كانت المفكرة القانونية بصدد نشر مراجعة للمذكرات التي نشرها القاضي فيليب خيرالله في كتابه: "نحكم باسم الشعب اللبناني"، عند ورود نبأ وفاته في 24-10-2014. وكان خيرالله الملقب بـ"راهب العدلية" قد تولى منصب رئاسة مجلس القضاء الأعلى وتاليا المجلس العدلي في فترة ما بعد حرب 1975-1990. تنشر المفكرة المراجعة الكاملة على موقعها الالكتروني على ثلاث حلقات. تتمحور الاولى حول بدايات القاضي خيرالله وعمله في المحاكم الاستئنافية وتعيينه رئيساً لمجلس القضاء الاعلى والمجلس العدلي. تعود بنا الحلقة الثانية الى محاكمات قائد القوات اللبنانية سمير جعجع. فيما تعرض الثالثة اهمّ محطات خيرالله اثناء رئاسته لمجلس القضاء الاعلى. (المحرر)
يستفيض خيرالله في هذا الفصل في حديثه عن نزاهة القضاء واستقلاليته، فيناقش المشاكل ويحاول طرح الحلول. يشير الى انه لم يواجه صعوبة عند حلول المناقلات والتشكيلات اذ كان الوزير طبارة يمنحه كامل ثقته.وخلال ولاية خيرالله، استصدرت الحكومة القانون رقم 34/1994 الذي أجاز للحكومة بعد موافقة مجلس القضاءاختيار القضاة من المحامين بدون مباراة، خلال ستة اشهر. واختار المجلس في أواخر تلك السنة 39 قاضياً تم تعيينهم. وفي عهد لحود، اقرّ مجلس النواب قانوناً مماثلاً الا انّ لحود ردّه لافتاً الى وجوب اعتماد المباراة للمرشحين فصدر القانون رقم 426 تاريخ 26 حزيران 2002. ينتقد خيرالله قرار لحود باعتماد المباراة، اذ ان هذا الامر سيعيق تقدّم المحامين الذين سيضطرون الى المغامرة في مهنتهم اذ باتوا "بعيدين عن اجواء الامتحانات." لا يعير خيرالله ايّة اهمية الى دور المباراة. فبالنسبة اليه، القاضي سوف ينجح او يفشل بحسب كفاءته وسلوكه كما انّ المرشح للقضاء يكتسب انسانية من ممارسة المحاماة تسمح له بتفهم وادراك مشاعر الناس. ولكن وبالرغم من اقتناع خيرالله بصوابية هذه الخطوة، لا بد من ان نطرح التساؤلات التالية خاصة أن المباراة تضمن بشكل عام التحاق عناصر كفوءة كما انها تكفل حيادية القرار وشفافية عملية الانتقاء. اذ ما الذي يؤكد، عندما يختار وزير العدل قضاة من المحامين دون اجراء مباراة، انه لا يساهم في تفعيل نظام الزبائنية وتعزيز التبعية داخل العدلية؟ هذا بالطبع لا ينفي وجود قضاة من المحامين عيّنوا سابقاً واثبتوا مهنيتهم واحترامهم لعمل القضاء فشاركوا من خلال احكامهم في تطويره. لا بد هنا من التذكير بأن خيرالله استفاد من اجراء مماثل عندما كان فؤاد بطرس وزيراً للعدل ما قد يفسر ربما تفاؤله ازاء هذا القانون.
وفي اطار حرصه على نزاهة القضاء وتقييم عمل القضاة في مناصبهم، شدد خيرالله خلال فترة توليه رئاسة المجلس على اهلية كل قاض متدرج على ضوء ملاحظات رئيس المعهد ومديره والقضاة الذين تدرّب معهم القاضي خلال تدرجه. وعلى ضوء ذلك، تمّ صرف اثنين من المتخرجين في 17 آب 1995 بعد اخذ ملاحظات رئيس المعهد بعين الاعتبار. يؤكد خيرالله مرة جديدة ان المسؤولين احترموا قرارات مجلس القضاء الاعلى في ما خص التعيينات والتشكيلات طوال فترة توليه للمنصب، لكن هذا لم يمنعه من الاعتراف بتدخل أهل السياسة في أعمال القضاء في محاولة لتوجيه أحكامها لمصالح سياسية خاصة. وفي هذا السياق، يبدي خيرالله اهتماما كبيرا في كيفية تحسين عمل القضاة وتحصين السلك على كافة الاصعدة. فيسأل: "هل من امكانية لجعل السلطة القضائية مستقلة تماماً؟ وكيف السبيل الى قيام مثل هذه السلطة بكلّ مكوناتها بدون تدخل السلطة الاجرائية؟" يجيب بشكل متحفظ بأنه لا يمكن فصل السلطات عن بعضها، ولكن يمكن توفير ظروف افضل تضمن استقلاليتها "بما يضمن ملاحقات واحكاماً بعيدة ما امكن عن التأثيرات السياسية والمصالح الشخصية للسياسيين والفئات والطوائف."
يقرّ خيرالله ان هذه الظروف توافرت اكثر منذ تقاعده سنة 1997، علما ان عدداً كبيراً من القضاة والمحامين والحقوقيين يخالفون القاضي خيرالله رأيه لا سيما على ضوء ما آلت إليه الأوضاع القضائية منذ سنة 2000 على كافة الاصعدة. ويبني خيرالله موقفه الايجابي على عدة عوامل: بات عضوان غير دائمين في مجلس القضاء الاعلى ينتخبان من بين رؤساء غرف التمييز من قبل زملائهم العاملين في هذه المحكمة ابتداء من 2001. كما يطرح بعض الافكار التي من شأنها تطوير وتحصين العمل القضائي؛ كأن تصبح قرارات المجلس المتعلقة بالتشكيلات ملزمة للسلطة الاجرائية؛ وان يقوم مجلس التفتيش القضائي بدور سلطة الرقابة القضائية على مختلف الاجهزة القضائية. "وان تنظم ملفات تنطوي على الملاحظات التقييمية لكل قاض، في عمله وانتاجيته ونوع احكامه وسلوكه ومناقبيته، حتى يكون للادارة القضائية الوسائل التي تمكنّ من التصرف تجاه اي قاض." وهنا لا بدّ من طرح التساؤل التالي: لماذا لم يطبق خيرالله هذه الاصلاحات؟ هل سعى الى ذلك ومنع منه؟ على اية حال، يكتفي خيرالله بابداء بعض التوصيات بشأن زيادة صلاحية المؤسسات القضائية (مجلس القضاء، هيئة التفتيش) من دون ان يطالب بإصلاح هذه المؤسسات او كيفية تعيين أعضائها او تعزيز ضمانات كل قاض كاقرار مبدأ عم نقل القاضي الا برضاه. وبالتالي، تبقى آراؤه ضمن الخطاب الإصلاحي ذات الطبيعة الهرمية.
ومرة اخرى، يعترف الكاتب ان لا امكانية للوصول الى قضاء مثالي في محيط سياسي واجتماعي موبوء وفي غياب اي محاسبة او مساءلة. لا سيما "بأن هناك بقعاً في لبنان ممنوع على القضاء والاجهزة الامنية الدخول اليها او تعقّب احد فيها. كما ان هناك اشخاص ممنوع البحث عنهم او التعرض لهم او القبض عليهم حتى لو كان ذلك ممكناً، لأنهم ينتمون الى ما يسمى قوى الامر الواقع، او الى من هم اقوى من الدولة." لذا يبقى السعي للقيام بقضاء مستقل في حدود مقبولة ويشجع على ذلك ما تحقق ويتحقق بجهد كبير.
ويعود خيرالله ليؤكد ان السلطة الاجرائية في فترة توليه رئاسة المجلس "كانت ترعى السلطة القضائية رعاية الاب الصالح وتحترم استقلاليتها وتشجعها على ممارسة هذه الاستقلالية. ولقد اراحني ذلك كثيراً في ممارسة مهماتي". وهنا نتساءل: هل يعتبر القضاة اولاد السلطة التنفيذية او مراقبي هذه السلطة؟ وكيف يمكن للقضاء مراقبة السلطة الاجرائية اذا كان يعتبرها الاب الصالح لانها، وحسب قول خيرالله، لم تتدخل في شؤونه؟ فأين تصبح الاستقلالية القضائية عندها في ظل هذه العلاقة الهرمية بين الإبن (القاضي) وأبيه (السياسي) الذي يتكلم عليها خيرالله؟
كما يوضح خيرالله بأنه تمّ اللجوء الى الطريقة التأديبية لتنقية الجسم القضائي فحرّك محاكمات المجلس التأديبي وقد قضى المجلس على احد القضاة المخالفين بالصرف من الخدمة بعد ان ثبتت رشوته في احدى القضايا. ويروي ايضاً عن تجربته باللجوء الى مواجهة القضاة بأدلة الادانة لدفعهم الى الاستقالة وقد حصل ذلك مع قاضيين. وبالطبع، اتباع آلية الاستقالة هنا تبقى موضع نقد اذ كيف يعقل أن يسمح لقاض فاسد أو مرتش أن يعود ويقبض بفعل استقالته تعويض نهاية الخدمة؟
اما الوسيلة الاخيرة التي لجأ اليها المجلس فكانت عدم الموافقة على تعيين بعض القضاة، بعد تقاعدهم، في منصب الشرف، على امل ان يشكل ذلك رادعاً معنوياً للقضاة المهملين او المرتكبين وقد وضع خيرالله رأياً معللاً بهذا الخصوص تبناه مجلس القضاء. ولكن بعضاً ممن رفض المجلس قبولهم في منصب الشرف راجعوا مجلس شورى الدولة فقضى بإبطال الرفض بحجة ان عدم موافقة مجلس القضاء ليس استنسابياً ويجب ان يكون الرفض معللاً. فعطلّ مجلس شورى الدولة بذلك وسيلة كان يعوّل عليها مجلس القضاء ليعاقب "المهمل او الكسول بين القضاة". كما ان مجلس شورى الدولة كان نقض قراراً تأديبياً قضى فيه مجلس القضاء، بوصفه مجلساً تأديبياً، بصرف احد القضاة للارتشاء. ويحمل خيرالله تاليا لمجلس شورى الدولة مسؤولية شل "تحركات مجلس القضاء في مجال استعمال بعض الوسائل للضغط على القضاة كما باتت ضمانة القاضي اقوى من ضمانة المؤسسة التي ينتمي اليها تجاه سوء تصرفه"[1].
بلغ خيرالله السن القانونية للتقاعد في 30 حزيران 1997. لم يشأ العودة الى مزاولة مهنة المحاماة بعد وصوله الى اعلى الهرم القضائي، لكنه بقي يقدم الاستشارات القانونية.
في الخلاصة، يمثل فيليب خيرالله نموذج القاضي الكلاسيكي المحافظ المتحفظ، الحريص على هيبة وسمعة القضاء أكثر من حرصه على إصلاحه الفعلي، والساعي لإحقاق الحق في احكامه رغم الضغط الذي كان عرضة له والذي بقيت مصادره غير معروفة. كما ان خيرالله لم يقترح ايّ ضمانات قانونية تعزز استقلالية القضاء علماً بأن الطائف كان وضع مبدأ انتخاب اعضاء مجلس القضاء الاعلى. ونلاحظ ايضاً ان القاضي لايطرح الاصلاح الا من خلال تعزيز صلاحيات المؤسسات القضائية من دون الالتفات الى اصلاح هيكلية هذه المؤسسات أو الضمانات الشخصية للقضاة. وكخلاصة، أمكن القول أن كتاب "نحكم باسم الشعب اللبناني" يسمح بإلقاء الضوء على العديد من الاشكاليات القضائية خلال فترة التسعينات، وبالاخص المحاكمات السياسية. لكنه لا يغوص بعمق في المشاكل التي واجهت القضاء بعد انتهاء الحرب ولا يطرح حلولا جوهرية لمعضلات عرقلت عمل السلطة القضائية وربما مهدت لما نشهده اليوم من تفش لثقافة التدخل في أعمال القضاة.
[1]– تم تعديل القانون في ما بعد بحيث بات تأديب القضاة يتمّ على درجتين: في الدرجة الاولى يتولى التأديب مجلس مؤلف من رئيس غرفة في التمييز ومعه رئيسا غرفة استئنافيان، وتخضع قراراته للطعن امام الهيئة العليا للتأديب المؤلفة من الرئيس الاول التمييزي واربعة رؤساء غرف في التمييز يعيّنهم مجلس القضاء الاعلى.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.