محكمة الاحتلال العليا: القاضي “الفلسطيني” والقانون في خدمة الاستعمار


2020-06-09    |   

محكمة الاحتلال العليا: القاضي “الفلسطيني” والقانون في خدمة الاستعمار

قامت المحكمة العليا الإسرائيلية على مدى خمسة عقود بشرعنة الاستيطان الإحلالي الصهيوني في فلسطين. في تشرين الأول 2017، صدر قرار قضائي، بتوقيع أول قاض عربي فلسطيني ثابت في المحكمة، أجاز هدم مستوطنة صغيرة اسمها عمونة، أقيمت قبل عشرين عاماً في الضفة الغربية، لأنها "غير قانونية". قد يبدو القرار انتصاراً لحقوق الفلسطينيين. لكن التمحيص في حيثيات القرار الذي سمح بإقامة مستوطنة بديلة مجاورة، تشير إلى عكس ذلك. تتناول هذه المقالة العديد من الإشكاليات التي يثيرها هذا القرار والمتعلقة بسياسات الهوية والعلاقة بين القانون والاستعمار الإحلالي عموماً وفي حالة فلسطين خصوصاً.

القانون والاستعمار

باسم القانون والدين اعتبر الأوروبيون الشعوب الأخرى بربرية لا تصلح لحكم نفسها، وبذلك كان القانون بين التبريرات الأساسية لتسويغ المشاريع الاستعمارية. يغدو القانون في هذه المعادلة علامة للحضارة والتقدّم، وبغيابه يغيبان. لذا أصبح فرض سيادة القانون تبريراً لاستعباد الآخرين ونهب بلادهم واستغلال مواردهم. يعني ذلك، أولاً، نفي سيادة الشعب على وطنه (أي غياب القانون العام أو الدستور)، وثانياً، نفي ملكية الأصلانيين لأرضهم (باعتبار الأرض مشاعاً لا يملكه أحد، وأن ممارسات الأصلانيين في أراضيهم لا ترقى لتأسيس حق في الملكية). وبناء على ذلك، نفى الإسرائيليون، وما زالوا، وجود سيادة لأحد على مناطق قاموا باحتلالها (فهم لا يعتبرون قانونياً أنّ المناطق المحتلة عام 1967 هي "محتلّة" لعدم وجود سيادة سابقة لأحد عليها). تماماً كما اعتبر الصهاينة الأوائل فلسطين أرضاً فارغة بلا شعب (وهي نظرة قانونية لا تزال حية في ما يتعلق بتبرير سلب أراضي البدو في جنوب فلسطين). لا غرابة إذاً، أنّ الخطوة التي تتبع مثل هذه النفي (بناء على خطة نتنياهو وترامب) هي ضم المناطق المحتلة وإحالة السيادة الإسرائيلية (وسبق ذلك ضم القدس) عليها بما يخالف القانون الدولي.  

تاريخياً، لم ينهب المستعمرون الأرض بالقوّة وحدها. بل استخدموا القانون بشكل مفصّل ومتواتر لتبرير نهب الأرض. ومثال ذلك نهب البريطانيين لأرض شعب الماوري في نيوزيلندا تحت مسمّيات السوق الحرّة وقانون العقود[1]. كما وضع الإسرائيليون سلسلة من التشريعات ما بين 1948 و1960 التي شرعنت نقل ملكية أراضي الفلسطينيين إلى أيدي الدولة والمنظمات الصهيونية. وبعد أن سلبوا الغالبية الساحقة من أراضي المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل، قاموا بتحويل الحق في الملكية إلى حق دستوري في قوانين الأساس في منتصف التسعينيات لتثبيت علاقات الملكية التي تم إرسائها على مدى عقود[2].

يدّعي الإسرائيليون أحياناً أنّ سماحهم للفلسطينيين في مناطق 1967 بالالتماس للمحكمة العليا ضد ممارسات الجيش الإسرائيلي هو سابقة تدلّ على تفرّدهم بين الدول في اهتمامهم بالحقوق والقانون[3]. لكن حقيقة الأمر أن ذلك ليس سابقة ولا يدلّ على حسن نوايا. لقد سبقهم الاستعمار البريطاني في الهند بتأسيس نظام قضائي على رأسه المحكمة العليا في كلكتا، لمراقبة شركة شرق الهند، الذراع الضاربة للاستعمار البريطاني، ومنع تماديها. وتم ذلك عن طريق فرض الـ"هابياس كوربوس"، أيّ الحق في معرفة ظروف المعتقل. كذلك قامت المحكمة العليا الأميركية في سلسلة من القضايا بين 1901 و1920 تعرف باسم "قضايا الانسولار"، بمناقشة مكانة بورتوريكو القانونية، والتي وقعت تحت الاحتلال الأميركي بعد الحرب الأميركية الإسبانية، قبل أن يصبح البورتوريكيون مواطنين أميركيين عام 1917. وفي حالتي الهند وبورتوريكو كانت نتيجة فرض سيادة القانون وتدخل المحكمة العليا، واحدة: تبرير ودعم استعمار البلاد المحتلة[4].

خلاصة القول، إذاً، إن لا وجود لترابط بالضرورة بين القانون والعدالة. إذاً يمكن استخدام سيادة القانون لتبرير الاستعمار من ناحية وإسباغ هالة من الشرعية عليه من ناحية أخرى. تبتغي هذه الهالة تبرير الذات عند القوة الاستعمارية لإقناع المستعمرين أنفسهم أنهم متفوقون أخلاقياً على الواقعين تحت الاحتلال بسبب وقوف القانون إلى جانبهم رغم استعمالهم لشتى وسائل الإكراه والعنف والاستغلال. ومن ناحية اخرى، تهدف هذه الهالة إلى تبرير أفعال الاستعمار تجاه الآخرين لإقناعهم بصحّة إجراءاته. وهو ما يمكن استشفافه من قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية. إذ تنبع أهمية تحليل القرارات القضائية من كونها تكشف عن علاقة القانون بالسياسة الاستعمارية. فالقرارات تضفي صبغة قانونية على هدم بيوت الفلسطينيين وإحلال المستوطنين مكانهم. فمن أبرز القرارات في السنوات الأخيرة القرار الذي أجاز هدم قرية فلسطينية في الضفة الغربية اسمها خان الأحمر بحجّة البناء غير القانوني (عام 2018)، وكذلك القرار الذي أجاز هدم القرية الفلسطينية البدوية عتير-أم الحيران في النقب في جنوب فلسطين (عام 2015). في المقابل، وللوهلة الأولى، يبدو القرار القضائي قيد الدرس (في حالة عدم قانونية مستوطنة عمونة) نصراً للفلسطينيين ولجمعيات حقوق الإنسان وهزيمة للمستوطنين. لكن هذه النظرة الأولية لا تستقيم مع حقيقة الأمر بعد قليل من التمحيص. 

القاضي "العربي الفلسطيني" وسياسات الهوية 

إنّ أول ما يلفت الانتباه في القرار المتعلق بمستوطنة عمونة هو هوية كاتبه الذي ترأّس تركيبة المحكمة المكوّنة من ثلاثة قضاة. حيث قام بكتابة هذا القرار سليم جبران، وهو أول قاض عربي فلسطيني ثابت بالمحكمة العليا. ولذا من المهم التوقّف عند مسألة "سياسات الهوية" قبل التطرّق لنص القرار نفسه. ذلك أن تعيين قاض عربي في محكمة دولة تعرّف نفسها دستورياً على أنّها "دولة يهودية ودولة اليهود" يثير إشكالية سياسات الهوية التي تمارسها أنظمة الحكم القمعية. حيث يحاول النظام الذي يميّز بشكل جماعي ضد مجموعة من المواطنين التغطية على ممارساته الجماعية باحتواءات فردية. أي أنّ النظام يضمّ أفراداً من أبناء المجموعة قاموا بتذويت دونيّتهم وتصالحوا مع النظام وتعايشوا مع المحدوديات البنيوية التي يفرضها على بني قومهم لأغراض التطور المهني أو الاقتصادي. في المقابل، يستثمر النظام وجود هؤلاء الأفراد ونجاحاتهم الفردية ضمنه لنفي تهمة التمييز والعنصرية عنه.

ولا يشذ تعيين القضاة عن هذه المعادلة. من ناحية، وعلى مدى 70 عاماً من تاريخها عيّنت إسرائيل قاضيين ثابتين عربيين فلسطينيين فقط في المحكمة العليا، أوّلهما سليم جبران الذي تقاعد قبل عامين. وثانيهما جورج قرا، وهو القاضي العربي الوحيد  بين 13 قاضياً في المحكمة. في مثل هذه الحالات تصبح الهوية الفردية المتصالحة مع النظام هوية غير صدامية، بل مجرد واحدة من بين الهويات المنضوية تحته. ونتيجة ذلك أنّ غطاء "التعددية الثقافية والإثنية" يغطّي ويموّه مبنى الدولة العنصري. أي أنّ تعيين قضاة عرب يندرج ضمن منطق "التعددية" ضمن الإطار الصهيوني حيث يتم تعيين المرأة اليهودية واليهودي المتديّن واليهودي المستوطن وكذلك العربي الفلسطيني، كأنّ لا اختلاف بين علاقة الدولة اليهودية مع هذه الهويات وعلاقتها مع الهوية العربية الفلسطينية. وتتعايش هذه الأطياف طالما قامت بتذويت المسلّمات الصهيونية (بأن تقبل الدونيّة المفروضة وتتحرّك ضمنها بدون تحدّيها). أي أنّ التعددية هي ضمن الصهيونية لا خارجها. والملفت أنّ القاضي جبران دأب مثلاً على اقتباس النصوص الدينية اليهودية ضمن مسوّغاته القانونية بدون أن تكون هناك ضرورة لذلك.

القاضي "العربي الفلسطيني" وشرعنة الاستيطان 

يبرز قرار عمونة بشكل ساطع مآلات سياسات الهوية، إذ أنّ القاضي الفلسطيني المذكور هو الذي يقوم بتطويع القانون لخدمة الاستيطان[5]. ففي حقيقة الأمر، إنّ هذا القرار من حيث المنطق والتبرير القضائي وكذلك من ناحية النتيجة عبارة عن نصر للمستوطنين. وقد فهم ذلك المستوطنون سريعاً واحتفلوا بالقرار الذي كان أحد القرارات الأخيرة التي كتبها القاضي جبران قبيل وصوله إلى سن التقاعد.

هناك أسباب عدّة لاحتفال المستوطنين بقرار القاضي العربي الذي يتبنّى المنطق القانوني الصهيوني بشكل كامل. أولاً، تحديد هذه المستوطنة بشكل عيني كغير قانونية دون غيرها من المستوطنات "القانونية" في الضفة الغربية هو إشكالي. فمن منظور القانون الدولي، إن المستوطنات الصهيونية (في المناطق المحتلة عام 1967) كلّها، مهما كانت طريقة إقامتها (بمباركة وإشراف الحكومة أم لا)، هي غير قانونية. خلافاً لمنطق القانون الدولي المتعارف عليه (بما في ذلك معاهدة روما 1998) والذي يعتبر الاستيطان جريمة حرب، قامت المحكمة العليا منذ بداية الاحتلال بإرشاد سلطات الاحتلال إلى الطريقة القانونية للاستيطان. وفقاً لهذا المنطق، تكون المستوطنة قانونية إذا تمّ بناؤها على "أراضي دولة" لا أراض خاصة لمالكين فلسطينيين. منذ ذلك الحين، حرصت الدولة بشكل عام على مصادرة الأراضي في الضفة الغربية واعتبارها ملكاً عاماً قبل بناء المستوطنات. أي أنّ القيود القانونية على القوّة السياسية، وتحديداً الاستعمارية، في هذه الحالة هي في الأساس شكلية. مشروع الاستيطان على أراض محتلة قانوني وفق هذا المنطق طالما خضع للمتطلبات الشكلية. بناء مستوطنة مثل عمونة، وهي جزء من عشرات المستوطنات التي بادر إليها مستوطنون لفرض سيطرتهم على أراضي الضفة الغربية، هو غير قانوني لأنها أقيمت على أرض فلسطينية وبدون مصادقة رسمية حكومية. 

يندرج قرار القاضي العربي الفلسطيني، إذاً، ضمن هذا المنطق العام. لكنه يتجاوز هذا المنطق إلى شرعنة هذه المستوطنات غير القانونية وفقاً للقانون الإسرائيلي. حيث شكّل الاتفاق مع الجيش على إخلاء المستوطنة غير القانونية طواعية ونقلها إلى مكان آخر قريب في المنطقة نفسها نصراً للمستوطنين لأنهم فرضوا على الجيش وجودهم واستمرارهم. لذا عندما يقوم القاضي جبران بمنح المشروعية القانونية العامة للتشريع العسكري الذي ينفذ هذا الاتفاق مع المستوطنين فإنه يساهم في شرعنة مثل هذه المستوطنات التي أنشأها غلاة المستوطنين.

ثانياً، يكرِّس هذا  القرار المنطق القانوني الصهيوني الذي تطوّر في العقد الأخير حول مكانة المستوطنين في الضفة الغربية. في الماضي كانت المحكمة العليا عند خوضها في التماسات فلسطينية توازن ما بين الأمن (سياسات الدولة ومصلحة الجيش وأهدافه) وما بين الحقوق الفردية والإنسانية للفلسطينيين. يتمّ بذلك محو الوجود السياسي للفلسطينيين كجماعة سياسية تملك الحق في تقرير المصير ويتم بدلاً من ذلك التعامل معهم كأفراد فقط ذوي "احتياجات إنسانية". وفي الغالبية الساحقة من هذه الالتماسات التي تنزع السياق السياسي عن القضية الفلسطينية، كانت النتيجة ضد صالح الفلسطينيين. ولكن مع ازدياد عدد المستوطنين وازدياد قوّتهم السياسية قامت المحكمة بالتوازي بإضافة عامل جديد لهذه الموازنة القضائية. مثل العديد من القضاة الصهاينة قبله، يقوم القاضي جبران بالموازنة ما بين ثلاثة مصالح: الأمن وحقوق المستوطنين وحقوق الفلسطينيين. هذه الموازنة تجعل من المستوطنين عاملاً مستقلّاً عن الجيش الذي يحميهم ويضعف وزن الفلسطينيين أكثر في ثالوث المعادلة القضائية. يتحوّل المستوطنون بقدرة قادر إلى جزء من المواطنين المدنيين وتفرض المحكمة على الجيش واجباً قانونياً يقتضي الأخذ بعين الاعتبار احتياجات ومصالح المستوطنين.

ثالثاً، يقوم جبران وفقاً لهذا المنطق برفض اتهامات الملتمسين، للتشريع الذي سنّه قائد قوات جيش الاحتلال بالنسبة للمستوطنة. حيث قام قائد الجيش وهو بمثابة السلطتين التشريعية والتنفيذية في المناطق المحتلة، بتحديد منطقة مجاورة بديلة لمستوطني عمونة لإقامة مستوطنة مؤقتة على أراضي الفلسطينيين. اعتبر الملتمسون ذلك بمثابة تشريع مسيّس لخدمة المستوطنين على حساب حقوق الفلسطينيين وأملاكهم بما في ذلك أملاك اللاجئين. ولكن جبران حاجج بأنه إذا كان الجيش ملزماً قانونياً بخدمة المستوطنين فلا غضاضة عليه ولا نقد ضده إن فعل. يقول جبران (الفقرة 27 من القرار):

"وبعد أن أوضحنا أنّ القائد العسكري ملزم للعمل على مصلحة مواطني المنطقة الإسرائيليين [أي المستوطنين في الضفة الغربية]، يبدو أنّ… لا خلاف على أنّ التشريع المعدّل [الذي سنّه الجيش] يحقق هذا الهدف… هذا الهدف، الذي انتقده الملتمسون نقداً حاداً ونسبوا إليه نوايا سياسية غير لائقة، لا يستحق مثل هذا الاستنكار…"      

هذا يعني أنّ القاضي هنا يحوّل الهدف السياسي المتعلّق برفاهية المستوطنين (وتحديداً استمرار وجود المستوطنين ولو على رقعة بديلة مجاورة لعمونة) إلى هدف "إنساني" مقبول ومناسب ومتوافق مع القانون الدولي، كما تفسّره المحكمة الإسرائيلية. يتّهم الملتمسون الجيش بالتسييس لأنه يساند ويستوعب المستوطنين مع أنّ القانون الدولي يتطلّب من الاحتلال أن يسهر على المصلحة العامة للواقعين تحت الاحتلال لا مصلحة ذراع الاحتلال المدنية. فيرد جبران على ذلك بالقول إنه بالطبع على الجيش الاهتمام بمصلحة المستوطنين لأنهم مدنيون، حتى لو خالفوا القانون على مدى أكثر من 20 عاماً. هذا التعامل مع المستوطنين المتطرفين الذي يتسابقون مع الحكومة على فرض الاستيطان، كمجرّد مدنيين متساوين شكلياً بالقانون من حيث علاقتهم بالجيش، ينزع الطابع السياسي والأيديولوجي عن المستوطنين أيضاً وليس فقط الفلسطينيين.

بالمقابل، لا يرى جبران غضاضة بالتغاضي عن مصلحة اللاجئين، أي أصحاب الأرض الغائبين الذين تقام المستوطنة على أرضهم. بالرغم من اعتراف جبران بوجود واجب قانوني عام من طرف القائم على أملاك الغائبين، إلّا أنّ هذا الواجب القانوني محدود (الفقرة 57): "الحفاظ على الأملاك وما ينتج عن هذه الأملاك حتى عودة أصحاب الأملاك الغائبين–وفقط. لا يجب على القائم أن يلائم وجه الاستعمال الذي تستخدم الأملاك فيه لرغبة الغائبين، وأصلاً هو لا يستطيع أن يعرف رغبتهم بسبب كونهم غائبين". أي أنّ الاحتلال يستطيع أن يستولي على أرض تابعة للاجئين، بغض النظر عن رغبتهم، لغرض حل مشكلة المستوطنين "الإنسانية" بعد أن بنوا مستوطنة غير قانونية على رقعة مجاورة. هذا الاستيلاء على الأرض مُجاز قانونياً رغم أنّه "من الواضح" أنّ "الهدف الأساسي من وراء عملية الإستيلاء على الأرض لا يتعلق بمصلحة الغائبين، بل مصلحة ساكني عمونة وبهدف البحث عن حل لإسكانهم" (الفقرة 60).    

وعندما يناقش جبران اعتبارات الجيش في سن التشريع وموعد إخلاء المستوطنة، مثل منع الاحتكاك والعنف بين الطرفين، يبدو لوهلة كأن الجيش قوة محايدة تقف مسافة متساوية من الطرفين (الفقرة 78 مثلاً). ولا يأخذ منطق "منع الاحتكاك" بعين الاعتبار كون الاحتلال نفسه عنفاً مؤسساتياً ويومياً ضد الفلسطينيين، وكون الاستيطان نفسه استفزازاً واحتكاكاً مهما أسبغت على بعضه المشروعية القانونية. لذا، يغيب منع الاستيطان وسرقة أراضي الفلسطينيين عن منطق "منع الاحتكاك" (الفقرة 83 مثلاً).

رابعاً، تبرز الخلافات ضمن تركيبة المحكمة حدود الإجماع وضيق رقعة الخلاف بين القضاة الثلاثة، رغم كون أحدهم فلسطينياً. حيث حظي قرار جبران بدعم القاضي دنتسغير وبمعارضة القاضي هندل. لكن الخلاف بين جبران وقرار القاضي المعارض هو فقط على التطبيق لا على المبدأ. لذا يوضح القاضي هندل أنه يتفق مع جبران في مشروعية قرارات قائد قوات الجيش، بما ذلك سلطة التشريع ووضع اليد على أراض، ولكنهما يختلفان فقط في تقديرهم للسلطة التقديرية الممنوحة للضابط وسلامة الإجراءات في عملية الاستيلاء على الأرض. وفقاً للقاضي جبران، كانت الإجراءات غير قانونية لأن المصلحة في الإخلاء الطوعي، أي في موافقة المستوطنين ولتجنّب مقاومتهم العنيفة لهذا الإخلاء من الأرض التي سيطروا عليها على مدى 20 عاماً، تغلّبت على مصلحة أصحاب الأراضي الفلسطينيين لدرجة أخلّت بسلامة الإجراءات. ومثال ذلك، الوقت القصير الممنوح في التشريع العسكري لأصحاب الأراضي للاعتراض على الحل المقترح لساكني عمونة. إذاً، اعترض القاضي جبران فقط على الوزن المبالغ به لمصالح المستوطنين ولضرورة تجنّب عنفهم وعلى شكلية الإجراءات لا ماهيّتها. في حين وافق القاضي هندل على أهمية الوزن الممنوح لهذه الاعتبارات ولم يرَ حاجة للتدخل القضائي في سلطة الجيش التقديرية.

خلاصة

من ناحية النتيجة، أعطت  المحكمة الضوء الأخضر للجيش للسماح بإقامة مستوطنة البديلة للمستوطنة "غير القانونية". كل ما على الجيش فعله هو الالتزام بسلامة الإجراءات عند مخالفة القانون الدولي الذي يمنع الاستيطان بكافة أشكاله. وعندما نقرأ مثل هذا القرار على خلفية التطوّرات في السنوات الأخيرة (تعيين قاضيين اثنين من المستوطنين في المحكمة العليا، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، تصريحات رئيس الحكومة نتنياهو حول نيته ضم الضفة الغربية، تشريع قانون لشرعنة الاستيطان، إلى آخره) نرى زحفاً سياسياً مستمرّاً نحو تحويل الإحتلال المؤقت إلى ضم دائم. 

تقوم المحكمة الإسرائيلية العليا بقضاتها، عرباً أم يهودَ، بإعطاء الغطاء القانوني لمثل هذه التطورات التي تجذر الاستعمار. لكي تكون هذه الشرعنة القانونية ذات مصداقية، تصرّ المحكمة على سلامة الإجراءات وأحياناً تعارض بعض الممارسات الاستعمارية باسم سيادة القانون. لكن من الواجب الانتباه إلى المضمون لا الشكل فحسب، والقاعدة لا الاستثناء. في الغالب، لا تمنع سيادة القانون سحق الضعيف وسلب أراضيه، ما دام ذلك يتم بشكل قانوني. لا تمنع سيادة القانون الاضطهاد، بل تفرض قيوداً شكلية تمنع الاستشاطة فيه[6].  

 


[1] Stuart Banner, "Conquest by Contract: Wealth Transfer and Land Market Structure in Colonial New Zealand", Law & Society Review, Vol. 34, No. 1 (2000), pp. 47-96

[2] Nimer Sultany, “The Legal Structures of Subordination: The Palestinian Minority and Israeli Law” in Nadim N. Rouhana and Sahar N. Hueidi (eds.), Ethnic Privileges in the Jewish State: Israel and its Palestinian Citizens (Cambridge: Cambridge University Press 2017) 191-237. 

 

[3] David Kretzmer, The Occupation of Justice: The Supreme Court of Israel and the Occupied Territories (SUNY Press, 2002).

 

[4] Nimer Sultany, “Activism and Legitimation in Israel’s Jurisprudence of Occupation”, Social & Legal Studies, vol. 23: 3, pp. 315-339 (2014).    

 

[5] قرار محكمة عليا رقم 794 لعام 2017، وائل حسين باجس زيادة و11 آخرون ضد قائد قوات الجيش في الضفة الغربية و4 آخرين (21 تشرين الأول/أكتوبر 2017). 

[6] Nimer Sultany, “The Legacy of Justice Aharon Barak: A Critical Review”, 48 Harvard International Law Journal Online, vol. 48, pp. 83-92 (2007), http://www.harvardilj.org/online/113.            

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مقالات ، فلسطين



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني