دعا رئيس المجلس النيابي نبيه بري أمس لجنتي المال والموازنة والإدارة والعدل إلى جلسة مشتركة عند العاشرة من قبل ظهر الأربعاء القادم المقبل لدرس اقتراحات القوانين المتعلقة بسرية المصارف واقتراحي القانونين المتعلقين باسترداد الأموال المنهوبة. مع تحفظنا لجهة أولويات هذه الجلسة وبخاصة لجهة تجاهل اقتراح قانون استقلال القضاء العدلي وشفافيته والاقتراح التعديلي لقانون الإثراء غير المشروع (ولهما الأولوية)، فإننا ننشر تباعا ملاحظاتنا حول الاقتراحات المدرجة على جدول أعمال اللجان (المحرر).  

يشهد لبنان منذ 17 تشرين الأول احتجاجات عارمة أطلقت صرخة مدويّة ضدّ الفساد، وبدأ المواطنون، وبطريقة أكثر خجلاً القضاء، بتوجيه أصابع الإتهام ضدّ بعض الوزراء والنواب ومسؤولين آخرين. لكن في ظلّ نظام السريّة المصرفيّة السائد في لبنان الذي أرساه القانون الصادر بتاريخ 03/09/1956، اعتبر البعض أنه من المستحيل محاربة الفساد وذلك لعدم توفر المعلومات حول حسابات الوزراء والنواب وعموم الأشخاص القائمين بخدمة عامة. وحاول رئيس الجمهوريّة ميشال عون في خطاباته غداة الثورة[1] استيعاب الإحتجاجات الشعبية وتقديم التطمينات عن جدية العمل على تخطي معوقات مكافحة الفساد، خصوصاً من خلال التشديد على أهمية إقرار بعض إقتراحات القوانين، منها اقتراح “قانون يرفع السريّة المصرفيّة عن الرؤساء والوزراء والنوّاب وموظفي الفئة الأولى”. وبالواقع، يوجد حاليا في مجلس النوّاب اقتراحا قانون متعلّقان بتعديل قانون السريّة المصرفيّة: أوّلهما مقدّم من النوّاب في كتلة لبنان القوي آلان عون، الكسندر ماطوسيان، سيمون أبي رميا، أنطوان بانو، جورج عطا الله، إدكار طرابلسي، إدكار معلوف، إبراهيم كنعان وميشال معوض في 5/3/2019، والثاني مقدّم من النائبين بولا يعقوبيان وسامي الجميّل. وكانت يعقوبيان قد أوضحت[2] أن اقتراحها ينطلق من إعادة صياغة المشروع الأوّل، مع تصحيح بعض “الثغرات” الموجودة فيه.

ويهدف الاقتراحان إلى زيادة استثناء جديد على مبدأ السرّية المصرفيّة المنصوص عليها في المادة 3 من القانون المذكور أعلاه والتي تشمل حالة إعطاء الإذن من قبل صاحب الحساب الخطّي أو ورثته وحالة إعلان إفلاسه وحالة إقامة دعوى تتعلّق بمعاملة مصرفيّة بين المصارف وزبائنها.

وفيما تمّ تقديم الإقتراحين بصيغة المعجّل المكرّر، فإن مناقشتهما في الهيئة العامة للمجلس النيابي[3] أفضت إلى إسقاط صفة العجلة عنهما. وتجدر الإشارة إلى أنه وعند نقاش الإقتراح المقدّم من النائبين يعقوبيان والجميّل، تدّخل النائب إيلي الفرزلي عضو كتلة لبنان القوي ليدافع عن صورة لبنان كملاذ مصرفي متميّز بالسريّة المصرفيّة، معتبرا أن الشفافيّة ورفع السريّة المصرفية عن النوّاب والوزراء والموظفين والقضاة وغيرهم يشكّل “مؤامرة” ضدّ لبنان.

القائم بالخدمة العامة لا سرية مصرفية له

يقوم الإقتراحان على تكريس إستثناء لمبدأ السريّة المصرفيّة بالنسبة إلى الوزراء والنواب والموظفين والقضاة والعسكريين ورؤساء وأعضاء الهيئات القضائية والناظمة والإدارية على اختلاف أنواعها والمراقبين والمدققين الماليين وكل من يقوم بخدمة عامة وبشكل عام كل من هو محدد في المادة 2 من القانون رقم 154 تاريخ 27/12/1999 (قانون الاثراء غير المشروع)[4]. ويذهب اقتراح يعقوبيان-الجميّل أبعد من خلال إضافة الجمعيات السياسية المشمولة بقانون الجمعيات تاريخ 3/8/1909 ورؤسائها وأعضاء هيئاتها الإدارية وأزواجهم وأولادهم القاصرين، كما المستشارين المعينين في الإدارات والوزارات والمديريات، والمناقصين والمتعهدين وكل من يبرم مع الدولة صفقة عمومية أو عقد شراكة إلى الفئات المستثناة من الإستفادة من السرية المصرفية.

وتجدر الإشارة إلى أن رفع السرّية المصرفية وفق اقتراحي القانون يشمل كذلك الأزواج والأولاد القاصرين والأشخاص الثالثين “المعتبرين بمثابة الشخص المستعار” (اقتراح قانون تكتل لبنان القوي)، أو “الذين يثبت أنهم أشخاص مستعارون لإخفاء حسابات مشبوهة. “

بالإضافة إلى النطاق الواسع للأشخاص المشمولين برفع السرية المصرفية، وتحديداً إقتراح يعقوبيان-الجميّل الذي يشمل كل المستفيدين من صفقات عامة مع الدولة، يلحظ الإقتراحان، من حيث الزمان، تطبيق رفع السرية المصرفية طيلة فترة الولاية أو الوظيفة وحتى خمس سنوات تعقب إنتهاء الولاية أو الوظيفة.

بالمقابل، يخلو اقتراحا القانون من أي إشارة إلى حسابات الشركات التي يكون لهؤلاء حصص أو اسهم فيها.

التصريح عن الحسابات في الخارج

لمعالجة مسألة السرية المصرفية في الخارج، فرض اقتراح قانون لبنان القوي على الأشخاص الخاضعين لقانون السرية المصرفية أن يقدموا تصريحا عن جميع حساباتهم النقدية والاستثمارية المفتوحة في المصارف والمؤسسات والشركات المالية في الخارج، مع تنازلهم عن السرية بما يتصل بها لصالح الجهات القضائية اللبنانية. وعليه، وفيما يستعيد الاقتراح جانبا من أحكام الفصل الثاني من قانون الإثراء غير المشروع الذي يفرض التصريح عن جميع الأموال المنقولة وغير المنقولة في لبنان وفي الخارج، فإنه يتميز من خلال التنازل المسبق عن الاستفادة من السرية بخصوصها لصالح المراجع القضائية اللبنانية. وقد استعاد اقتراح قانون يعقوبيان- الجميل فحوى الاقتراح نفسه وإن وسع مدى التصريح ليشمل الحسابات في الداخل كما الخارج. وهذا التوسع هو من باب لزوم ما لا يلزم طالما أن الحسابات ستكون أصلا مستثناة من السرية المصرفية وفق البنود الأخرى. ومن أهم الملاحظات على موجب التصريح، الآتية:

أولا، أن اقتراح كتلة لبنان القوي فرض تقديم هذا التصريح والتنازل فقط “خلال شهر من تاريخ نفاذ هذا القانون”، بمعنى أن التصريح يحصل بصورة آنية ولمرة واحدة فلا يشمل ما قد يفتح من حسابات في الخارج لاحقا. ومن شأن هذا الأمر أن يحول دون مراقبة تطوّر الثروة للأشخاص المعنيين. وقد عمد اقتراح يعقوبيان الجميل إلى تصحيح هذه الثغرة من خلال فرض حصول تصريحات دورية، بمعدل مرة كل سنة.

ثانيا، أن هذه التصاريح تودع في خزنة خاصة لدى مصرف لبنان، مما يعني أنها تبقى سرّية، فلا تسقط السرية إلا تبعا لملاحقة قضائيّة تثار فيها حاجة السلطات القضائيّة للإستحصال على معلومات أو مستندات متعلّقة بتلك الحسابات.

ثالثا، نلحظ تباينا بين الاقتراحين بما يتصل بالنتائج المترتبة على الإخلال بموجب التصريح. ففيما ينص اقتراح لبنان القوي على إبطال الانتخاب أو التعيين أو الصرف من الخدمة على من يخل بموجب التصريح، ينص اقتراح يعقوبيان الجميل على اعتباره مستقيلا مما يذكّر بالعقوبة المنصوص عليها في قانون الإثراء غير المشروع عن الإمتناع عن التصريح عن الأموال المنقولة وغير المنقولة للقائمين بخدمة عامة. لكن عمليا، على من ستقع مسؤوليّة التأكّد من تنفيذ موجب التصريح والتنازل؟ هل هو المصرف المركزي الذي يُحمّل واجب تبليغ الجهات المعنية عن عدم تلقيه التصريح والتنازل، بموجب القانون؟ كما أمكن التساؤل عن فائدة وفعاليّة هذه العقوبة، تحديداً عند تقاعس الشخص المعني عن تقديم التصريح والتنازل في فترة الخمس سنوات التي تعقب إنتهاء الوظيفة، وهو ما يفرضه الإقتراح: فخلال هذه الفترة، يبقى موجب التصريح والتنازل قائماً. لكن في حال عدم احترامه من قبل الشخص المعني، فإنه لن يواجه أية عقوبة، مع العلم أنّه يمكن أن تكون هذه الفترة من أهمّ الفترات للرقابة على الحسابات.

بالإضافة إلى “عقوبة” الإستقالة، يفرض إقتراح يعقوبيان-الجميّل العقوبة المنصوص عليها في المادة 462 من قانون العقوبات على من يقدم تصريحا كاذبا (في استعادة أيضاً لقانون الإثراء غير المشروع)، لكن يقترح تعديل الأصول بطريقة تسهّل الملاحقة إذ تسقط الأذونات والتراخيص المسبقة الملحوظة في القوانين والتي قد تعيق الملاحقة بشأنه.

التنازل المسبق عن الاستفادة من السرية المصرفية في الخارج

كما سبق بيانه، يوجب اقتراح لبنان القوي أن يرفق الشخص المعني بتصريحه تنازلا مسبقا عن الإستفادة من السرية المصرفية والسماح للمراجع القضائية اللبنانية المعنية بالاستحصال، دون قيد أو شرط، على أي أو كل مستند أو معلومات من المصارف أو المؤسسات أو الشركات المالية في الخارج.

إلا أنه يلحظ أن التنازل يشمل الحسابات المصرح عنها من دون أن يتضمن تنازلا عاما يشمل الحسابات التي لم يتم التصريح عنها أو الحسابات التي تم فتحها لاحقا. ومن شأن حصر التنازل على هذا الوجه أن يضيق كثيرا من فوائد النصوص المقترحة. ومن شأن موجب التصريح الدوري المقترح من يعقوبيان الجميل والمشار إليه أعلاه أن يخفف من حدة هذا الأمر.

آلية مطالبة المصارف وإلزامها بالإدلاء بالمعلومات

ينظم الاقتراحان آلية خاصة لمطالبة المصارف وإلزامها بإعطاء المعلومات الصحيحة عن الحسابات لديها. وهنا نسجل عددا من الملاحظات:

أولا، أن الإقتراح المقدّم من كتلة لبنان القوي يلحظ أن تتم إحالة طلب الهيئة القضائية المعنية بالحصول على معلومات أو مستندات متعلّقة بالحسابات إلى المصرف أو المؤسسة المالية المعنية بواسطة النيابة العامة التمييزية أو أي من النيابات العامة الإستئنافية المعنية. وبالرغم من أن الإقتراح يفرض على النيابة العامّة إحالة الطلب فورا إلى المصرف، قد يشّكل هذا الممر الضروري انتقاصا من استقلال قاضي التحقيق أو الحكم. ويزيل الإقتراح المقدّم من يعقوبيان والجميّل هذا العائق المحتمل إذ يوجب “على مصرف لبنان والمصارف والشركات والمؤسسات المالية ]المعنية[ أن يزوّدوا السلطات القضائية بالتصاريح عند الطلب”، دون تدخلّ النيابة العامّة.

ثانيا، أنّ إقتراح يعقوبيان- الجميل يوضح أن على المصارف القيام بتزويد المعلومات “وفقا لآلية يتم تحديدها في المراسيم التطبيقية الخاصة بهذا القانون”، وهذا الأمر قد يشكّل حائلاً دون تطبيقه، خاصة في ظل تقاعس السلطة التنفيذيّة عن إصدار المراسيم التطبيقيّة وتذرعها المتمادي بهذا التقاعس لرفض تطبيق القوانين، كما هو الحال مثلا بالنسبة إلى  قانون حقّ الوصول إلى المعلومات.

ثالثا، أن النصّ المقدّم من نوّاب كتلة لبنان القوي يفرض عقوبة الحبس على مدراء المصارف لمدة ستة أشهر على الأكثر. كما أنه يفرض غرامة نقدية قدرها 100 مليون ل.ل. على المصارف والشركات والمؤسسات المالية التي لا تستجيب دون إبطاء أو تقاعس إلى طلب السلطات القضائيّة المختصّة[5] المحال إليها عبر مصرف لبنان للحصول على مستندات أو معلومات. أمّا إقتراح يعقوبيان-الجميّل، فهو لا ينصّ على معاقبة المصارف التي لا تستجيب إلى طلبات السلطات القضائيّة، الأمر الذي يشكل ثغرة في هذا المضمار.

تعديل شروط تحريك دعوى الإثراء غير المشروع

يتضمن الاقتراحان تعديلاً على أصول تحريك دعوى الحق العام في جرائم الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال والرشوة والفساد وهدر المال العام والإختلاس. وأهم ما يعدله الاقتراحان في هذا الخصوص هو تخفيض الكفالة التي تفرضها المادة 10 من قانون الإثراء غير المشروع على مقدّم الشكوى ومقدارها 25 مليون ل.ل. كشرط لتقديم دعواه. وفيما خفض إقتراح كتلة لبنان القوي قيمة الكفالة إلى 10 ملايين ل.ل.، فإن إقتراح يعقوبيان-الجميّل عمد إلى تخفيضها إلى مليون ل.ل. وإن كان من غير المفهوم تضمّن الإقتراحين هذا البند بدل تعديله في قانون الإثراء غير المشروع، فإنه يوسع امكانية اللجوء إلى دعوى الإثراء غير المشروع، وإن أحجم كلا الاقتراحان عن أي تعديل بخصوص العقوبة التي قد يتحملها المشتكي في حال رد دعواه والتي تصل إلى 200 مليون ليرة لبنانية فضلا عن عقوبة حبس تصل إلى سنة حبس.


[1]  24/10/2019 و31/10/2019

[2] https://www.facebook.com/watch/?v=457316135136044

[3] في جلسة 17/4/2019 بالنسبة للإقتراح المقدّم من قبل كتلة لبنان القوي، وفي جلسة 26/06/2019 بالنسبة للإقتراح المقدّم من النائبين المستقلّين

[4]  يقصد بكلمة “موظف” كل موظف أو متعاقد أو متعامل أو مستخدم أو أجير دائم او مؤقت في أي ملاك أو سلك بأي رتبة أو درجة في الوزارات أو الإدارات العامة أو في المؤسسات في وزارة الدفاع الوطني أو في المؤسسات العامة ومن بينهم رؤساء مجالس الإدارة أو في المصالح المستقلة أو في البلديات أو اتحاد البلديات وكل ضابط أو فرد في المؤسسات العسكرية والأمنية والجمارك.
ويعتبر قائما بخدمة عامة كل من أسند اليه بالانتخاب أو بالتعيين رئاسة الجمهورية أو رئاسة مجلس النواب أو رئاسة مجلس الوزراء أو الوزارة أو النيابة أو رئاسة أو عضوية المجالس البلدية أو اتحاد البلديات أو المختار أو الكاتب العدل أو اللجان الإدارية إذا كان يترتب على أعمالها نتائج مالية وممثلو الدولة في شركات اقتصاد مختلط والقائمون على إدارة مرافق عامة أو شركات ذات نفع عام.

ويعتبر قاضيا أعضاء المجلس الدستوري والقضاة العدليون والإداريون والماليون وأعضاء كل هيئة قضائية معتبرة جزءا من تنظيمات الدولة.

[5] أي النيابة العامة التمييزية أو أي من النيابات العامة الإستئنافية المعنية