محاكمات “سلطويّة” داخل الأحزاب السياسيّة والجمعيّات: “التيار الوطنيّ الحرّ” نموذجاً


2016-11-17    |   

محاكمات “سلطويّة” داخل الأحزاب السياسيّة والجمعيّات: “التيار الوطنيّ الحرّ” نموذجاً

لا تزال تداعيات فصل العديد من الناشطين[1] في “التيار الوطنيّ الحرّ” من قبل المجلس التحكيميّ فيه مستمرةً، بعد موجة الإعتراضات الواسعة على إدارة أصحاب القرار فيه لملف الإنتخابات الرئاسيّة الحزبيّة، وملف الإنتخابات البلديّة والإختياريّة التي جرت في أيار 2016. وقد بدا من الهام الإمعان في كيفيّة إجراء المحاكمات التي أدّت إلى فصل هؤلاء، لما يحمله ذلك من دلالاتٍ بليغةٍ على طبيعة العلاقة السائدة داخل الأحزاب السياسيّة، وبشكل أعمّ الجمعيّات، بين قياداتها والأعضاء المنتسبين إليها. وهي دلالاتٌ تشير إلى مدى إلتزامها هذه الأحزاب والجمعيّات بمبادئ الديمقراطيّة والمحاكمة العادلة في تنظيماتها الداخليّة. ويستند تعليقنا هذا على عيّنةٍ من ثلاثة قراراتٍ صدرت كلها عن الهيئة التحكيميّة الثانية في “التيّار الوطنيّ الحرّ” رقم 18/2016 و20/2016 و28/2016 في 24 آب 2016. وسيكون ضرورياً في ما بعد مقارنة هذه القرارات بالقرار الصادر عن الهيئة التحكيمية الثالثة لدى “التيّار” في 13/7/2016، والمتعلّق بالإشكال الحاصل في صفوفه إثر الإنتخابات البلديّة والإختياريّة.

محاكمات غير معنيّة بمبادئ المحاكمة العادلة
أول ما يلفت النظر عند الإمعان في القرارات التي تمكنّا من الإطلاع عليها، أن المجالس الحزبية اعتبرت صراحةً أن بإمكانها التنصّل من أصول المحاكمات المدنيّة، ليس فقط في حال تضمُّن الأنظمة الداخليّة لقواعد خاصّة تمّ إقرارها من قبل أجهزة الحزب، بل حتى في حال إلتزام هذه الأنظمة الصمت بخصوص أصول المحاكمة المعمول بها في المجالس الحزبيّة، أو في حال إستكمال هذه الأنظمة بتعليماتٍ تطبيقيّة تصدر بقرارٍ عن رئيس الحزب وحده. والأخطر من ذلك هو أن هذه المجالس تنصّلت ليس فقط من أصول المحاكمات المدنيّة، بل بدت وكأنها تعلن أنها غير معنيّة إطلاقاً بمبادئ المحاكمة العادلة. فهي تلتزم بتطبيق الأنظمة الداخليّة للحزب والتعليمات التطبيقيّة لرئيس الحزب، حتى ولو أتت مخالفة بداهةً لهذه المبادئ. وهي في الوقت نفسه تتنصّل من أيّة مرجعيّة أو قاعدة ملزمة في حال أعرضت الأنظمة الداخلية أو التعليمات التطبيقية المذكورة عن تنظيم أيٍّ من جوانب المحاكمة لديها. وهذا ما نستشفه بوضوح من مجموعةٍ من حيثيّات القرار سنبينها تباعاً في هذا المقال.

وكان المدّعى عليهما في ملفي القراراين 18 و28 قد أرغما المجلس التحكيميّ على توضيح موقفه بهذا الشأن، حين قدّما دفوعاً (شكليةً) تمسّكا فيها بضرورة وقف السير بالمحاكمة لعدم احترام حقوقهما بالدفاع. فإلى جانب إبلاغهما الإستدعاء بموجب “واتساب”، لم يتم الإستماع إليهما، ولم يستلما نسخةً عن ملفيهما، ولم يطّلعا على مضمونه. كما لم يجرِ أيّ تحقيقٍ معهما قبل إحالتهما إلى المجلس التحكيميّ، فضلاً عن أن إستدعاءهما لم يحدّد أيّ نصّ يتمّ ملاحقتهما على أساسه. وكانت الإستدعاءات قد اكتفت بالإشارة إلى مخالفة المادة 2 من النظام، مع العلم أن هذه المادة فضفاضة جداً وتنصّ على فصل الأعضاء أو طردهم لأسبابٍ عديدة ومتمايزة، منها مخالفة أيّ مبدأ من مبادئ “التيّار” وأهدافه المذكورة في مقدّمة النظام، أو عرقلة العمل، أو تعطيله داخل المؤسسات الحزبيّة، أو مخالفة قرارات القيادة الحزبيّة، أو تشويه صورة “التيّار” قولاً أو عملاً.

وجواباً على عدم احترام أيّ من هذه الأصول الجوهريّة، اكتفى القراران، وبحيثيةٍ متطابقةٍ تماماً بينهما، باعتبار أن “مجلس التحكيم لدى التيار الوطني الحر ليس محكمة عدلية ولا يخضع بالتالي لقواعد أصول المحاكمات المدنية بل للقواعد المنصوص عليها في النظام الداخلي العام للتيار الذي أنشأها وفي تعليماته التطبيقية”. واعتبرا أن “النظام المذكور لم يحدّد أصول تبليغ الشكوى، بحيث يجوز إبلاغها بكافة الطرق بما فيها الهاتف ودون شكليات معيّنة”. وعليه، اعتبر القراران أن الدعوة إلى الحضور عبر “واتساب” والتي بيّنت “موضوع الشكوى وموعد الجلسة ومكانها” كافيةً لصون حقوق الدفاع، إذ أنها منحت المدعى عليه “الفرصة للدفاع عن نفسه مع (إمكانية) الإستعانة بمحام” إن رغبا بذلك.

وعلى هدى هذه المبادئ، بات بإمكان المجلس أن يردّ الدفع المتصل بعدم إبلاغ الأدلة والمستندات. فالنظام الداخليّ “لم ينصّ على وجوب إبلاغ المشكو منه الأدلة والمستندات وسائر المعلومات”. ويلحظ هنا أنّ القرارين اكتفيا بهذا الحدّ لرد الطلب، علماً أن الفقرة “د” من التعليمات التطبيقيّة الخاصّة بمجلس التحكيم، والصادرة بتعميم رقمه 89 عن رئيس “التيّار” بتاريخ 9/6/2016، ذهبت أبعد من ذلك في انتهاك حقوق الدفاع، بحيث نصت على أن “محتويات الملف كافة من تحقيقات واستجوابات ومطالعة المفوض العام تتمتع بالسرية المطلقة” وأنه “لا يجوز افشاؤها أو اعطاء صور عنها”. ومن البيّن أن هاتين “التعليمتين” تنتهكان تباعاً مبدأ الوجاهية الذي يضمن حقّ كلّ طرف في المحاكمة بالإطلاع على كافة المستندات أو اللوائح المقدّمة للقاضي فيها”[2]، ومبدأ العلانية، وكلاهما يُعتبران من ضمانات المحاكمة العادلة ومن المصادر الأساسيّة لتعزيز ثقة المتقاضين[3]. وقد يكون مردّ امتناع المجلس عن الإشارة إلى مضمون هذه التعليمات التطبيقيّة هو عدم اقتناعه بها أو عدم الرغبة في الكشف عن “تعليمات” ذات طابع سلطويّ واضح.

ودحضاً لحيثيّات المجلس التحكيميّ، يجدر هنا التذكير بالقرار الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف بتاريخ 2-2-2011 بتعليق القرار الصادر عن “الإتحاد اللبنانيّ للتزلّج” بحق بطلة التزلّج شيرين نجيم، على خلفية عدم احترام القرار لحقوق الدفاع، مكرّساً عملياً موجب النقابات والإتحادات والجمعيات تأمين حقّ الدفاع لأعضائها عند ممارسة صلاحياتها التأديبيّة، خصوصاً الصلاحيات التي من شأنها حرمان أحد أعضائها من حقٍّ معيّنٍ تبعاً لخطأ معيّن[4]. وكان الحكم قد أعلن “حقّ الدفاع “حقاً طبيعياً”، أيّ حقّاً مستمداً من طبيعة الإنسان (وبشكلٍ أعمّ طبيعة الأشياء) بمعزل عن إرادة المشرع”. ويلتقي هذا القرار مع المبدأ القائل بوجوب تطبيق ضمانات المحاكمة العادلة في أيّة “منازعة على حقوق أو واجبات ذات طابع مدني”، وأنه يكفي أن تكون الهيئة “تحكم” بموضوعٍ مدنيّ[5] أو جزائيّ، ومنها القضايا التأديبيّة[6]، كي تشملها هذه الضمانات حتى لو لم تكن هذه الهيئة “محكمة” بمفهوم القانون الداخليّ[7]. وهذا ما يذهب إليه إجتهاد المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان[8]. ويوضح الإجتهاد أنه لا يجب ربط مفهوم “المنازعة” بتعريفٍ تقنيّ جداً[9]، إذ يكفي أن يكون هنالك “نزاعٌ جديّ وحقيقيّ موضوعه وجود أو نطاق أو آليات تطبيق حقّ ما”[10].

وعليه، تعتبر ساقطةً تماماً ذريعة المجلس التحكيميّ التي تعفيه من احترام الأصول الجوهريّة، وخصوصاً تلك التي تصون حقّ الدفاع، بحجّة أنه “ليس محكمةً عدليّة”.

وبما لا يقلّ خطورة عمّا تقدّم، عمد المجلس مباشرةً بعد ردّ الدفوع الشكليّة إلى الحكم في الأساس، عوضاً عن إبلاغ المدّعى عليه ردّ الدفوع ودعوته إلى تقديم دفاعه في الأساس. ما يشكّل إستكمالاً لنسف حقوق الدفاع.

تكريس الهرميّة والصوت الواحد
عندما نقرأ في القرارات التي تمّ الإطّلاع عليها لتحديد ماهية المخالفات التي أسّست لإدانة أعضاء “التيّار” وفصلهم منه أو تعليق عضويتهم، يتضح أنها تتصل بالدرجة الأولى بانتقاد قيادة الحزب، وتحديداً رئاسته. ويهمنا القول بداية هنا أننا نعيد نشر بعض العبارات التي اعتبرها المجلس مهينة، ليس لاقتناعنا بها أو لأيّ دافعٍ سوى تمكين القارئ من تقييم قرارات الفصل.

وفي هذا السياق، اعتبر المجلس أن نشر أحد الأعضاء على صفحته على “فايسبوك” كلاماً مفاده أن “الأخ (المقصود رئيس الحزب) بدو يينا نستقيل تتقضالو الساحة كلها”، ونعوتاً مثل “الزفت” أو”الغدّار” ونشر صورة مكنسة ضمنها عبارة: “وحدا الانتخابات بتنضف… لا للتعيين... نعم لإعادة انتخاب رئيس قوي للتيار الوطني الحر“، هي من التصرفات المهينة بحق رئيس الحزب والتي من شأنها تبرير الفصل.

أما الناشط الثاني فقد تمّ فصله وفق ما جاء في القرار على خلفية “تناوله من خلال الواتساب في مجموعة تضم أكثر من مئة شخص، زملاء له في الحزب”. وكان قد قال في العبارة التي يدينها القرار أن “الجنرال ومن ثم القيادة هما المسؤولان الأول والأخير عن التعتير”، داعياً زملاءه إلى “إغلاق الفيسبوك الخاص ب(ه)م، (وتعلم) عدم نشر أيّ موضوع سياسي (والإمتناع) عن التداول بالشؤون الحزبيّة مع الآخرين”. كما عزا إليه القرار قوله أن “حكمت ديب لا يمتلك أيّ حكمة”، واصفاً بعض الأعضاء الآخرين في الحزب بـ”الكذبة والكتبة والطاعنين بالظهر”. وقد اعتبر القرار أن أقواله المذكورة والموجّهة إلى زملائه في “التيّار” إنما تحطّ من قدرتهم وتسيء إليهم، فضلاً عن أنها تنتقد العماد ميشال عون وتتهكم على المجلس التحكيميّ، وهي تشكل جرائم القدح والذم، وإخلالاً عن قصد بالواجبات التي يفرضها ميثاق “التيّار”، وتشويهاً لصورته. وقد استند المجلس إلى البند الثاني من المادة 2 من النظام التي تنصّ على فصل العضو في “التيّار” عند “تشويه(ه) صورة التيّار قولاً أو عملاً”.

الناشطة الثالثة تمّ تعليق عضويتها على خلفية نشرها على “فايسبوك” لعباراتٍ مثل: “Happy Baptism anniversary Ziad Abs و”ثانكس على “تعليق العضوية” وإقالة الهيئة” و”ما تنسى الماما يللي كمان حولتها على المجلس التحكيمي الكريم… أمي ستّ مناضلة ومن لمّا وعيت عالدنيي وبتسوى ثقلها ذهب… وفي أنا كمان إذا بعجبك ما بعرف!”. وقد وجدت الهيئة الثانية في المجلس التحكيميّ أن هذه العبارات تستهدف رئيس “التيّار” وتشكّل “إهانة علنيّة مباشرة” له.

وما يشكّل مؤشراً إضافياً على عجالة المحاكمة procès expéditifs هو تضمين القرارات الثلاثة حيثيات إدانة متطابقة، من دون إيلاء أيّ اهتمامٍ للإختلاف في الوقائع بين القضايا. ومن أبرز ما جاء في الحيثيّات أن “انتساب المشكو منه للتيّار الوطنيّ الحرّ يفيد القبول بأنظمته وأحكامه وشرعته المناقبية والقرارات الصادرة عن الهيئات المسؤولة لديه. وحيث أن تصرفات المشكو منه المتكرّرة على النحو المذكور أعلاه، تتناقض مع أبسط قواعد الإنضباط الحزبيّ وتشكّل جرائم القدح والذم المعاقب عليها قانوناً وإخلالاً عن قصد بالواجبات التي يفرضها عليه ميثاق التيّار وأنظمته والتعاميم كافة وتشويهاً لصورته، ومن شأنها أن تؤثر بشكلٍ سلبيّ على نشاط التيّار وتظهر انعدام السلوكية الرائدة في العمل الحزبيّ لديه، ما يبرّر اتخاذ تدابير مسلكيّة بحقه”.

في المقابل، لم تبيّن القرارات كيف أن التعابير المنشورة على “واتساب” أو “فايسبوك” عمدت إلى “تشويه صورة التيّار”، أو شكلّت إخلالاً بمبادئه. فعلى أيّ أساس يُعتبر رفض التعيين والدعوة إلى انتخاب رئيسٍ لـ”التيّار” تشويهاً لصورته؟ وعلى أيّ أساس يُعتبر انتقاد العماد عون وقيادة “التيّار” على إدارتهم لملف الإنتخابات الداخليّة الحزبيّة تشويهاً لصورته؟ وعلى أيّ أساس يُعتبر انتقاد التضييق على الناشطين في حريتهم بالتعبير من قبل المجلس التحكيميّ تهكّماً عليه وإساءة لـ”التيّار”؟ بالطبع، يصعب فهم هذه الإدانة إلا إذا كان المقصود بصورة “التيّار” ومبادئه منع انتقاد القائد، أو منع انتقاد الزملاء، أو منع انتقاد أداء أيّ هيكل من هياكله.  وفي هذه الحالة، يظهر توجّهٌ بتسخير شرعة مبادئ “التيّار” وأهدافه ونظامه الداخليّ كما الآلية التأديبيّة التي وضعها، لتكريس هرميّةٍ قويّةٍ داخله، ولإسكات أيّ أصوات منتقدة أو معارضة داخله – خصوصاً لما آلت إليه اللإنتخابات الداخليّة الحزبيّة -، ولإعادة جميع الناشطين إلى الصفّ. ويأتي تعديل تركيبة المجلس التأديبيّ بشكلٍ يعزّز صلاحيات الرئيس في اختيار أعضائه ليدعم هذا الطرح. فبعدما كانت المادة 26 من نظام 2014 تنصّ على أن المجلس يتشكّل من 3 أعضاء يعيّنهم رئيس التيّار و6 أعضاء ينتخبهم المجلس الوطنيّ من خارج أعضائه، خفّض عدد الأعضاء المنتخبين إلى المجلس الوطنيّ من 6 إلى 3، على أن يتشارك الأعضاء المعيّنون من الرئيس والمنتخبون من المجلس في انتخاب الأعضاء الثلاثة المتبقين.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن موجب تعليل الأحكام يُعتبر من مقتضيات المحاكمة العادلة في اجتهاد المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان[11]. كما يقضي هذا الموجب بأن يكون التعليل “مناسباً، خصوصاً عندما يعمد (…) إلى تطبيق مفاهيم قانونيّة فضفاضة (…) لتفادي أية كيديّة”[12].

قرار “التحكيميّ” في ملف الإشكالات: في الإنتخابات البلدية في بيروت
من المهم مقارنة هذه الأحكام المختصرة للهيئة الثانية في المجلس التحكيميّ مع حكم الهيئة الثالثة الصادر في 13/7/2016. وكان هذا الحكم قد صدر في ظلّ الإشكالات والإنقسامات في صفوف “التيّار” خلال إدارة ملف الإنتخابات البلديّة في بيروت، إثر إستدعاء مجموعة من 9 ناشطين على خلفية عدم إلتزام هيئة قضاء بيروت الأولى بقرارات رئاسة “التيّار” في هذه الإنتخابات، أو لإشتراكهم في الإشكال الحاصل لجهة وجود ماكينتين إنتخابيّتين لـ”التيّار” قرب مراكز الاقتراع.

التحفّظات التي قدّمناها على قرارات الهيئة الثانية تسري هنا أيضاً لجهة عدم مراعاة الأصول الشكليّة وضمانات حقوق الدفاع. كما عمد القرار إلى إقالة جميع أعضاء هيئة قضاء بيروت الأولى بحجة أن “استمرار الهيئة بوضعها الراهن قد يؤثر سلباً على عمل ونشاط التيّار في بيروت الأعلى”، من دون تحديد أيّة مخالفة واضحة لأعضاء الهيئة. ويلحظ أن مطالعة المفوّض العام التي أحيل الملف على أساسها إلى المجلس التحكيميّ لم تشر إلى مجمل أعضاء الهيئة. وعليه، يشكّل قرار المجلس مخالفة للفقرة 1-ي من التعليمات التطبيقيّة الخاصّة بمجلس التحكيم، التي تنصّ على أن المجلس التحكيميّ “ينظر في الدعاوى والشكاوى المحالة إليه بحقّ المحالين إليه شخصياً، ولا يحق له أن يتناول غيرهم ما لم يرد في حقّ هؤلاء إدعاء لاحق من قبل المفوّض العام”. وتفيد التعليمات التطبيقيّة أنه يتوجب على المجلس إحالة الملف على المفوّض العام لطلب الإدعاء على الأشخاص غير المحالين إليه، إذا توّفرت له الأدلة.   

ولكن اللافت أن الهيئة الثالثة عمدت في حكمها:

  1. إلى اعتبار أنه “ليس بامكان أنظمة الجمعية أن تلحظ ما هي الدوافع والأسباب الخطيرة التي تمسّ بالعمل الحزبيّ (…) فلا يمكنها أن تقوم بتعدادها، وبالتالي يعود للمجلس التحكيميّ تقدير مدى جسامة الخطأ الحاصل” (ص. 15). وعمد المجلس هنا إلى ادراج اجتهاداتٍ فرنسيّةٍ للتصرّفات التي قضي أنها تشكّل أسباباً خطيرة، في الإطار نفسه. بذلك، تكون الهيئة الثالثة قد عمدت إلى محاولة تعريف “الخطأ الجسيم المخلّ بالعمل الحزبيّ”.
  2. إلى تخفيف عقوبة التسعة المحالين أمامها بخلاف قرارات الهيئة الثانية، فخُففت عقوبة تعليق العضوية لفترةٍ محدّدة إلى توجيه تأنيبٍ خطيّ، وعقوبة الفصل إلى تعليق العضوية لمدّة 4 أشهر.

ويطرح ذلك تساؤلاً حول تطبيق عقوبة الفصل النهائيّ على ناشطين انتقدوا القيادة الحزبية عبر وسائل التواصل الإجتماعيّ على خلفية الإنتخابات الرئاسيّة الحزبيّة، في حين تمّ تخفيف العقوبات بحقّ من أقدموا على مخالفة قراراتها وعدم الإلتزام باللائحة الحزبيّة للمرشحين في الإنتخابات البلديّة والإختياريّة. فما الذي يفسّر الإختلاف لجهة التشدّد والتساهل في العقوبة؟ هل هي سياسة تأديبيّة مختلفة بسبب إختلاف الهيئة؟ أم أن مرد ذلك يعود لماهية المخالفات ومدى حساسيتها، مع ما يعكس ذلك من إعلاءٍ من شأن “القائد”؟

تجدر الإشارة ختاماً إلى أنه، وعلى حدّ علم “المفكّرة القانونيّة”، لم يقم أحدٌ من المفصولين من الحزب بالطعن بقرارات المجلس التحكيميّ أمام المحاكم المدنيّة. وهو حقٌّ مكرّس لهم. وهذا لأمر مؤسف إذ كان ليضع قضيتهم أمام القضاء العدليّ ويعزّز حماية حقوقهم، خصوصاً لجهة ضمانات المحاكمة العادلة. كما كان من شأنه أن يحصّن الديمقراطيّة داخل الأحزاب والجمعيات اللبنانيّة.

 نشرت هذه المقالة في العدد |44|تشرين الأول/أكتوبر 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :

براثن السيّاسة في قلب كلّ قاضٍ

 


[1] ” مفصولون جدد من “التيار، موقع جريدة السفير الالكتروني، 30/8/2016.

[2] CEDH 20 févr. 1996, Lobo Machado c/ Portugal, req. no 15764/89, § 31 ; CEDH 6 juin 2000, Morel c/ France, req. no 34130/96, § 27. – CEDH 26 juin 1993, Ruiz-Mateos c/ Espagne, req. no 12952/87, § 63

[3] Dalloz action Droit et pratique de la procédure civile, V. Les garanties d’une bonne justice, spéc. no 212.71.

[4]أنظر “أبعد من نظرية المحاكمة العادلة: القضاء يكرس مجدداً مفهوم “الحق الطبيعي””، الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية، 28/7/2011

[5] CEDH, 23 juin 1981, Le Compte, Van Leuven et De Meyere, n° 6878/75, n° 7238/75, série A n° 43, § 50: GACEDH, n°21.

[6] JurisClasseur Procédure civile, V. Fasc.  55 : Convention européenne des droits de l’Homme, no 20. V. égal. l’arrêt “Enea”(CEDH, gde ch., 17 sept. 2009, n° 74972/01, Enea c/ Italie : JCP G 2010, doctr. 70, F. Sudre), où  la Cour précise que « toute restriction touchant les droits de caractère civil de l’individu doit pouvoir être contestée dans le cadre d’une procédure judiciaire, et ce en raison de la nature des limitations (…) ainsi que des répercussions qu’elles peuvent entraîner (…) ».  

[7] JurisClasseur Procédure civile, op. cit., no 10. 

[8] CEDH 16 avr. 2002, req. no 37971/97, Stés Colas Est a. c/ France, inédit, www.echr.coe.int.

[9] CEDH 23 oct. 1985, req. no 8848/80, Benthem c/ Pays-Bas, Série A, no 97 – Berger, 12e éd., 2011, no 65, p. 210.

[10] Dalloz action Droit et pratique de la procédure civile, V. Garanties d’une bonne justice, no 21.13.

[11] Comm. EDH, no 8769/79, X… c/ RFA, DR 16 juill. 1981, 25-240 ; CEDH 9 déc. 1994, req. no 18064/91, Hiro Balani c/ Espagne, D. 1996. Somm. 202, obs. Fricero ; CEDH 9 déc. 1994, req. no 18390/91, Ruiz Torija c/ Espagne, D. 1996. Somm. 202, obs. Fricero.

[12] CEDH 30 nov. 1987, req. no 8950/80, H. c/ Belgique, Série A, no 127-B – Berger, 12e éd., 2011, no 84, p. 263.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني