بعد مرور حوالي ثلاث سنوات على صدور أول حكم قضائي بالمغرب يقر ببنوة الإبن الطبيعي لأبيه البيولوجي، ويلزمه بدفع تعويض لأمه، وهو الحكم القضائي الذي أثار جدلا واسعا بين الأوساط القانونية والفقهية والحقوقية بالبلاد، حسمت محكمة النقض المغربية موقفها من هذه القضية حيث أيدت قرارا استئنافيا قضى بإلغاء الحكم الابتدائي.
وكان مثيرا في مضامين قرار محكمة النقض الذي تنشره المفكرة القانونية، تطرقه لإشكالية ترجيح الاتفاقيات الدولية على القانون الداخلي طبقا لما تنص عليه أحكام الدستور.
ملخص القضية
تعود فصول القضية إلى تاريخ 24/06/2016 حينما تقدمت امرأة بمقال افتتاحي أمام قسم قضاء الأسرة بطنجة-شمال المغرب-، تعرض فيه بأنها أنجبت من المدعى عليه بنتا بتاريخ 27/11/2014، وأنه يماطل في الاعتراف بنسبها، رغم ثبوته بمقتضى خبرة جينية. والتمست المدعية من المحكمة الحكم ببنوة الطفلة لأبيها، والحكم عليه بأداء نفقتها، وأداء تعويض مالي، معززة طلبها، بعقد ازدياد البنت، وتقرير خبرة جينية صادر عن الشرطة العلمية.
وأجاب المدعى عليه، أن الحمل الذي تدعيه المدعية ناتج عن علاقة فساد (المقصود به زنا)، وأن المحكمة الابتدائية قد أدانته من أجل جنحة الفساد بشهر موقوف التنفيذ، وأن اجتهاد محكمة النقض مستقر على أن الزنا أو الاغتصاب الناتج عنهما حمل لا يلحق بالفاعل ولو ثبت بيولوجيا أنه خلق من نطفته، لأن البنوة الشرعية لها أسبابها الواردة على سبيل الحصر، وليس من بينها علاقات الفساد أو الاغتصاب، ملتمسا رفض الطلب.
وبتاريخ 30/01/2017، قضت المحكمة الابتدائية بطنجة بقبول طلب المدعية، والحكم بثبوت بنوة الطفلة لأبيها البيولوجي، وإلزامه بأداء تعويض للأم قدره 100.000 درهم، أي ما يعادل حوالي 10.000 دولار.
وبتاريخ 09/10/2017 أصدرت محكمة الاستئناف بطنجة، قرارا قضى بإلغاء الحكم الابتدائي بعد استئنافه من طرف الأب البيولوجي الذي أثار في مذكرته الاستئنافية خرق الحكم الابتدائي لمقتضيات مدوّنة الأسرة التي تنصّ أن البنوة غير الشرعية ملغاة بالنسبة للأب.
قضية بنوة الابن الطبيعي أمام محكمة النقض
تقدمت المدعية بطلب نقض قرار محكمة الاستئناف الذي ألغى حكم البنوة، وأعابت عليه خرقه لمقتضيات الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب. وقد اعتبرت أنّ ما استند عليه الحكم من كون “البنوة تستوي آثارها للأم سواء كانت ناتجة عن علاقة شرعية أو غير شرعية، بينما لا ترتب أي أثر في حق الأب إن كانت غير شرعية”،
يعد خرقا لمبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور وفي الإعلان العالمي لحقوق الانسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. كما رأت أن الحكم المطعون فيه يخالف مقتضيات المادة 7 من اتفاقية حقوق الطفل التي تعطيه الحق في معرفة والديه. وأضافت مذكرة النقض أن قرار محكمة الاستئناف مخالف لأحكام الدستور، الذي تنص ديباجته، على جعل الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، وأنه من ثمّ أصبح القضاء ملزما بتطبيق الاتفاقيات الدولية المذكورة عند تعارضها مع النص الوطني.
من جهة أخرى، أثارت مذكرة النقض خرق القرار الاستئنافي لمقتضيات الفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود حينما قضى بعدم مشروعية التعويض المحكوم به من طرف المحكمة الابتدائية، لأن أركان المسؤولية التقصيرية متوفرة. فالركن المادي للاعتداء يتمثل في ازدياد طفلة وتحميل المدعية المسؤولية وحدها تجاهها، وأن الضرر اللاحق بالطفلة وبالأم ثابت من خلال تهرب الأب البيولوجي من تحمل تبعة فعل ساهم فيه، واستمراره في الإنكار رغم ما تثبته الخبرة الجينية، كما أن العلاقة السببية ثابتة.
محكمة النقض تحسم موقفها من بنوة الابن الطبيعي
قضت محكمة النقض بتأييد الحكم الاستئنافي الصادر عن محكمة الاستئناف بطنجة والذي ألغى أول حكم يقضي ببنوة الابن الطبيعي وبتعويض لأمه، معتمدة على العلل التالية:
- مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها على التشريعات الداخلية المنصوص عليه في ديباجة الدستور مشروط بضرورة العمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تستوجبه عملية المصادقة عليها؛
- الفصل 32 من الدستور ينص على أن “الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع”، والفصل 148 من مدونة الأسرة ينص على أنه: “لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية”، مما يجعل الحكم ببنوة الطفلة المولودة خارج إطار الزواج لأبيها البيولوجي حكما غير مبرر لا شرعا ولا قانونا؛
- الفصل 32 من الدستور ينصرف إلى المساواة بخصوص التمتع بالحقوق المدنية وتوفير الحقوق التي خولها المشرع كل في الإطار الذي حدده القانون؛
- محكمة الاستئناف طبقت قواعد القانون وقواعد الفقه الإسلامي التي تعد بدورها بمثابة قانون، وهي تقرّ بأن ولد الزنا يلحق بالأم لانفصاله عنها بالولادة، بغض النظر عن سبب الحمل شرعي أو غير شرعي، ولا يلحق بالأب.
وعليه قضت محكمة النقض بموجب قرارها الصادر بتاريخ 29/09/2020 برفض طلب النقض المقدم من طرف المدعية.
تعليق على قرار محكمة النقض
يعد موقف محكمة النقض من الاجتهاد القضائي المتعلق ببنوة الطفل الطبيعي لأبيه البيولوجي وحق الأم في التعويض، استمرارا لموقف هذه المحكمة من قضايا إثبات النسب وهو موقف محكوم بالتشبث بحرفية النص القانوني استنادا على مرجعية فقهية تقليدية.
ومن المعلوم أن محكمة النقض قبل صدور مدونة الأسرة كانت ترفض تماما اعتماد الخبرة الجينية في قضايا النسب، رغم مصداقيتها العلمية، متشبثة في ذلك بحرفية الفصل 91 من مدونة الأحوال الشخصية الذي ينص على أنه: “يعتمد القاضي في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب”. وكانت تعتبر تبعا لذلك الخبرة الجينية وسيلة غير مشمولة بعبارة “الوسائل المقررة شرعا” طالما أن الفقه الإسلامي لم يكن يعرف الخبرة الجينية، وهو ما أدى الى صدور قرارات تتصف بالغرابة؛
سبق لعدد من محاكم الموضوع في ظل مدونة الأحوال الشخصية أن قضت بثبوت نسب الأطفال المزدادين خلال فترة الخطوبة لأبيهم اعتمادا على فتوى من الفقه الحديث. لكن محكمة النقض حينئذ سرعان ما نقضت هذه الأحكام متمسكة بقاعدة الولد للفراش، قبل أن يتحول هذا الاجتهاد إلى نص قانوني في مدونة الأسرة.
يلاحظ أن جزءا من الجدل القانوني في موضوع الدعوى انصبّ على مدى دستورية الفصل 148 من مدونة الأسرة الذي ينص أنه: “لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية”. فقد اعتبرت عريضة النقض أن هذه المادة تخرق مبدأ المساواة المنصوص عليها في الدستور بين الأم والأب وبين الأطفال، وقد ردت محكمة النقض على هذا الدفع بكون “أحكام الفصل 32 من الدستور تنصرف إلى المساواة بخصوص التمتع بالحقوق المدنية وتوفير الحقوق التي خولها المشرع كل في الإطار الذي حدده القانون”، علما بأن اختصاص البتّ في مدى دستورية القوانين يعود إلى المحكمة الدستورية، وليس لمحكمة النقض، وهو ما يثير إشكالية التأخر في إخراج قانون الدفع بعدم دستورية القوانين إلى حيز الوجود؛
قدمت محكمة النقض تفسيرها لمبدأ سمو الاتفاقيات الدولية على التشريع الداخلي حينما اعتبرت أن مبدأ السمو يقتضي العمل على ملاءمة التشريعي الداخلي مع مستلزمات المصادقة على الاتفاقيات الدولية، وكأـنها تجعل مهمة التطبيق الفوري للاتفاقيات الدولية المصادق عليها من مهام المشرع وليس القضاء، وهو موقف يختلف عن الخطاب الرسمي الذي تعبر عنه محكمة النقض في افتتاح السنة القضائية ونماذج الاجتهادات القضائية التي تعرضها بالمناسبة والتي تكرس أعمال المحاكم بشكل مباشر لمبدأ سمو الاتفاقيات الدولية على التشريع الداخلي.
من المنتظر أن يفتح قرار محكمة النقض نقاشا عموميا حول وضعية الأطفال المزدادين خارج إطار مؤسسة الزواج، تزامنا مع المطالب المتعددة من فعاليات المجتمع المدني بتعديل مدونة الأسرة بعد مرور 17 سنة من صدورها، وإطلاق حملات للترافع لدعم الأمهات العازبات من طرف عدة جمعيات نسائية من تيارات فكرية مختلفة.
وتجدر الإشارة الى أن التقرير السنوي الأخير للمجلس الوطني لحقوق الانسان أوصى بضرورة حماية حق الأطفال في النسب بغض النظر عن الوضعية العائلية للوالدين.
مواضيع ذات صلة
سابقة قضائية في المغرب: الإعتراف ببنوة الطفل الطبيعي من أبيه والتعويض لأمه
القضاء المغربي ينتصر للمرة الثانية لحق الطفل الطبيعي في انتسابه لأبيه
محكمة الاستئناف تلغي أول حكم بأبوة طفلة مولودة خارج الزواج: هل آن الأوان لتعديل مدونة الأسرة؟
القضاء المغربي يقرّ حق أم عازبة في الحصول على دفتر عائلي
الولادات خارج اطار مؤسسة الزواج سبب لتنامي ظاهرة أطفال الشوارع بالمغرب
مكانة الشريعة الإسلامية في تشريعات المغرب في ظل الدستور الجديد: استيعاب التناقضات في إطار التوافق وتحكيم “أمير المؤمنين”
مُتبنّون يطالبون بحق معرفة جذورهم، مطالب خاصة في طور التحول الى قضية عامة في لبنان
التبني في تونس من مفخرة تشريعية الى موضوع سؤال