مساهمة في اقتصاد الأسرة لا ترتد على موقع المرأة واستقلاليتها: عن مزارعات التبغ العاملات من الفجر إلى النّجر

،
2020-05-01    |   

مساهمة في اقتصاد الأسرة لا ترتد على موقع المرأة واستقلاليتها: عن مزارعات التبغ العاملات من الفجر إلى النّجر

تجلس “الصبّوحة”، كما يناديها ابنها البكر، بالقرب من بئر تجميع المياه في قريتها الجنوبية، تنظر بعيداً نحو أرض عائلتها المزروعة بالتبغ لتقول: “هالأرض آكلة منّي شقف، فيها وقعت تحت الأحمال، وعانيت من وجع الظهر وأنا أزرع شتول التبغ وألملمها في موسم الحصاد، وبالميبر نخرت راحتي يديّ”. تستعمل الصبّوحة هذه التعابير لتبيّن من جهة حجم التّعب في ما تسمّيه لقمة التبغ المرّة في هذه النبتة التي طالما وصفت أنها نبتة صمود الجنوبيين في أرضهم، ولتؤكّد أنّ أعباء هذه الزراعة “التي نبقّ الدم فيها” تقوم على كاهل النساء بالدرجة الأولى في غالبية مراحلها. لكن المرأة ذات الـ48 عاماً تستدرك لتقول: “ما في شي بيعملوه الرجال، بالآخر  بيقبضوا تشيكات المصاري من الريجي”، أي من إدارة حصر التبغ والتنباك في لبنان.

بالإضافة لما تتشاركه مع بقية النساء، للصبّوحة قصة خاصة مع التبغ “أبي طلب رخصة تبغ مهراً لي لدى تزويجي”، تقول قبل أن تبدأ بسرد حكايتها: “أوصى جدي قبل وفاته بتزويجي من إبن عمي. شاء القدر وتخاصم أبي مع عمي بسبب الإرث، وتحديداً رخص زراعة التبغ. استمرَّ الخلاف أربع سنوات من دون توقيع أوراق الأرض، وتقسيمها إلى أن كَبُر أخي و أراد الزواج من إبنة عائلة غنيّة. احتاج أخي للمال أو الأرض لدفع مهر عروسه. كنت أعتقد أنّ أبي أزال من رأسه  فكرة تزويجي من ابن أخيه، وكنت سعيدة لذلك لأنّ عمي وعائلته يعملون في الأرض بشكل مستمر ومتعب وهمّهم الوحيد تحصيل المال، وتوفيره في البنك. تطورت الأحداث وأصرّ أخي على الزواج برغم عدم امتلاكه مالاً. عندها قصد أبي أخاه لمناقشته مجدداً بموضوع الأرض لعلّه يحصل على الأراضي التي يحلم بها كي يقوم بزراعتها ويبيع محصولها ليصبح غنياً كما كان يحلم. وعندما لم يتفقا بسبب رفض عمي، اقترح أبي عليه بأن يزوّجني من ابنه مقابل رخصة أرض تقارب الأربعة دونمات، وهكذا كان. لا أذكر أنني قد ارتديت فستاناً أو سمعت مباركة زواجي. خرج أبي من منزل شقيقه وقصد شيخ القرية ليحضره إلى منزلنا، ثم أرسل أخي الصغير لينادي عمي وابنه. عندما وصلا علمت سبب حضور الشيخ إلى بيتنا فوضعت يدي على قلبي، واستنجدت بأمي التي بدأت إقناعي: “إنها الطريقة الوحيدة لإصلاح صلة الأرحام بين عمي وأبي”. اقتنعت، لكنني كنت خائفة إلى أن وصلت إلى منزل عمّي وأصبحت على ذمّة ابنه. انغلق باب المنزل وانغلقت أفكاري جميعها. لقد أصبحت امرأة متزوجة وعليَّ مسؤوليات منها خدمة عمي وزوجته وزوجي، وكذلك العمل في الأرض. سأترك خلف هذا الباب حكايات كثيرة وخفايا وضعها أبي في صندوق أملاكه، فالمهم أن أبي أصبح أكبر مزارع في القرية. في صحوة ضمير تعوّض بعض ما حصل، فبعد أن توفاه الله كتب في وصيّته: “الدونمات الأربعة لمزروعة دخان عطريق الكروم لبنتي صباح!”  أعطيت الأرض لزوجي، فعادت لملكية بيت عمي، وسيقوم زوجي بتوريثها لأبنائنا الذكور، أي لذريّة عمّي، أولادي. فما الجديد الذي فعله أبي؟”.

بديعة سيدة جنوبية أخرى تعمل في زراعة التبغ. عليها تقوم غالبية مهام الحقل، كما معظم النساء الجنوبيات. لكن لبديعة رأي آخر في مشاركتها وغيرها في تأمين هذا المدخول الداعم للأسرة: “بدنا نتعاون لنتحمّل أعباء الحياة”، تقول حين تسألها جارتها “وإنت شو بيطلعلك من كل هالتعب”. تسرح بديعة في حياتها مع زوجها على مدى 30 عاماً “ولا مرة فكرت مين بيحق له ياخد المصاري، زوجي يستعمل المال لتعليم أولادنا أو لشراء حاجيات المنزل. مرة اشترى لي براد وفي أحد المواسم جاء بالتلفاز، ومرة ثالثة اشترى بيك أب يعيننا في الزراعة”. ولدى سؤالها عن احتياجاتها الخاصة ترد بديعة بسؤال: “شو يعني احتياجاتي الخاصة؟” لتضيف “لي بيهمّني نكون مستورين ومش عايزين حدا”. هنا لا نقاش في مدى تعبها وتحمّلها أعباء إضافية للعمل المنزلي، ولا تفكير في من يقبض المال الناتج عن زراعة التبغ. تعيش بديعة راضية مرضية “بالكاد منأمن احتياجاتنا”. يقطع حديث بديعة صوت زوجها “ناوليني يا أم حسين النطّوع والحقيني إنت والبنات”، فتستأذن جارتها والحاضرين “يالله بدنا نروح ع الشّحار، نتشحّر أكتر”، تقول وتمضي وهي تسند ظهرها بيدها اليمنى في دلالة على تعبها.

النساء والتبغ عبر السنوات

تلمس سمر، الصبية الجنوبية التي تدرس في الجامعة اليوم، تغييراً كبيراً في حياة النساء وعلاقتهنّ بالتبغ “حرصت أمي أن أذهب إلى الجامعة”. أسرّت لها منذ صغرها بما يفيد “ما بدي ياكي تتمرمري متلي”. ترى سمر في فعل والدتها وتعليمها إنقلاباً على الوضع السابق الذي أخضع المرأة لسلطة ذكوريّة “أمي بتشيل مصروفي من مدخول التبغ لأنها هي لي بتتعب”، لترى في هذا الفعل قدرة لوالدتها على التحكّم بكيفية صرف المال “يمكن الأيام تغيّرت ويمكن أمي أقوى من غيرها”، تقول. لكن سمر تستدرك لدى استعراضها قصصاً من محيطها “ما زال هناك فئة من النساء لا ينعكس تعبهنّ وإنتاجهنّ الإقتصادي استقلالية أو سلطة في القرار، برغم أنّهنّ الفئة الأكثر تفاعلاً” في عمليّة الإنتاج، وذلك بناء على التمسّك الجذري بما مرّ سابقاً” من مفاهيم إجتماعيّة كانت تحول دون إعطاء المرأة أدنى وأبسط حقوقها”.  وتلمس سمر مشكلة أخرى وهي “ترسّخ تلك المفاهيم السائدة في عقول النساء حيث يبدون مقتنعات أنهنّ مجرّد عاملات في سبيل إسعاد العائلة وتأمين احتياجاتها من دون المطالبة بشيء خاص لهن “لم تشتر أمي قطعة ذهب مثلاً ولا حتى بعض أدوات الزينة، ولم تفكر يوماً بفتح حساب لها للإدخار في المصرف”. طالما قالت لها “المهم تتعلّمي إنت، أنا إيّامي راحت”.

كيف عاشت المزارعة كلثوم (أم علي) حياتها؟

أم علي مزارعة جنوبية تعمل في الأرض منذ أكثر من أربعين سنة. قبل أن تتزوج كانت “الكتف” الوحيد لأهلها برغم وجود  ستة شبان غيرها في العائلة.عملت في الأرض لساعات طويلة في الحقل وفي البيت. عندما تزوجت لم يتغيّر عليها شيء “ما زلت أتمنّى أن أعيش لحظة من دون أن أشعر بالتعب”. تكرر أم علي تفاصيل حياتها المتعبة “في شي بقدر خبره وفي إشيا ما بتنحكى”. كانت تقوم بجميع مراحل زراعة التبغ منذ أن يبدأ الزرع إلى يوم القطاف وشك ورق التبغ، وصولاً إلى موعد التسليم للريجي، “والذي لا أنال منه شيئاً سوى رفع الدنك (الدخان المخيّط بالخيش) ووضعه على الميزان لمعرفة وزنه”. تضيف: “عند زراعة التبغ كنا ننقل جرار الماء لتفريغها في الخزّانات كي نسقي شتول التبغ. أذكر أن هِمّتي كانت تفوق همم الرجال. أحمل في كل يد جرّة وعلى رأسي واحدة، وأضع الغالونات على ظهور البغال لنقلها”. لدى العودة إلى المنزل كان على أم علي أن تتابع عملها “حتى غروب الشمس، لقد ربّوني على هذه المفاهيم. كان أبي دائماً يقول لي: “الرّجال بدها نسوان قوية وبتشتغل بكل شي وما بيخفى عنها شي وإذا بدّك ابن الحلال لازم تتعبي”.

كانت ممنوعة من مشاهدة التلفاز “كنت أعمل لأتقاضى أجر مشاهدة ما يقارب عشرة إلى 15 دقيقة تلفزيون”. عندما تزوجت كان عليها أن تساعد زوجها “ربما تزوجني لصيتي الكبير كعاملة نشيطة ومجتهدة”. يحز في نفسها أنّ والدها لم يخصّها حتى بقطعة أرض صغيرة ساهمت في شرائها والإهتمام بها والحفاظ عليها. “أعطاني بعض المال بعدما أصرّت والدتي. قال إنّه لا يريد أن يورث عائلة أخرى، وقصد زوجها وأولادها من ملكه وملك أبنائه الشبان”. تعترف اليوم أن بناتها الأربع هن اللواتي يساعدنها في زراعة التبغ  “لكن اتفقنا أنا وزوجي أن نعطي كل منهن قطعة أرض، وجعلنا لهن حصة في منزلنا”.

أم حسين والبيك آب الأبيض

تنهض أم حسين  الأرملة الملقبّة بالـ”حربوقة” عند الساعة الرابعة فجراً” ترتدي الشنتان المكشكش (بنطال المرأة) والألاشين (الجوارب) المتعدد وتضع الوزرة (المريلة) عليها،  ثم تخرج من المنزل وتدير محرّك الـ”بيك آب” متوجِّهة إلى أرضها. تسابق الشمس لقطاف أوراق التبغ. وعندما تنتهي تضع الخياش (الأكياس المصنوعة من الخيش) على رأسها وتنقلها واحدة إثرَ الأخرى إلى سيّارتها متوجّهة إلى دارها. ما إن تصل وإذ بها تصيح : ” فيقوا يا بنات صارت تئّة الضهر (منتصف النهار) ولسّا نايمين”.

بضع دقائق وتبدأ أم حسين وبناتها شك أوراق التبغ. وحين يشرفن على النهاية، يستيقظ حسين، الإبن البار والمدلل. يشرب فنجان النيسكافيه ريثما ينتهين من تفريغ التبغ من الميبر إلى خيطات النشر في الشمس للتجفيف. بعدها يحمل التبغ المفرّغ في الخيطان ليضعه على سطح المنزل، وما إن ينتهي حتى يرتفع صوت أم حسين مبتهلاً: “الله يرضى عليك يا ابني”. تعتبر السيدة الستينية أن “هذه سنّة الحياة، كلّنا بدنا نتعب وحسين هو السند وحامل إسم العائلة”.

رابعة ورفيقها

“في كل زاوية من الحقل لي قصة أنا ورفيقي”، تقول رابعة “حتى في زراعة التبغ لم يشفق عليّ أحد غيره. كان ينقلني إلى المنزل بعد إنتهائي من الشقى والتعب”. نسأل رابعة الوحيدة لأمها عن هوية رفيقها الذي تكن له كل هذا الودّ ليتبيّن أنه “الحمار”. مرة واحدة قال لها شقيقها “أنت رفيقتي ولست اختي فقط”. حصل ذلك عندما مرض واحتاج المال فأعطته كل ما تملك “قبل هيك ما كان يسأل عني”.

أعمل لأعلّم أولادي

تعود حكاية أم باسل مع التبغ إلى 40 سنة مضت “من وقت ما تزوجت”، حيث أن أهلها لم يملكوا رخصة تبغ “كنت مرتاحة من تعب التبغ وشحاره”. بسبب ضغط الحياة وكلفة إعالة تسعة أبناء، كان على أم باسل أن تتولّى كامل مسؤولية الحقول وتبغها كون زوجها يعمل في بيع السجّاد. لذلك قرّرت السيّدة السبعينية أن تخصص كل المال لتعليم أولادها “ما اشتريت نهار شي غير الإحتياجات الضرورية. لا أذكر أنني اشتريت يوماً ما فستاناً أو أي شيء آخر بهذا المال رغم أنّ لي الحرية في ذلك لكن كنت أفكّر دائماً بما تقوله لي أمي “خبّي قرشك الأبيض ليومك الأسود “، وعمِلت بتلك النصيحة .

التعب الأكبر الذي كنت أشعر به هو بعد أن يذهب أولادي جميعهم إلى المدرسة وزوجي إلى العمل فأبقى أنا لوحدي أثناء شك التبغ وقتاً طويلاً. ثم كان عليّ أن أحضِّر الطعام لهم قبل عودتهم جميعاً إلى المنزل. أعمل من دون أن أرتاح ولو لدقائق كي لا يغلبني الوقت لذلك كنت أنتهي من شك التبغ وتفريغه في الخيطان ثم أتركه على الأرض إلى أن يأتي زوجي ليعلّقه. بعد الغداء، أعود إلى الحقل لغاية غروب الشمس، وعندما أصل إلى المنزل أكون قد فقدت قدرتي على الوقوف، فأنام إلى أن يحين الفجر وتبدأ دورة يومية جديدة”.

*أعدّت هذا التحقيق الطالبتان في كلية الإعلام في جامعة المعارف بإشراف رئيسة قسم الصحافة في “المفكرة القانونية” سعدى علوه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني