مسرحية التدقيق الجنائي في البرلمان: قرار اللا قرار


2020-11-28    |   

مسرحية التدقيق الجنائي في البرلمان: قرار اللا قرار
مصرف لبنان

بعد تعنت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورفضه المتمادي بتسليم الشركة المختصة الوثائق المطلوبة من أجل التدقيق الجنائي متذرعا بالمادة 151 من قانون النقد والتسليف حول السرية المصرفية، وجه رئيس الجمهورية ميشال عون في 24 تشرين الثاني 2020 رسالة إلى مجلس النواب عملا بصلاحيته المحفوظة له في الفقرة العاشرة من المادة 53 من الدستور مطالبا مجلس النواب ” اتخاذ الموقف أو الإجراء أو القرار بشأنها، ما يستدعي التعاون مع السلطة الإجرائية التي لا يحول تصريف الأعمال دون اتخاذها القرارات الملائمة عند الضرورة العاجلة، وذلك من أجل تمكين الدولة من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان وانسحاب هذا التدقيق، بمعاييره الدولية كافة، الى سائر مرافق الدولة العامة”.

وبما أن رسالة رئيس الجمهورية كانت عبر رئيس مجلس النواب أي أن رئيس الجمهورية لم يحضر شخصيا لتلاوتها أمام الهيئة العامة، طبق رئيس مجلس النواب الفقرة الثالثة من المادة 145 من النظام الداخلي للمجلس التي تنص على التالي: “أما إذا كانت الرسالة موجهة بواسطة رئيس المجلس، فعليه أن يدعو المجلس للإنعقاد خلال ثلاثة أيام لمناقشة مضمون الرسالة، واتخاذ الموقف أو الإجراء أو القرار المناسب”.

وبالفعل اجتمع مجلس النواب في 27 تشرين الثاني لمناقشة الرسالة وصوت على “قرار” نص على ضرورة خضوع “حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة بالتوازي للتدقيق الجنائي من دون أي عائق أو تذرع بسرية مصرفية أو خلافه”. 

وعقب هذا “القرار”، سارعت رئاسة الجمهورية بإصدار بيان اعتبرت فيه ان ما أقره مجلس النواب جوابا على رسالة رئيس الجمهورية هو “إنجاز للبنانيين الذين يريدون معرفة من هدر أموالهم واستباح أرزاقهم”.

أمام هذا الواقع الذي يتم تصويره من قبل أحزاب السلطة كخطوة كبيرة من أجل الإصلاح وكإنجاز تاريخي من أجل تأمين الشفافية في حسابات الدولة ما يضمن محاسبة الفاسدين، لا بد لمن يملك أدنى إلمام بالمنطق الدستوري من التعجب والاستغراب للأسباب التالية:

أولا: إن رئيس الجمهورية طالب مجلس النواب بوصفه السلطة التشريعية اتخاذ الاجراء المناسب من أجل منع حاكم مصرف لبنان من التذرع بالسرية المصرفية. وهذا الإجراء لا يمكن أن يتم إلا عبر إقرار قانون ينص صراحة على عدم شمول السرية المصرفية لما يتطلبه التدقيق الجنائي من اطلاع ومعلومات أي أن مجلس النواب كان يتوجب عليه احترام الآلية التي وضعها الدستور من أجل التشريع وهو أمريتمّ من خلال إقرار القانون من قبل غالبية النواب ومن ثم إرساله إلى رئيس الجمهورية الذي يتولى إصداره ونشره في الجريدة الرسمية. فالتعريف السائد في القانون العامّ (Droit public) للقانون هو تعريف شكلي أي أن النص لا يمكن أن يعتبر قانونا إلا إذ احترم الشروط التي يفرضها الدستور للتشريع وهو ما يستوجب صدور القانون عن رئيس الجمهورية ومن ثم إشهاره عبر نشره كي يدخل حيز التنفيذ ويصبح ملزما للجميع. 

ثانيا: أن النص الذي أقره مجلس النواب لا يعتبر قانونا لأنه بكل بساطة عبارة عن جواب على رسالة رئيس الجمهورية، أي أن هذا النص لم ينطلق عبر مبادرة تشريعية تتقدم بها الحكومة أو النواب كما تفرضه الأصول الدستورية. وبالتالي لن يتمّ إرسال هذا النص إلى رئيس الجمهورية كي يصدره ويطلب نشره في الجريدة الرسمية، حيث أنه مجرّد توصية تعكس أماني النواب ولا قوة ملزمة لها. وبالتالي، يمكن لحاكم مصرف لبنان تجاهله بكل بساطة إذ لا حجية قانونية له ولا يمكن للمحاكم لا سيما القضاء الإداري تطبيقه كونه لا يدخل في الانتظام القانوني العام للدولة اللبنانية.

ثالثا: لا يمكن القول أن هذا النصّ الذي أقرّه مجلس النواب هو تفسير لقانون السرية المصرفية وبالتالي فهو يكفي لإلزام مصرف لبنان بتسليم الوثائق المطلوبة. فتفسير القوانين من قبل السلطة التشريعية كي يصبح ملزما يجب أن يتم من خلال إقرار قانون تفسيري جديد يصدره رئيس الجمهورية وفقا للشروط الدستورية. وهذا ما حصل بالفعل سابقا أكثر من مرة  كالقانون الصادر في 24 حزيران 1971 والمتعلق بتفسير قانون مزاولة مهنة الهندسة، والقانون الصادر في 27 أيار 1939 بتفسير قانون المختص بالديون المدنية المحررة بعملة غير العملة اللبنانية وأخير القانون الصادر في 12 حزيران 2020 القاضي بتفسير بعض أحكام المادة 67 من قانون الرسوم القضائية. وهذا الذي لم يحدث إذ اكتفى مجلس النواب بالتصويت على اعلان هو عبارة عن رد على رسالة رئيس الجمهورية.

رابعا: أن مجلس النواب أصلا لا يحق له التصويت على قرارات إلا تلك التي تدخل في شؤونه الداخلية كالمواضيع المتعلقة بالنظام الداخلي، أو مثلا القرار الذي بموجبه تقرر الهيئة العامة ردّ مشروع أو اقتراح قانون إلى اللجان النيابية أو أيضا إنشاء لجان تحقيق نيابية. وهذا ما يظهر جليا من خلال طريقة التصويت إذ تنص المادة 87 من النظام الداخلي على التالي: “يجري التصويت على التوصيات والقرارات وسائر المواضيع غير الواردة في المواد السابقة بطريقة رفع الأيدي”. والمواد السابقة التي تشير إليها المادة تتعلق بمقترحات القوانين التي يتوجب التصويت عليها مادة مادة ومن ثم التصويت على القانون برمته بالمناداة بالأسماء بينما التوصيات والقرارات العادية التي لا تعتبر إقرارا لقانون تتم فقط برفع الأيدي. فكل نص يقره مجلس النواب لا يجب أن يعتبر بمجرد هذا الإقرار أنه يدخل في خانة “القانون” لأن مجلس النواب ليس دائما السلطة التشريعية إذ قد يمارس مجموعة من الاختصاصات التي لا علاقة لها بالتشريع.

خامسا: بعد إقرار نص الرد على رسالة رئيس الجمهورية، رفع رئيس مجلس النواب الجلسة ومن ثم افتتح فورا جلسة تشريعية أقر خلالها المجلس اقتراح قانون يقضي باعتبار شهداء انفجار مرفأ بيروت بمثابة شهداء في الجيش اللبناني. فلو كان مجلس النواب ينوي فعلا إخضاع حسابات الدولة برمتها للتدقيق الجنائي كان بإمكانه بكل بساطة إقرار ذلك عبر التصويت صراحة على قانون في الجلسة التشريعية كما فعل مع قانون ضحايا انفجار المرفأ.

جراء ما تقدم، يتبين لنا أن مجلس النواب لم يقر هذا “القرار” بوصفه السلطة التشريعية بل باعتباره الجهة التي خاطبها رئيس الجمهورية وبالتالي فهو لا يتمتع بأي قوة قانونية ولا يمكن أن يشكل بأي حال من الأحول نصا ملزما لمصرف لبنان أو أي جهة أخرى في الدولة اللبنانية. وهكذا يظهر أن هذا الإنجاز الذي تغنّى به رئيس الجمهورية وقدمته أحزاب السلطة إلى اللبنانيين كدليل عن نيتهم الصادقة بمكافحة الفساد هو عبارة عن وهم يضاف إلى أوهام الاصلاح في نظام الزعماء وهو في حقيقة الأمر مجرد دعاية هدفها الترويج السياسي ليس أكثر.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، مصارف ، تشريعات وقوانين ، لبنان ، مقالات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني