مرافعة نموذجية ضد عقوبة الاعدام امام محكمة التمييز في بيروت


2014-05-24    |   

مرافعة نموذجية ضد عقوبة الاعدام امام محكمة التمييز في بيروت

الحدث على قدر كبير من الأهمية: نقيب المحامين في باريس يترافع الى جانب محامين لبنانيين في قضية يتهدد فيها المتهم عقوبة الإعدام، طارحين من خلال مرافعات إشكالية الإعدام على الرأي العام من خلال قضية قضائية.

الجلسة العلنية حصلت في 20-5-2014 في محكمة التمييز في بيروت وخُصّصت للدفاع عن أحد الموقوفين المتهمين بجريمة قتل (عامل سوري يدعى ناصر فارس)، بدعوة من جمعية "عدل ورحمة" وبمشاركة نقيب محامي باريس Pierre Olivier Surوذلك إلى جانب محاميين لبنانيين وهما زياد عاشور ولينا العيا. وكانت محكمة التمييز مؤلفة من القضاة جوزف سماحة وغادة عون وصبوح سليمان قد نقضت الحكم الصادر عن محكمة جنايات صيدا باعدام المتهم بعد ثبوت قيامه بقتل صيرفي في صيدا (محمد النتوت) بإحدى عشرة طعنة، وخصصت الجلسة لاعادة محاكمة الشخص المذكور. ولهذه المناسبة، وبحضور ابن المغدور وغياب أي شخص من أقارب المتهم، حضر  وزير عدل سابق (وزير العدل إبراهيم نجّار) ونائب (غسان مخيبر) اللذين كانا تقدما بمقترحات لالغاء عقوبة الاعدام[1]. كما حضر ممثل عن الاتحاد الأوروبي وصحافيون وممثلون عن الجمعيات الأهلية. كما تم استقدام مترجمين فوريين جلسوا في غرفة صغيرة أعدت خصيصا للمناسبة ووزعت سماعات للحاضرين الذين يحتاجون الى ترجمة من الفرنسية الى العربية والعكس. وقد شكلت هذه المرافعة مشهدا استثنائيا قلما نراه في أي قضية حقوق إنسان أخرى.
وأهمية هذه التجربة تكمن في بلورة جواب واضح وصريح لاشكالية طرحتها الندوة الوطنية من أجل الغاء عقوبة الإعدام، والتي نظمتها الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية بالشراكة مع الجمعية الفرنسية العالمية "معا ضد عقوبة الاعدام"، وبالتعاون مع نقابة المحامين في بيروت في كانون الثاني الماضي: عقوبة الاعدام لبنان دخل دائرة دول moratoriumأي دور للقضاء في ذلك؟ وأي انعكاس لهذا الواقع على أعماله.وشكّل حضور النقيب الفرنسي خطوة أولى في اتجاه تفعيل تعهد عضو مجلس نقابة المحامين في باريس ماري اليكس كالو برنارد، خلال الندوة سالفة الذكر، المتمثل بمساندة المحامين اللبنانيين في القضايا التي يتهدد فيها المتهم عقوبة الاعدام.
 
ممثل النيابة العامة يرسخ الصورة النمطية للقاضي…ويبرر عقوبة الاعدام
كانت لافتة مرافعة ممثل النيابة العامة التمييزية، عماد قبلان، حيث عكست من جهة الصورة النمطية للقاضي التي تقتصر على تصويره كخادم للقانون، ليس له أن يحل محل المشرع في الغاء عقوبة الاعدام. وأعلن قبلان استباقه مرافعة النقيب SURمشيرا الى أنه "يعرف انه من المدافعين عن قانون Robert Badinterالذي ألغى عقوبة الاعدام. لكن اود ان اوضح في القانون ان بيروت ام الشرائع, وأن المشرعين الذين وضعوا قانون العقوبات لحظوا عقوبة الاعدام في المادة 549 لعدة أسباب أبرزها انزال عقوبة القصاص لأبشع الجرائم التي ترتكب". وأردف قبلان بخصوص وقائع القضية: "الدافع للجريمة دافع دنيئ وهو سرقة الأموال. في بعض المجتمعات جريمة الاعدام ضرورية لمنع الأقارب من الأخذ بالثأر. ولا بد من الاشارة الى أن عدم تنفيذ عقوبة الاعدام خلال السنوات الماضية هو قرار سياسي وليس على القاضي الا أن يطبق القانون". وتاليا، يكون ممثل النيابة العامة قد عبر بوضوح عن رأي مناصر لعقوبة الاعدام, من خلال افتراض شيوع ثقافة الثأر، من دون أي معطى واقعي يثبت ذلك. وإذ حصل هذا التصريح بحضور نائب ووزير عدل سابق حضرا لدعوة القضاء الى استبعاد عقوبة الإعدام، بدا القاضي وكأنه يعيد الكرة الى ملعب السياسيين متنكرا لأي سلطة تقديرية تخوله الابتعاد عن النطق بأحكام اعدام.
 
مرافعات المحامين: العدالة تتكلم باسم المصلحة العامة
في هذا المجال، نلحظ أن المحاميين اللبنانيين عيا وعاشور تناولا وقائع القضية وأبعادها القانونية، فيما ترك للنقيب SURاستعراض المبادئ التي توجب استبعاد عقوبة الاعدام.

وفي معرض توزيع الأدوار هذا، تولت المحامية عيا سرد طبيعة الوضع العائلي والشخصي للمتهم وتطرقت الى تعرض المتهم للتعذيب أثناء التحقيق وانتقدت سرعة البت بالقرار المميز أمام المحكمة الحالية والصادر عن محكمة جنايات الجنوب. كذلك استندت على عدم وجود أي سوابق اجرامية للمتهم وأنه حاليا حسن السلوك في السجن ويعمل في مشغل للنجارة. كما أبرزت مستندا يفيد أنه مصاب بعوارض توتر ما بعد الصدمة مع احساس عميق بالذنب. وقد تلاها في المرافعة المحامي عاشور, الذي ركز على الشق القانوني للقضية اذ انطلق من عدم توافر ما يثبت عنصر القتل العمد المتمثل بالهدوء والروية والتخطيط المسبق على الجرم. فلم يتم وفق عاشور وضع خطة للجريمة أو اعداد وسائل التنفيذ مسبقا، وأن الظروف التي حصلت فيها الجريمة وما سبقها وما بعدها يدحض العمد ولا سيما لجهة انتفاء أي علاقة أو عداوة سابقة بين المتهم وبين المغدور. وشدد عاشور على ظروف المتهم الاجتماعية والاقتصادية وعلى صغر سنه وكونه عاش طفولة قاسية بسبب أطباع والده الذي أخرجه من المدرسة وأجبره على العمل في سن العاشرة.

اما بيت القصيد فقد تجسد في مرافعة النقيب Pierre Olivier Surالذي ارتكز على القانون الطبيعي الذي اعتبره "اسمى من باقي القوانين ولحظ ان الحياة هبة ولا يحق لأحد سلبها". ولفت الى "أن الاحصاءات في الدول التي ألغت عقوبة الاعدام لم تثبت تزايدا في نسبة الجرائم بل على العكس، فان عدد هذه الجرائم تراجع مما يثبت أن الاعدام ليس عقوبة فعالة ولا سيما ان احتمال ان يحكم على المتهم بالاعدام لم يشكل رادعا للمتهم لارتكاب الجريمة". اما لجهة القانون الدولي، فقد أشار المحامي Surالى الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي كرسته مقدمة الدستور اللبناني على أثر تعديل 1990 والذي يمنع في متنه اللجوء الى أي وسيلة تعذيب أو وسيلة مذلة محطة للانسان والاعدام هو من هذا القبيل. وخلص في هذا الاطار الى ان المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تفضي الى اعتبار مقدمة الدستور اللبناني والمواثيق الدولية أولى من احكام القانون العادي. كما أثار الاخلال في المساواة ما بين المتهمين، مستندا بذلك على استبعاد عقوبة الإعدام في الاتفاقية التي أنشأت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري. فلا يعقل حسب SURأن تستبعد هذه العقوبة عن قتلة الرئيس رفيق الحريري الذين ارتكبوا جريمة منظمة عن سابق  الاصرار والرصد والتصميم فيما تطبق بحق قاتل بائس ارتكب جريمة عادية، تحت ظروف شخصية صعبة، بائس وحيد ليس له أحد ولا يملك شيئا.

وقد حرص SURخلال مرافعته على حث القضاة على أداء دورهم في صون النظام العام واعلاء المصلحة العامة, واعادة ترتيب المبادئ الحقوقية ضمن اطار العدالة: فمع تفهمه الكامل لمطالب أهل الضحية، أصر على تذكير القضاة أنهم يمثلون المصلحة العامة بمعناها الواسع وليس فقط أهل الضحية. وقد شدد SUR"على شرف الدفاع ضد عقوبة الإعدام، الأمر الذي أعطى المرافعة بعدها الحقوقي والمبدئي في هذا السياق. "ليس هناك شرف اهم من شرف الدفاع ضد عقوبة الاعدام, شرف الاقتداء بالمبادئ الأسمى التي تجعل من العدالة كعمل اجتماعي يهدف الى اعلاء المصلحة العامة وليس كأداة ثأرية". وقد توجه الى القضاة قائلا: "السادة القضاة, أنتم لستم هنا باسم الضحية, ولكن باسم المجتمع كله، باسم الرجال والنساء الذين يمرون بلبنان, أكانوا نافذين أم بائسين". وأنهى مرافعته بدعوتهم "ليكونوا سباقين, قبل المشرع وقبل القرار السياسي، ليقولوا لأولادهم لدى الغاء عقوبة الاعدام في يوم من الأيام، انهم لم يسبق لهم أن حكموا بانزال عقوبة الاعدام". 
 
ما بين الجاني وأهل الضحية…
اتسم تواجد اهل الضحية في المحكمة بهدوء, مجرد من أي ردة فعل عدوانية تجاه وكلاء الدفاع او المتهم. وكان ابنه مازن النتوت سلّم لنقيب محامي باريس عند دخوله القاعة صورة للمجنى عليه. وقد أشار محاميا أهل الضحية في مرافعتهم على حصول القتل ببرودة متناهية وعمدا، وأن المتهم قد ارتاد مكانا للدعارة بعد الجريمة فورا، وانتهيا الى المطالبة بالزام المتهم بتسديد عشرين مليون دولارا أميركيا. وبعد الاستماع الى المرافعات الثلاث، أعطي ابن المجنى عليه الكلام فقال برصانة وهدوء ومن دون أي انفعال "أن السارق يرد ما سرق ولكن ماذا يرد القاتل لأهل الضحية؟". وأضاف: " لو كانت العقوبة لا تزال تنفذ لما كانت الجريمة قد ارتكبت". وردا على ذلك، أعطي الكلام مجددا للنقيب Surالذي تفهم موقف ابن الضحية مكررا أن "على القاضي أن يتجاوز المصالح الخاصة ليرتقي الى المصلحة العامة والقيم الانسانية" خاتما ان "الانسانية سيأتي يوم وتنظر فيه الى عقوبة الاعدام على أنها عقوبة من زمن بائد". وقبل اختتام الجلسة، سأل رئيس الغرفة المتهم مرة أخرى عما يطلبه، فاكتفى بالقول أني أعتذر من أهل القتيل وأطلب الشفقة والرحمة.
الحكم يصدر في 26 حزيران 2014. يتبع..
 



[1] اقتراح قانون تقدمت به الحملة الوطنية لالغاء عقوبة الاعدام عبر النائب غسان مخيبر، ومشروع قانون تقدم به وزير العدل السابق ابراهيم نجار تاريخ 7 تشرين الأول 2008 تضمن 5 مواد شددت على تعديل المادة 37 من قانون العقوبات تتدرجمن الاعتقال المؤقت الى الأشغال الشاقة المؤبدة, على أن تلغى المادة 43 من قانون العقوبات والمواد 420 و422 و423 و424 من قانون أصول المحاكمات الجزائية. 
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني