كي لا نقع في حالة طوارئ أبدية: دروس من الجدل القضائي القائم في بريطانيا


2020-05-02    |   

كي لا نقع في حالة طوارئ أبدية: دروس من الجدل القضائي القائم في بريطانيا

ثار جدلٌ مؤخراً في الأوساط القانونية في المملكة المتحدة حول بعض التشريعات التي أُقِرت في الآونة الأخيرة والتي تشكل الأساس القانوني لإجراءات الحجر الصحي والإقفال العام المتبعة حالياً. فقد بادرت شخصيات بارزة في السلك القضائي إلى التشكيك بمدى شرعية بعض هذه التدابير، وسلطت الضوء على ثغراتٍ في التشريعات المعنية تستدعي إعادة النظر فيها وربما تعديلها،[1][2][3]معتبرة أن هذه العيوب قد تشكل خطراً على مبدأ سيادة القانون في البلاد ومن شأنها أن تؤدي إلى إساءة استخدام السلطة من قبل بعض أجهزة الدولة، ولا سيما الشرطة ووكالة الحدود التي عُرفت بممارساتها القاسية والمُذِلّة والعنصرية في العديد من الحالات.[4][5][6]

نستعرض هنا أبرز عناوين هذا الجدل كي نستقي منه بعض النقاط المهمة ذات الدلالة الخاصة في تصدينا لأزمة الكورونا في الدول العربية، ولا سيما لتفادى مخاطر الإنزلاق التدريجي إلى حالة طوارئ أبدية وممارساتٍ تعسفية من قبل أجهزة الدولة. يجب التأكيد هنا، تجنباً لأي التباس أو سوء فهم، أننا لسنا في صدد معارضة قرارات الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي وما إلى ذلك من التدابير الوقائية، بل العكس تماماً، فتشكل هذه التدابير ضرورةً واضحة لحماية الصحة العمومية. لكن يجب الإصرار على أن توضع الإجراءات اللازمة ضمن إطار قانوني واضح وخالٍ من الغموض، حمايةً للصحة العمومية ذاتها، حيث يجب أن يعلم المواطن دون أي التباس ما هو المتوقع منه تحديداً، وما هي واجباته في هذه المرحلة الحرجة، كي يتصرف بشكل يتماهى مع هذه الواجبات.

يتمحور الجدل القائم في المملكة المتحدة في هذا الشأن حول نقطتَين أساسيتَين. أولاً، التباين اللافت بين نص التشريعات المعنية والصلاحيات التي تنيطها من جهة، والتعليمات الحكومية من جهة أخرى، مما أدى إلى ارتباكٍ واضح وتسبّب بقرارات تعسفية وغير شرعية اتخذتها بعض أجهزة الدولة. وثانياً، مدى شرعية بعض المراسيم التنفيذية لكونها ربما تجاوزت نطاق الصلاحية التي يحددها القانون التشريعي التي ترتكز إليه، الأمر الذي قد يجعلها باطلة (ultra vires).

 

التباين بين التشريعات والتعليمات الحكومية

ترتكز تدابير الإقفال العام والتباعد الاجتماعي في المملكة المتحدة على مراسيم تنفيذية أصدرها وزير الصحة في 26 آذار (The Health Protection (Coronavirus) Regulations 2020)، والتي بدورها تستند إلى قانون الصحة العمومية التشريعي لعام 1984 الذي عُدّل في عام 2008 (The Public Health Act 1984).

تنص المراسيم على أنه لا يحق لأي شخص أن يخرج من منزله من دون عُذر معقول، وهي تُقدِّم قائمة غير حصرية للأعذار المقبولة، من ضمنها الخروج لممارسة الرياضة وشراء الاحتياجات المنزلية والحصول على العناية الطبية وتقديم المعونة لأفراد محتاجين والذهاب إلى العمل في حالات خاصة. واللافت أن هناك تباينا واضحا ما بين هذه القيود والتعليمات التي أصدرتها الحكومة. فالتعليمات الحكومية تبدو أكثر شِدّةً من القيود المتضمنة في المراسيم، إذ تحدد مثلاً أنه لا يحق للشخص أن يخرج أكثر من مرة في النهار لممارسة الرياضة، ولا تشير إلى الحالات الاستثنائية الأخرى التي تجيز الخروج من المنزل.

وقد أنتج هذا التباين ارتباكاً ملحوظاً لدى المواطنين وأجهزة الدولة على حدٍ سواء، الأمر الذي تجلى في تقاريرٍ عدة حول حالات إساءة استخدام السلطة من قبل الشرطة ووكالة الحدود. فقد تم رصد عدد من التوقيفات غير الشرعية بسبب اعتقاد الشرطة الخاطئ بأنه يحق لهم أن يطبقوا التعليمات الحكومية قسراً رغم أن صلاحياتهم تستمد فقط من المرسوم التطبيقي وتخضع لشروط صارمة تبعاً لنص المرسوم. فعلى سبيل المثال، تم اعتقال امرأة وحجزها على مدى ثلاثة أيام ومن ثم إدانتها على أساس جرمٍ مزعوم لا وجود له في التشريعات المعنية، قبل أن يتم إبطال الإدانة بسبب فضحها في الصحف.[7] وبالتوازي، تم ترحيل امرأة أميركية بعد وصولها إلى مطار هيثرو لتهتم بابنتها الحبلى، على أساس أن سفرها لم يكن "ضرورياً"، رغم أنه لا يوجد أي نص قانوني يُلزم أن يكون للمسافر "غاية ضرورية" للسفر، بل أنه لم يتم حتى الآن تعديل شروط الدخول إلى المملكة المتحدة بتاتاً، ما يعني أن قرار الترحيل كان باطلاً بالإضافة إلى كونه قاسياً على أمٍ لم ترد غير معاونة ابنتها في هذه الظروف العسيرة.[8]

 

مدى شرعية القيود المتضمنة بالمراسيم التطبيقية

وبرز كذلك نقاش مثير حول مدى شرعية القيود المتضمنة بالمراسيم التطبيقية، وتحديداً أرجحية أن تكون القيود قد تجاوزت حدود الصلاحية التي منحها القانون التشريعي الذي تستند إليه. فالحكومة تتكّل على بند في القانون التشريعي يسمح لوزير الصحة أن يفرض "قيودا خاصة" للتصدي لخطر انتشار وباء ما. لكن يبدو جلياً في سياق التشريع أن هذا المصطلح يشير فقط إلى قيودٍ موجّهة لأفراد محددين، وليس معنياً بإمكانية فرض قيود معممة للمواطنين أجمع. وبالتوازي، قد تتعارض حجة الحكومة مع مبدأ الشرعية (the principle of legality) الراسخ في النظام القضائي البريطاني، والذي يقتضي تفسير أيّ صلاحيات متعلقة بالحريات المدنية بشكل ضيّق في حال تخلّل النص التشريعي أي غموض. إذ بغياب أي نص ظاهر يمنح صلاحية تقييد حريات المواطنين بشكل صريح، تعتبر المحاكم أن مجلس النواب لم يمنح الصلاحية المعنية. وعجب البعض لقرار الحكومة بأنها لم تُدخِل نصاً مماثلاً في تشريعها الجديد المتعلق بأزمة الكورونا، إذ وضعت هذا القانون في ذات الوقت التي كانت تحضّر فيه المراسيم التطبيقية المستندة إلى قانون 1984

بالتالي، طالب العديد من المحامين والقضاة البارزين أن توضع القيود المتبعة حالياً على أساس تشريعي ظاهر وغير قابل للجدل، إدراكاً لأهمية التماهي مع مبدأ سيادة القانون في زمن الأزمات تحديداً أكثر من أي زمن آخر، بسبب ازدياد خطر الإنزلاق إلى الممارسات التعسفية في هكذا ظرف. ولفت هؤلاء كذلك إلى ضرورة أن تكون صلاحيات الأجهزة المعنية واضحة وغير ملتفة بالغموض في هذه الفترة الحرجة، كي يكون التنسيق والتنظيم بين هذه الأجهزة ممكناً ويسيراً.

 

دروس هذه التجربة لدولنا العربية

نستقي من هذا الجدل القائم في بريطانيا اليوم ثلاث نقاط لها دلالة واضحة في تصدينا لجائحة الكورونا في المنطقة.

أولا، نرى أهمية اليقين القانوني (legal certainty) للتصدي الفعّال لخطر الوباء، إذ يجب أن يعلم المواطن واجباته في هذه المرحلة دون أي هامش للارتباك أو الغموض، بحيث يكون قادراً على القيام بالتحضيرات اللازمة كي يتصرف بصورة متماهية مع هذه الواجبات.

ثانياً، علينا أن ندرك مخاطر بروز ممارسات تعسفية من قبل أجهزة الدولة ناجمة عن الغموض أو الإلتباس حول صلاحياتها في حالة الطوارئ. فكما رأينا، من شأن هذا الغموض أن يؤدي إلى حالات إساءة استخدام السلطة تتجلى مثلاً في اعتقالات وإدانات غير شرعية أو قرارات ترحيل قاسية وباطلة.

ثالثا وختاماً، علينا أن نحذر من الخطر الجسيم المتمثل في الإنزلاق نحو حالة طوارئ معممة وأبدية. فحالات الطوارئ بطبيعتها تهدد بتآكُل مبادئ سيادة القانون، إذ هي تتجسد في تعليق الضوابط والقيود المعتادة لتتمكن الدولة من الرد الفعال على الخطر القائم. ورغم أن البعض يهزأ بمطالب الإلتزام بإطار قانوني واضح ومحدود في ظل مخاطر الوباء، إلا أن حالات الطوارئ هي تحديداً تلك التي علينا أن نصر فيها بالتشديد على هذه المطالب، لأنها تستدعي صلاحيات استثنائية وواسعة النطاق. وبما أننا نعيش في منطقة تسود في مؤسساتها ثقافة الطوارئ والسلطة غير الخاضعة للرقابة الفعّالة، يبقى واجب الحذر مضاعفاً. ففي كل أنحاء العالم رأينا في السنين الماضية توجهاً مخيفاً نحو السلطة المطلقة وانحلال مؤسسات الرقابة والمحاسبة الديمقراطية، عسى ألّا تحمل أزمة الكورونا الضربة القاضية.

 

 

 

 

 


[1] Tom Hickman QC, Emma Dixon, and Rachel Jones, ‘Coronavirus and Civil Liberties in the UK’, Blackstone Chambers, 6 April 2020   

[2] Professor Jeffrey King, ‘The Lockdown is Lawful’, UKCLA Blog, 1 April 2020

[3] David Anderson QC, ‘Can we be forced to stay at home?’, DAQC Blog, 26 March 2020

[7] Francis Hoar, ‘Police across the country are wielding powers they do not have’, The Telegraph, 5 April 2020

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، أوروبا



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني