي في جميع أنحاء الجمهورية: 1- مدير، وضباط، ومساعدو، ومراقبو ومندوبو الشرطة، ضباط الصف بقطاع الأمن الوطني بوزارة الداخلية وفروعه بمديرات الأمن, 2- مديرو وضباط، وأمناء، ومساعدو، ومراقبو، ومندوبو الشرطة، وضباط الصف بقطاع مصلحة الأمن العام بوزارة الداخلية، وفي شعب البحث الجنائي بمديرات الأمن…”

[13] راجع د.فتوح الشاذلي، “مهرجان الضبطية للجميع في مصر”، المفكرة القانونية، 2-10-2013.

[15]  راجع د.فتوح لشاذلي، “المنع من السفر لا سند له من القانون المصري ويهدر حقاً دستوريًا”، المفكرة القانونية، 31-12-2013.

[16]  راجع منة عمر، “نية وزارة الداخلية فرض الرقابة على شبكات التواصل الاجتماعي: أي حرمة للمراسلات الالكترونية، واي مساحة لحرية التعبير في مصر؟”، المفكرة القانونية 4-6-2014.

[17]  راجع “قضايا الأرض: قراءة تحليلية في وقائع القبض والاحتجاز والتحقيق والمحاكمة لمتظاهري أبريل 2016“، صادر عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

[18]  تنص المادة الأولى من القانون على: “تختص النيابة العامة برفع الدعوى الجنائية ومباشرتها، ولا ترفع من غيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون.”

[19] راجع الباب الثالث من القانون: في التحقيق بواسطة قاضي تحقيق.

[20]  القانون رقم 353 لسنة 1952.

[21]  راجع المادة 64 من القانون بعد تعديلها عام 1952 حيث نصت على: “إذا رأت النيابة العامة في مواد الجنايات والجنح أن تحقيق الدعوى بمعرفة قاضي التحقيق أكثر ملاءمة بالنظر إلى ظروفها الخاصة، جاز لها في أية حالة كانت عليها الدعوى أن تخابر رئيس المحكمة الابتدائية وهو يندب أحد قضاة المحكمة لمباشرة هذا التحقيق…”

[22]  حسب التعديل المقترح، تنص المادة 64 على: “على النيابة العامة أن تجري تحقيقاً في الجنايات ولها أن تباشره في الجنح إن رأت محلاً لذلك.”

[23]  الفصل الثاني من الكتاب الثالث تحت عنوان “في مباشرة النيابة العامة للتحقيق”.

[24]  راجع مرجع رقم 17.

[25] راجع حسن مسعد، “انحياز النيابة العامة المصرية في القضايا السياسية”، نُشر في العدد 9 من مجلة المفكرة القانونية-تونس، نوفمبر 2017.

[26] راجع مرجع رقم 17.

[27]  راجع المواد من 419 مكرراً إلى 419 مكرراً 10 من مشروع القانون.

[28] راجع “دليل المحاكمة العادلة” الصادر عن منظمة العفو الدولية، 2014.

[29] تم اقتراح إلغاء المواد من 398 إلى 401 التي تنظم المعارضة.

[30] راجع المواد 240 و241 من المفترح.

[31] المادة 289 من مشروع القانون.

[32] المادة 107 من مشروع القانون.

[33] راجع أحمد صالح، “سابقة لم تعرفها مصر منذ ما يزيد عن 70 عاما: تجاوز الأقدمية في تعيين رؤساء الهيئات القضائية”، المفكرة القانونية، 28-8-2017.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني