مخالفات لحرية المعتقد في قضية نشأت منذر وتخوّف على حرية الأقليات


2022-02-28    |   

مخالفات لحرية المعتقد في قضية نشأت منذر وتخوّف على حرية الأقليات
المصدر: من حساب نشأت منذر على يوتيوب

أفرجت السلطات القضائية عن المواطن نشأت منذر الذي يطلق على نفسه اسم “الحكيم نشأت مجد النور”، بعدما تمّ توقيفه في بداية شباط 2022 بناءً على إشارة النيابة العامة التمييزية. وكانت  النيابة العامة تحرّكت يومها بسرعة تجاوباً مع إخبارات بحق نشأت، لا سيما من أمين دار الفتوى في لبنان أمين الكردي، حول الاشتباه بإثارته النعرات المذهبية وتحقير الشعائر الدينية وانتحال صفة، واتّهامه بـ “ادّعاء النبوّة والإساءة إلى دولة صديقة”، في إشارة إلى مصر.

نشأت، الذي كان موقوفاً بالأمانة لدى المديرية العامة لأمن الدولة، غاب عن وسائل التواصل الاجتماعي بعدما تمّ الإفراج عنه، وبالتحديد عن قناته على موقع “يوتيوب”، تاركاً فيديو اعتذاره من دار الفتوى يتصدّر المشهد، رغم أنّه لم يُجدِ نفعاً لمنع توقيفه الذي يثير القلق حول وضع الحريات في لبنان، والاستنسابيّة في تطبيق القوانين. فرغم تفاعل الرأي العام بالسخرية مع منشورات نشأت، سارعت النيابة العامّة إلى توقيفه، في حين أنّها تتقاعس يومياً عن ملاحقة الجرائم الخطيرة المرتكبة من قبل المسؤولين وأصحاب النفوذ. 

المنجّمة كارمن قديح، المعروفة بكارمن شمّاس التي ظهر نشأت في أكثر من فيديو معها، كان قد تمّ توقيفها أيضاً معه، إلّا أنّه سرعان ما تمّ تركها بسند إقامة بعد التحقيق معها. في المقابل، تمّ التحقيق مع نشأت منذر، بإشراف النيابة العامّة التمييزيّة، بتهمة إثارة النعرات الطائفيّة وادّعاء النبوّة والمعجزات وتهديد منتقديه، وقد حوّله النائب العام الاستئنافي إلى طبيب نفسي بهدف التثبّت من وضعه النفسي، بحسب ما قاله المحامي نور الدين بعلبكي لـ”المفكرة القانونية”.

النّهي عن المنكر يعترض حرية المعتقد

الإخبارات التي تمّ التقدم بها ضدّ نشأت منذر جاءت باسم كل من أمين دار الفتوى، أمين الكردي، والقاضي الشرعي السني في بيروت، وائل شبارو، والمحاميَين محمد زياد جعفيل، ونور الدين بعلبكي استناداً لأحكام المواد 317 و473 و474 و391 من قانون العقوبات. وفي هذا الإطار، شرح المحامي نور الدين بعلبكي في اتصال مع “المفكرة” أنّه “من خلال هذا الإخبار يكون قد قام بواجبه أمام ربّه”، وتابع “نحن لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا الشخص كي لا يتمادى هو أو غيره في هذا الأمر”، مضيفاً “من موقعي كمحام، رأيتُ أنّ هناك منكراً قد وقع، وبالتالي بات من الواجب عليّ التصدّي له وترك القرار بيد القضاء”.

بحسب المحامي بعلبكي، فإنّ نشأت “تعرّض للنّبي محمد خاتم الأنبياء وللقرآن من خلال ادّعائه النبوّة وتزويره لإحدى سُوَر القرآن الكريم”، وهذا برأيه تعرّض للمسلمين عامّة في لبنان على اختلاف طوائفهم، مشيرًا إلى أنّ ادّعاءه النبوّة من شأنه أن يثير النعرات الطائفية ويخلق طابوراً خامساً، وعلّق “نحن في حالة يرثى لها وعلينا أن نستبق حصول الفتنة، وأُؤكّد أنّنا كنّا سنقف له بالمرصاد في حال تعرّضه للإنجيل أو للديانة المسيحية، وذلك تحت راية احترام حرية المعتقد”. بعلبكي رفض اعتبار كلام نشأت من ضمن حرية المعتقد، قائلاً “فليفعل ما يشاء، ولكن من دون المسّ بالنّبي والقرآن، فحرية المعتقد لا تشمل تزوير آيات في القرآن الكريم. عليه ألّا يتدخل بمعتقدات لا علاقة له بها”، وهو ما كان قد سبق أن ردّ عليه نشأت من خلال مقطع فيديو نشره عبر قناته على “يوتيوب”، أشار فيه إلى وجود صفحات مزيّفة تنشر كلاماً مفبركاً عن لسانه، قائلاً “أنا لم أدّعِ النبوة، هناك صفحات مزيفة مركّبة ضدي وأنا بريء منها، وسألاحق من يقفون وراءها عبر القضاء فرداً فرداً”.

تنطلق رئيسة مؤسسة أديان، الدكتورة نايلة طبارة، بدورها، من مبدأ حرية الدين والمعتقد، لتؤكّد في حديث مع “المفكرة” أنّ هذا المبدأ يسمح لكلّ شخص بأن يعتقد ما يريد، ويقول اعتقاده، ويدعو له. وقسمت قضية المواطن نشأت منذر إلى شقّين، الأوّل قانوني، والثاني اجتماعي يتعلّق بردود فعل الناس التي اتّخذت بمعظمها طابع السخرية وجعلت منه “أضحوكة”، وبشعور البعض بأنّه يهدّد معتقداتهم. 

أمّا في ما يتعلّق بالشّق القانوني، فتفنّد الدكتورة نايلة الدعوى المقدّمة ضدّ نشأت على أساس المادتين 317 و474 من قانون العقوبات اللبناني. وتنصّ المادة 317 على أنّ “كل عمل وكل كتابة وكل خطاب يُقصد منه أو ينتج منه إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة يُعاقب عليه بالحبس من سنة إلى٣ سنوات وبالغرامة وبالمنع من ممارسة الحقوق المذكورة في الفقرتين ٢ و٤ من المادة ٦٥”. وتعلّق الدكتورة نايلة على أنّ عبارة إثارة النعرات المذهبية فضفاضة وقد تستخدمها السلطة ضد من لا يتوافق معها في الرأي، قائلة إنّ “النّعرات تُثار عندما يستخدم أحد الأشخاص كلامه للتّحريض ضدّ الآخر ممّا يؤدّي لحصول كره أو عُنف”. وتساءلت: “ماذا عن النعرات الطائفية التي يثيرها رجال السياسة بخطاباتهم وتصريحاتهم؟”. وعن اتّهام نشأت بـ”ازدراء الأديان” وفق المادة 474 التي تنصّ على أنّ “من أقدم على تحقير الشعائر الدينية التي تمارس علانية أو حثّ على الازدراء بإحدى تلك الشعائر، عوقب بالحبس من ستة اشهر الى ثلاث سنوات”، توضح رئيسة مؤسسة “أديان” أنّه لم يزدرِ الأديان أو يسخر منها، بل ادّعى في بعض المقاطع المصوّرة امتلاكه معرفة تفوق تلك التي يملكها بعض رجال الدين، وهذا يصب في خانة حرية الأديان. وتذهب إلى أبعد من ذلك في إشارة منها إلى أنّ المواطن نشأت شكّل مادة للسخرية لبعض الناس ومنهم متديّنون من مختلف الأديان.

الجدير بالذكر أنّ حالة نشأة ليست الأولى من نوعها وقد وحصلت في بلدان أخرى، وفق ما أشار إليه المحامي بعلبكي، مضيفاً أنّ قانون العقوبات اللبناني لم يأتِ على ذكر هذه الحالة كما في مصر والسعودية، حيث تتّخذ عقوبات مشدّدة في حال انتحال صفة وادّعاء النبوّة، مضيفاً أنّ “قانون العقوبات اللبناني تنقصه هذه التشريعات”. 

تفاوت في الحريات بين القوانين اللبنانية والدستور اللبناني

ما حصل مع المواطن نشأت منذر يشكّل فرصةً لتسليط الضوء على التفاوت الموجود بين القوانين اللبنانيّة من جهة، والدستور اللبناني والتزامات لبنان بالمواثيق الدوليّة من جهة أخرى. وفي هذا السياق، أعربت مؤسسة “أديان” في بيان وقّعت عليه “المفكرة القانونية” وعدد من المنظّمات، عن قلقها حيال خلفيّات توقيف نشأت، وتَعارض هذا التوقيف مع مبدأ حريّة الدين والمعتقد، بغض النظر عن المضمون الذي قدمه. 

المنظّمات دعت في البيان المرجعيات القضائيّة إلى اعتماد مبدأي حرية الدين والمعتقد وحرية التعبير، إضافة إلى مبادئ المحاكمة العادلة كمرجعيّة أساسيّة أثناء النظر في القضية المذكورة، من دون أن ينتقص ذلك من أية محاسبة على أي جرم يمكن أن يكون قد حصل وفق الأصول القضائيّة والمعايير الدوليّة لمحاكمة عادلة. وطالبت هذه المنظّمات باحترام مبادئ التوقيف والتحقيق والمهل الضامنة لحماية المتّهمين بما فيها قرينة البراءة وعدم الإفراط باستخدام الحرمان من الحرية، كما دعت اللجنة الوطنيّة لحقوق الإنسان لمتابعة القضية والإجراءات القضائيّة واعتبارها فرصةً لتسليط الضوء على التفاوت الموجود بين القوانين اللبنانيّة من جهة، والدستور اللبناني والتزامات لبنان بالمواثيق الدوليّة من جهة أخرى، ومناسبة لنشر الوعي حول مفهوم الحريّات العامّة وضوابطها. فالحريات الشخصية المكرّسة في الشرعة العالمية لحقوق الإنسان والتي التزم بها لبنان بشكل صريح في مقدمة الدستور (الفقرتين ب وج) لا يجوز تقييدها إلا بهدف حماية حقوق الآخرين، أو إذا شكلت دعوة للعنف أو سبباً مخلّاً بالنظام العام.   

وقد كُرّست حرية الدين والمعتقد في المادة 9 من الدستور اللبناني التي جاء فيها “حريّة الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حريّة إقامة الشعائر الدينيّة تحت حمايتها على ألا يكون في ذلك إخلال في النظام العام”، ولم تحدد هذه المادة أديان ومعتقدات بعينها يجب حمايتها، بل اعتبرتها حريّةً مطلقةً للاعتقاد ولعدم الاعتقاد، وجعلت من الدولة الضامن والحامي لهذه الحريّة. وكرّست المادة 13 “حريّة إبداء الرأي قولاً وكتابةً وحريّة الطباعة وحريّة الاجتماع وحريّة تأليف الجمعيات” من دون أي تقييد أو اشتراط موافقة فئة ما أو مرجعيات معينة، كما كُرّست هذه الحريات في المادتين 18 و19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادق عليه لبنان.

وسبق أن صدر حكم قضائيّ في آذار 2019، توسّع في تعريف حرية المعتقد، حيث اعتبر أنّ إقرار الدولة بحرية الدين والمعتقد يفرض عليها الالتزام بالحيادين السلبي والإيجابي، وذلك بخلاف الأفراد الذين يكون لهم حقّ المفاضلة بين الأديان واختيار الدين الأكثر توافقاً مع معتقداتهم: فالتسليم بحرية المعتقد للأفراد يعني ضمنياً التسليم بحقهم في تفضيل عقيدة معينة على جميع العقائد الأخرى وصولاً إلى التبشير بها.

وبالتالي، تؤكّد الدكتورة نايلة على أنّه لكل شخص الحرية بأن يؤمن بما يريد وأن يعبّر عن إيمانه بكفالة الدستور اللبناني وحماية أجهزة الدولة المعنية، طالما أنه لا يدعو إلى عنف، في إشارة منها إلي أنّ البعض رأى عنفاً بتوعّد نشأت للشعب المصري، إلّا أنّه في الواقع لم يحرّض على مهاجمة المصريين ولم يستخدم خطاب كراهية. تشير الدكتورة نايلة إلى أنّه “بغض النظر عمّا اذا شكّل حديثه “أضحوكة” أم لا، فمن حقّه التعبير وعلى الدولة أن تدافع عن حقوق الناس وعدم زجّهم في السجون وتوقيفهم بسبب التعبير عن آرائهم”.

تخوّف من سيطرة سياسات قمع الحريّات في لبنان

“نحن بلد يتغنّى بالتنوّع، الذي تندرج ضمنه أديان وجودها يهدّد بعضه البعض”، تقول الدكتورة نايلة، وتشرح أنّه إذا ما بدأنا نشعر بالتهديد جرّاء حديث أي شخص عن الدين، سوف نشهد على زيادة التهديد بين بعضنا البعض، مضيفةً أنّ حرية الدين والمعتقد تضمن أيضاً حقّ الأفراد بتفسير الدين بما يرونه يتناسب معهم بشكل شخصيّ. وعلى صعيد الحريات، فإنّ ما يحصُل من قمع يُنذر بالأسوأ، حيث لفتت الدكتورة إلى أنّ “في يومنا هذا، أصبح هناك عدد أكبر من اللّادينيّين، فهل سيجري توقيف هؤلاء في حال لم يتمّ تقبّلهم من قبل البعض؟”

ورغم التنوّع والتّغنّي بالحرّيات، لا تزال هناك أديان وجماعات غير معترف بها في لبنان، وتشير الدكتورة نايلة إلى أن “لدينا أيضاً موضوع قوانين الأحوال الشخصية المحصورة فقط بالطوائف وما ينتج عنها من تمييز بحقّ أولئك الذين لا ينتمون إلى هذه الطوائف، سواء كانوا لادينيين أو ينتمون إلى طوائف أخرى”، ورأت في ذلك تهديداً واضحاً لكلّ شخص مختلف، وبالتالي، فإنّ كلّ هـذا يشير إلى تراجع لبنان في ما يتعلق بمواضيع حرية التعبير والمعتقد بدل أن يكون منارة بمواضيع التنوع في المنطقة، وهذا ما يثير بحسب الدكتورة نايلة، تخوّفاً من التوجّه إلى سياسات قمع أكثر فأكثر بدل سياسات تفاهم ومعرفة وقبول الحريات العامة والدفاع عنها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، حريات ، محاكم جزائية ، استقلال القضاء ، لبنان ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني