كانت المفكرة القانونية بصدد نشر مراجعة للمذكرات التي نشرها القاضي فيليب خيرالله في كتابه: "نحكم باسم الشعب اللبناني"، عند ورود نبأ وفاته في 24-10-2014. وكان خيرالله الملقب بـ"راهب العدلية" قد تولى منصب رئاسة مجلس القضاء الأعلى وتاليا المجلس العدلي في فترة ما بعد حرب 1975-1990. تنشر المفكرة المراجعة الكاملة على موقعها الالكتروني على ثلاث حلقات. تتمحور الاولى حول بدايات القاضي خيرالله وعمله في المحاكم الاستئنافية وتعيينه رئيساً لمجلس القضاء الاعلى والمجلس العدلي. تعود بنا الحلقة الثانية الى محاكمات قائد القوات اللبنانية سمير جعجع. فيما تعرض الثالثة اهمّ محطات خيرالله اثناء رئاسته لمجلس القضاء الاعلى. (المحرر)
عن القضية الابرز خلال توّليه رئاسة المجلس العدلي، اي محاكمات سمير جعجع، قرر خيرالله الا يتطرق الى الخلفيات "التي كانت وراء اتخاذ اصحاب السلطة القرار السياسي الكبير بملاحقة سمير جعجع…الذي كان يطمح ان يصبح "الآمر الناهي" في كل ما يتعلق بموقع المسيحيين في السلطة." ويوضح الكاتب ان المجلس العدلي تمّكن من ملاحقة سمير جعجع ومعاونيه عن جرائم سابقة لقانون العفو العام الصادر في 26 آب 1991 والذي شمل الجرائم المرتكبة قبل 28 آذار 1991، من خلال الاستثناءات التي تضمنها هذا القانون[1]. ورغم رفضه تناول الخلفيات السياسية، على اعتبار أنها تخرج عن اختصاصهالا انه يسلّم ان حكومة كانت تضم عمر كرامي وسليمان فرنجيه لن تعفي عن "القاتل" خاصة ان هذا الاخير لم يبد اي تعاون مع اهل الحكم بعد توقيع اتفاق الطائف. "لم يكن من الصعب على اهل السلطة ان يجدوا في ادراجها ملفات لكلّ من اطلق عليهم لقب "امراء الحرب". ولكن معظمهم ساروا في ما خطط للحكم في لبنان بعد اتفاق الطائف، فباتوا هم الحكام الفعليون، الا جعجع الذي، على ما يقول المثل، اصر على طلب الزيادة فوقع في النقص." فأتى تفجير كنيسة سيدة النجاة في الذوق لتبرير حملة السلطة على القوات وقائدها.
ولم يلبث ان قرر اهل الحكم فتح ملفات كلّ الجرائم التي اشتبه جعجع بإرتكابها خلال وبعد انتهاء الحرب والتي استثناها قانون العفو.
اعتبر خيرالله انه لم يكن صعباً على المحقق العدلي القاضي منير حنين المكلف بقضية اغتيال داني شمعون رئيس الحزب الوطنيين الاحرار، ان يصدر قرارا باتهام جعجع ومعاونيه. وفي موازاة ذلك، أصدر المحقق العدلي القاضي جوزف فريحه قراره الاتهامي بحق جعجع ايضاً في جريمة تفجير كنيسة سيدة النجاة. بدأت المحاكمات العلنية مع بدء السنة القضائية الجديدة في تشرين الاول 1994. تحدث خيرالله عن ضغط القوات في الاعلام للبدء بدعوى التفجير قبل اغتيال شمعون لعلمهم "ان ملف الكنيسة لا ينطوي على عناصر جدية لإدانة سمير جعجع وكانوا يعتقدون بأنه اذا سقط الاتهام في قضية الكنيسة فسيؤدي الى سقوط الاتهام في الجرائم الاخرى. وهذا الامر غير صحيح، اذ لكلّ جريمة ملفها وظروفها وعناصر الادانة او التبرئة فيها." لذا، وبناء على هذه المعطيات، قرر خيرالله السير في الدعويين في الوقت ذاته تجنباً لأي التباس.
يعترف خيرالله انه وجد نفسه امام تحديين منذ بدء المحاكمات: الاول هي النية الظاهرة لدى القواتيين بعرقلة المحاكمات والثاني المحافظة على مهابة القضاء والمجلس العدلي. وتظهر خشية خيرالله من النيل من هيبة القضاء وسمعته عندما يبدأ بسرد تفاصيل محاكمات جعجع. فاللغط السياسي والاعلامي الذي رافق الجلسات والاحكام دفع الكثيرين الى التشكيك في نزاهة العدالة. وانطلاقا من ذلك، عمد خيرالله الى الدفاع عن القرارات التي اتخذها المجلس العدلي من خلال تفنيد كل قضية وشرح المعطيات التي ادّت الى صدور الاحكام فيها. بالاضافة الى ذلك، ينقل خيرالله بعد تناول كل قضية على حده ردات الفعل الايجابية على الحكم الصادر كما يصرّ الكاتب على التأكيد أن أحداً من أركان الحكم لم يتدخل لاستصدار تلك الاحكام وانّ ما قام به نمّ عن ضمير مرتاح واحترام شديد للقانون. ويثور خيرالله عندما يروي عن احد الاساقفة دون ان يسميه سؤاله في عظة في ذكرى اغتيال شمعون "من قتلني؟" "فيسمح لنفسه (هذا الاسقف) ان يشكك في حكم قضائي صدر وعيّن القتلة استناداً الى ادلة ومؤشرات متكاملة ومتطابقة."
ويعود الكاتب عند كلّ قضية للتذكير بانتقائية الحكومة في ملاحقة جعجع دون سواه. "هذه الانتقائية كانت في اساس الاحتجاجات والحملات الاعلامية وبالاخص احتجاجات البطريركية المارونية…". "وبالنسبة للمحيطين بسمير جعجع، اعتقد ان المطلعين منهم على حقائق الامور لم يتفاجأوا بما اثبته الحكم. اما من كانوا من قاعدة القوات…كانوا يعتقدون ببراءة قائدهم ولربما بقداسته…واليوم وبعد عقدين على صدور الحكم، اعتقد ان الواعين منهم يشكرون المجلس العدلي لأنه لم يذهب الى العقوبة القصوى وحفظ لسمير جعجع حياته مصححاً ضمن الحدود الممكنة استثناءات قانون العفو، التي كانت تستهدف جعجع بالذات بصورة اساسية وانتقائية." يشبه خيرالله ما حصل مع جعجع بما جرى مع القوميين الذين اتهموا بمحاولة تنفيذ انقلاب سنة 1961 وقد خفض الرئيس شهاب احكام الاعدام التي طالت البعض منهم الى الاشغال الشاقة المؤبدة. امضى هؤلاء بضع سنوات في السجن ثم اعفوا وعادوا الى ممارسة نشاطهم السياسي وانضموا في ما بعد الى الطبقة الحاكمة. اكّد خيرالله انه كان يعي ان مصير جعجع يشبه هؤلاء. تجدر الاشارة هنا الى ان خيرالله اعتبر بأن سنوات السجن ساهمت في تشجيع جعجع على أن "يترك في السجن رداءه العسكري وخرج سياسياً ناضجاً صاحب مواقف وآراء منطقية ومقنعة وله موقعه في الساحة السياسية." ومجدداً بدا القاضي وكأنه يوحي بأنّ تلك السنوات كانت كفيلة بتشجيع جعجع على التوبة.
يتابع خيرالله تعليقه على القضايا التي حوكم جراءها جعجع. ففيما خص تفجير كنيسة سيدة النجاة، يظهر خيرالله امتعاضه من تعيين القاضي جوزف فريحه محققاً عدلياً للقضية دون ذكر السبب. وفي ما خص التحقيقات، يشير الى ان اعترافات عناصر القوات فضحت ارتباط هذا الفريق في الجرائم الاخرى مما وفر السند القانوني لتوقيف جعجع. لكن خيرالله لا يغفل عن ابداء اعجابه الصريح بمرافعة جعجع عن نفسه والتي لم تقلّ اهمية، بنظره، عن مرافعات كبار محامي الدفاع. ومن اللافت ان خيرالله لا يتذكر ردود الفعل على الحكم في هذه القضية[2]بالذات، على الارجح لاقتناعه ببراءة جعجع، ويشير فقط الى اتصالين ورداه من طبارة والحريري لتهنئته وتجديد ثقتهم بالقضاء. لكن يستذكر خيرالله الظروف التي رافقت صدور الحكم: محاولات السلطة معرفة نتيجة الحكم مسبقاً، احتواء الملف على الكثير من الثغرات التي لم يتمكن المحقق العدلي من تبديدها وعدم توافر العناصر اللازمة التي تسمح للمجلس العدلي بإدانة جعجع. ويوضح الكاتب انّ ما اورده هو ليس في طور الدفاع عن المجلس العدلي بل لتوضيح بعض المبادئ الاجرائية. وكان المجلس العدلي قد توّصل الى ادانة اسرائيل بتفجير الكنيسة وعميلها جرجس الخوري، إلا أن خيرالله يتفهم ان لا يقتنع الناس بمن سماهم الحكم غيابياً على أنهم منفذو التفجير.
اما في ما خص محاولة اغتيال الوزير ميشال المر، يشرح خيرالله السبب الذي دفع المحقق العدلي الى اعتبار ميشال المر قائداً سياسياً وبالتالي احالة القضية للمحاكمة امام المجلس العدلي. اذ "لم يكن هناك اي تعريف في القانون للقائد السياسي ولا اي اسبقيات في الاجتهاد يمكن الاستئناس بها فكان على المجلس ان يهتدي الى ما كان المشترع يقصد بالقائد السياسي." لذا لجأ الى الاستثناء الذي اوردته الحكومة في قانون العفو. "كان رشيد كرامي وطوني فرنجية مقاس القيادة السياسية بمفهوم قانون العفو. وعلى هذا المقاس اعتبر ميشال المر من القادة السياسيين بمفهوم القانون، وعلى اعتبار موقعه في الخريطة السياسية الناتجة عن اتفاق الطائف. هذا الموقع الذي توضّح منذ تولي شرعية الطائف الاحكام عبر الحكومات التي شكلت وتعاقبت وكذلك المجالس النيابية حيث شغل المر موقعاً مميزاً." بقي خيرالله رئيساً للمجلس العدلي لمدة اربع سنوات فقط. لكنه حرص في مذكراته على التعليق على آخر قضية ووجه بها جعجع رغم انتهاء خدمته في المجلس وهي اغتيال كرامي. عزا المجلس الاسباب التخفيفية للاحكام الصادرة الى ارتباط الجريمة بالحرب. علق خيرالله قائلاً: "هكذا يكون القضاء بحكمته ودرايته واستقلاله قد صحح ضمن حدود صلاحياته تشريعاً بدا لكثيرين انه فاقع في تحيّزه اذ كأنه استهدف، في الاستثناء الذي نص عليه، القوات اللبنانية دون غيرها، وبخاصة قائدها." ورأى خيرالله ان قانون العفو الصادر عام 2005 الذي ادى الى الافراج عن جعجع ومن ثم عن الاسلاميين الملاحقين بجرائم الضنية ومجدل عنجر قد وضع في هذا الاطار حفاظاً على التوازن الطائفي[3].
حرص خيرالله على التشديد في اطار عرضه لمحاكمات جعجع على نزاهة القضاء واستقلالية احكامه كما انه لم يتوان عن التذكير بانتقائية السلطة في محاكمة قائد القوات دون سواه من "امراء الحرب." وبكلام آخر، كان حريصا على التمييز بين عدالة المحاكمة التي ضمنها بنفسه للمتهمين الذين ثبت تورطهم في عدد من الجرائم وانتقائية السياسة التي أدت الى ملاحقة هؤلاء دون سواهم ممن ركب في قطار السلطة، والتي لا يد له فيها.
[1]– يستند على المادة الثالثة من قانون العفو وتحديداً: الجرائم المحالة على المجلس العدلي قبل تاريخ نفاذ هذا القانون؛ جرائم اغتيال او محاولة اغتيال رجال وعلماء الدين والقادة السياسيين والدبلوماسيين العرب والاجانب.
[2]– ومما وردة في الفقرة الحكمية للحكم: تجريم المتهم سمير جعجع، وجاهياً ايضاً، لجهة انشاء الفصائل العسكرية وتجنيدها وتسليحها وانزال عقوبة الاعتقال الموقت به لمدة عشر سنوات ايّ ما يعني تبرئته من جريمة تفجير الكنيسة. (ص. 245)
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.