كيف نحد من تفشي الكورونا وتداعياته بشكل مستدام؟ (الهلع والقانون في زمن الكورونا 2)


2020-03-25    |   

كيف نحد من تفشي الكورونا وتداعياته بشكل مستدام؟ (الهلع والقانون في زمن الكورونا 2)

في مقال سابق لي[1]، بحثت في الإطار القانوني لإدارة أزمة وبائية مثل الأزمة التي نمرّ بها اليوم في لبنان تبعاً لتفشي جائحة الكورونا (COVID-19) حول العالم، وفي وظيفة الهلع وأثره على آلية إتخاذ القرارات المصيرية خلال تلك الأزمات. وكنت قد حذّرت في المقال المذكور من أمرين أساسيين هما: وجوب التوفيق بين الحقوق الإقتصادية والإجتماعية وضرورة الحفاظ على الصحة العامة من ناحية أولى، والمخاطر المتآتية من الهلع الناتج عن الجائحة وإحتمال سوء توظيفه أو حتى إستغلاله لفرض إجراءات لا تأتلف ومفهوم المجتمع الديمقراطي الحريص على الحقوق والحريات وذات مفاعليل سلبية تمتد زمنياً لتتخطى زوال الكورونا من حيواتنا، من ناحية أخرى. المسألة ليست بسيطة بسبب الوهم الذي يُنتجه الهلع إزاء الخيار بين حق وآخر: الحق بالصحة والحقوق الإقتصادية والإجتماعية. قد يتسرّع القارئ ويختار غرائزياً الحق بالصحة (لإمتداده المباشر من الحق بالحياة)، غير أن هذا الخيار هو بحد ذاته ناتج عن الوهم الذي ذكرته، إذ كنت قد أظهرت في مقالي السابق أن تحجيم الخيارات إلى مستوى إنشطار هذا الحق أو ذاك تؤدي إلى النتيجة العملية نفسها، على نحو ننتهي أمام خيار وسيلة الموت أكثر مما نختار درب الإستدامة والحياة.

هذا هو مفعول الهلع الضارّ على إتخاذ القرارات وتبنّي السياسات في زمن الوباء. فهل يمكن التوفيق بين الحق بالصحة والحقوق الإقتصادية والإجتماعية في هذه المرحلة الحرجة؟ الجواب ببساطة هو “نعم”. ولكن كيف عسانا إذاً أن نحدّ من تفشي الكورونا ومن تداعياته الإقتصادية والإجتماعية في آن واحدة؟ هذا ما أحاول الإجابة عليه في المقال الراهن. ولهذا الغرض سوف أعمد إلى تقييم الإجراءات المتخذة حتى الآن من قبل الحكومة في هذا الإطار في مرحلة أولى، لأقترح لاحقاً بعض الحلول والإجراءات العملية التي يمكن تبنيها فورياً بغية إحقاق التوفيق الحيوي المذكور والخروج من الأزمة بأقل الأضرار الممكنة على صعيد الصحة العامة والحياة الإقتصادية والإجتماعية في البلد. وما أطلبه من القارئ بدايةً هو تفكيك قبضة الهلع والإكتئاب  (وإنني أدري أن المسألة ليست سهلة في تلك الظروف لقسم كبير منا)، للخروج من منطق إنشطار الخيارات بين خيار مصيري وآخر. فنحن اليوم بحاجة ماسة إلى عقلنة النقاش العام أكثر من أي يوم مضى بهدف تبني أكثر القرارات صوابية وإستدامة وأقلها ضرراً.

تقييم الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة حتى الآن

تبعاً لصدور القرار الأول من قبل الحكومة بإقفال بعض المؤسسات والأماكن العامة والخاصة (حانات ومقاهي وصالات رياضة إلخ.) ليل الأحد الواقع في 08 آذار الماضي، تمّ إعلان التعبئة العامة بتاريخ 15/03/2020 وقد صدر المرسوم الخاص بإعلان التعبئة العامة لمواجهة إنتشار فيروس الكورونا ونُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 19/03/2020 (المرسوم رقم 6198/2020)، مستنداً إلى نصين أساسيين (أعود إليهما لاحقاً)، هما: قانون الأمراض المعدية الصادر سنة 1957 وقانون الدفاع الوطني الصادر بموجب المرسوم الإشتراعي رقم 102/1983. وقد نص مرسوم التعبئة العامة على سلسلة من الإجراءات تهدف إلى الحد من إنتشار الوباء، أهمها: إلتزام المواطنين البقاء في منازلهم وعدم الخروج منها إلاّ للضرورة القصوى، ومنع التجمعات في الأماكن العامة والخاصة على إختلافها، وإقفال جميع المرافئ الجوية والبحرية والبرية، وإقفال الإدارات والمؤسسات العامة والبلدية والمصالح المستقلة والجامعات والمدارس الرسمية والخاصة باستثناء البعض منها لتلبية حاجات المواطنين، وتعليق العمل في الشركات والمؤسسات الخاصة والمحلات التجارية على إختلافها ومكاتب أصحاب المهن الحرّة مع مراعاة الضرورة القصوى المرتبطة بالعمل بالتنسيق مع نقابات المهن الحرّة هذه. وسرعان ما عادت رئاسة مجلس الوزراء وأصدرت بتاريخ21/03/2020 قراراً بالتعليمات التطبيقية لمرسوم التعبئة العامة (القرار رقم 49/2020) أوجبت فيه قيادة الجيش والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والمديرية العامة للأمن العام والمديرية العامة لأمن الدولة وجميع البلديات وإتحاداتها، التشدد في تطبيق أحكام المرسوم المذكور، مع إتخاذ الإجراءات اللازمة الفورية لملاحقة المخالفين أمام المراجع القضائية المختصّة، عملاً بأحكام المادتين 604 و770 من قانون العقوبات.

وفي حين يتبين بداية أن الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة تتوافق مع التوجه العالمي إزاء سياسة “العزل الذاتي” والبقاء في المنزل والحد من التنقل وما أظهرته الدراسات الأولية من نجاح تلك السياسة في إحتواء الوباء والحدّ من إنتشاره من خلال تسطيح منحى أعداد المصابين بفيروس الكورونا (“flattening the curve“)، إلاّ أنه أمكن بالمقابل تسجيل الملاحظات التالية:

  • لا يحدد مرسوم التعبئة العامة ولا القرار رقم 49 التطبيقي له مفهوم “الضرورة القصوى” التي تبرر خروج المواطن من منزله دون خرق سياسة العزل الذاتي، تاركاً إذ ذاك هامشاً واسعاً لتفسير هذه العبارة مع كل ما قد يسفر عن هذا الأمر من تعسف وفساد وإحتمال لتفشي ثقافة الرشاوى إزاء القوى الأمنية المولجة السهر على تطبيق هذا الأمر. لا بل أن هذا الأمر قد يؤثر مباشرة أيضاً على فعاليّة نص المرسوم وفق مبادئ فعالية النصوص القانونية التي تقتضي أن تكون هذه الأخيرة واضحة وليست عرضة للتأويل. وفي حين أعاد وزير الداخلية وأوضح لاحقاً أن من يتجول منفرداً لا يرتكب مخالفة للقرار رقم 49 الذي يمنع بالمقابل التجمعات فقط، غير أن هذا الأمر غير كاف بتاتاً لإزالة الإلتباس ومنع القيمين على تطبيق أحكام مرسوم التعبئة العامة من التعسف خلال قيامهم بمهامهم. فما الذي يشكل “ضرورة قصوى” في هذا الإطار؟ هل هو يقتصر على تأمين الحاجات المعيشية للفرد (تأمين مواد غذائية وأدوية والذهاب إلى المستشفى إلخ.)؟ أم أنه يقتضي أن يشمل ما يحافظ على سلامة صحة المواطن النفسية، لا سيما في ظل تداعيات العزل الذاتي السلبية عليها[2]، وإعتراف وزارة الصحة العامة بأهمية الإستجابة النفسية في خطتها الوطنية لمواجهة وباء الكورونا[3]؟ وما يزيد من غموض هذا النص، هو أنه استخدم عبارة “وجوب إلتزام المواطنين البقاء في منازلهم” وهي عبارة تعكس توجهاً لفرض واجب أخلاقي وليس واجباً قانونياً، وبخاصة عند مقارنتها بالعبارة التي استخدمها مرسوم التعبئة العامة نفسه وهي “منع” عند الحديث عن التجمعات العامة والخاصة.

ومن المفيد هنا الإسترشاد بما تم تبنيه في القانون المقارن، في الدول التي تطبق سياسة العزل الذاتي للحدّ من تفشي الكورونا، مثل فرنسا وألمانيا. وما نلاحظه إذ ذاك، هو لحظ هذه الدول أسباباً مختلفة تبرر خروج المواطنين من العزل المنزلي إلى جانب ضرورات تأمين المواد الغذائية والأدوية إلخ.، منها زيارة الأقارب والشريك وكبار السن وأهمها ممارسة التمارين الرياضية في الهواء الطلق وبشكل فردي، لا سيما نظراً لما لهذه الأمور من مفعول إيجابي على الصحة النفسية وتالياً على مكافحة الوباء.

فضلاً عن ذلك، فمن شأن إعتماد عبارة مبهمة مثل عبارة “ضرورة قصوى” دون تفسيرها، أن يحول مرسوم التعبئة العامة إلى مدخل لإيجاد حظر تجول الأمر الواقع (de facto) وفق مفهوم المرسوم الإشتراعي رقم 52، الصادر في 05/08/1967 والمتعلق بإعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية (وهو الوحيد الذي لحظ مثل هذا الإجراء)؛ مع الإشارة إلى تزايد المناشدة في إعلان حالة الطوارئ من قبل بعض المواطنين والصحافيين وحتى السياسيين مؤخراً، بشكل غير صائب تماماً. فوفق قانون سنة 1967، إن إعلان حالة الطوارئ (بالمعنى القانوني للكلمة) وحظر التجول يقتضيان توفر شروط قانونية محددة مثل تعرض البلاد لخطر مداهم ناتج عن حرب خارجية أو ثورة مسلحة أو أعمال أو إضطرابات تهدد النظام العام والأمن أو عند وقوع أحداث تأخذ طابع الكارثة (مثل الكوارث الطبيعية)، وهي جميعها غير متوفرة اليوم وبالتالي لا تُطبق في الحالة الراهنة بشأن الحد من تفشي الكورونا، لأسباب سبق لي أن ذكرتها تفصيلياً في مقالي السابق بهذا الشأن[4]. هذا بمعزل عن مخاطر إعلان مثل هذه الحالة على الصعيد السياسي، في ظل ما شكلته تاريخياً إعلانات وقوانين الطوارئ في المنطقة العربية من مدخل لقيام أنظمة قمعية تستقر وتدوم حتى بعد زوال الطارئ.

  • الملاحظة نفسها يمكن تسجيلها بشأن عبارة “التجمعات في الأماكن العامة والخاصة على إختلافها”. فكان من الأجدى أن يتم تحديد ما هو المقصود بالتجمعات. هل هي تعني ثلاثة أشخاص وما فوق وبكلمة أخرى هل يسمح لشخصين أن يتحادثا أو يتجولا معاً؟ أو عشرة أشخاص وما فوق؟ أو مئة شخص وما فوق؟ إلخ.
  • من ناحية أخرى، أناط مرسوم التعبئة العامة سلطة للبلديات وإتحاداتها لتنفيذ أحكامه بصورة فورية دون إيجاد أي ضوابط لهذا الأمر، ما أدى إلى ذهاب بعض البلديات في لبنان (مثل بلدتي بعقلين والبترون) إلى حدّ إتخاذ إجراءات مفادها عزل البلدة عن محيطها، بالكامل أحياناً، ودون أن يكون في هذه البلدة أي حالة مسجلة لشخص تم تشخيصه كمصاب بفيروس الكورونا. وان هذا الأمر إنما يشكل مخالفة فادحة لقانون سنة 1957 المذكور أعلاه والذي ينص أن عزل المناطق هو قرار يتخذ من قبل السلطة المركزية (وزارة الصحة العامة) وليس من قبل البلديات في حال تفشي وباء فيها وليس العكس. بمعنى أن العزل يكون جائزاً لعزل المناطق الموبوءة عن سائر المناطق، وليس لعزل المناطق غير الموبوءة بعضها عن بعض. لا بل أن خطورة إعطاء هذه السلطة للبلديات دون وضع ضوابط واضحة لها، إنما يتجاهل تماماً مخاطر إعادة تدوير ميول بعضها للتطييف والإنعزال لأسباب تاريخية بحجة الحد من إنتشار الوباء، مع كل ما لهذا الأمر من تداعيات خطيرة على السلم الأهلي والعيش المشترك.
  • يستند مرسوم التعبئة العامة على المرسوم الإشتراعي رقم 102/1983. وقد سبق لنا أن علقنا على هذا الأمر على إعتبار أن المقصود منه ليس فقط ضمان جهوزية المرافق العامة في تأمين الحاجات التي تستلزمها الأزمة، إنما أيضاً ضمان إنخراط القوى والقطاعات الإجتماعية كافة في معالجتها كلّما بدا ذلك ضرورياً. ومن أبرز تجلّيات هذا التطبيق، هو إلزام المصارف وشركات ومؤسسات تحويل وتوزيع الأموال ومؤسسات الصيرفة فتح أبوابها، ولو بالحد الأدنى المطلوب لتأمين مقتضيات تسيير العمل فيها يومياً[5]. إلا أن مرسوم التعبئة العامة نفسه ينص على فتح أبواب المصارف “بالتنسيق مع جمعية المصارف”، وهو أمر مستغرب لما ينيطه عملياً بجمعية المصارف من سلطة في إتخاذ القرار محولاً إياها إلى جهاز شبه رسمي. فكان من الأجدى ألاّ تترك إجراءات الحكومة أي مساحة تقريرية أو تنسيقية لجمعية غير حكومية مثل جمعية المصارف. والإشكال لا يقتصر هنا على إيلائها حيزاً غير مبرر والأهم غير مستحق بالنظر للممخالفات الهائلة المرتكبة منها مؤخراً في صناعة القرار، إنما يشمل أيضاً التمييز غير المبرر بين مختلف القطاعات التجارية. وللقياس، يمكن إعتماد المنطق نفسه إزاء إحتمال التنسيق مع غرفة التجارة والصناعة أو جمعية “تجّار بدارو” مثلاً بشأن إقفال أو فتح المؤسسات هنا وهنالك، فهل هذا الأمر يجوز في ظل إعلان التعبئة العامة؟
  • لم ينص مرسوم التعبئة العامة على أن تكبد نفقات تنفيذ الإجراءات والتدابير الصحية يقع على عاتق الحكومة، سواء كانت للأشخاص أو للمعدات واللوازم الطبية وغير الطبية، وذلك خلافا لما ينص عليه قانون سنة 1957، فضلاً عن وجوب تحمل البلديات الكبرى، ربع هذه النفقات. وهنا لا بد من التذكير بما يتم تداوله إزاء تكلفة فحوصات الكورونا التي تبقى على عاتق المشتبه به أو المريض (وهي تتراوح بين 150 ألف و250 ألف ليرة لبنانية)، ومدى مخالفة هذا الأمر إذ ذاك لنص قانون سنة 1957 المذكور، وإعاقتها لفعالية إجراءات الحد من تفشي الوباء.
  • أن الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة تُعيد تدوير المنطق العقابي لمواجهة الأزمات الصحية. فالمادة الأولى من القرار رقم 49/2020 المذكور تحيل إلى المادة 604 من قانون العقوبات لملاحقة من يخالف بنود مرسوم التعبئة العامة لجهة التزام المواطنين البقاء في منازلهم وعدم الخروج منها إلاّ للضرورة القصوى ولجهة منع التجمعات على إختلافها في الأماكن العامة والخاصة، وهي مادة تنص على معاقبة “من تسبب عن قلة إحتراز أو إهمال أو عدم مراعاة للقوانين أو الأنظمة في إنتشار مرض وبائي من أمراض الإنسان”. ومن البين أن الإحالة إلى المادة 604 المذكورة في غير محله بسبب عدم توفر شروطها القانونية في مثل هذه الحالة، إذ هي تفترض أن يكون الفاعل قد ساهم في إنتشار مرض وبائي، أي أن يكون فعله قد أدى إلى إصابة أشخاص ثالثين بالوباء مباشرة، وهي حتماً لا تقتصر على مجرد الخروج من المنزل خلافاً لسياسة العزل (حتى ولو تمّ التخالط مع أشخاص ثالثين). وإلاّ فهذا الأمر يؤدّي إلى قلب مبادئ القانون الجزائي على نحو “مذنب حتى إثبات العكس” ودون حاجة إلى وقوع أي ضرر إجتماعي من جراء فعل الخروج من المنزل. وفي حين كان بإمكان الحكومة الإحالة إلى العقوبات المنصوص عنها في قانون سنة 1957 (والتي سبق لي وذكرتها في مقالي السابق) أو إلى المادة 606 من قانون العقوبات بدلاً من المادة 604 منه، والتي تنص على معاقبة “من لا يراعي الأنظمة الخاصة لمكافحة الأوبئة والسواف وأمراض النبات والجراد وسائر الحيوانات الضارة”، غير أن الإحالة إلى النصوص الجزائية في ظل مواجهة الوباء الراهن، إنما يشي بسعي لتغليب المنطق العقابي والتشدد فيه على منطق التشاركية في المسؤولية، بما يمثل تضييقاً أكبر للحرية الشخصية في هذا المجال.

وعليه، من المهم الإشارة هنا أيضاً أن لإعتماد المنطق العقابي مفعول مباشر إزاء وصم الوباء وتالياً المصابين به، تماماً كما حصل مع المدمنين على المخدرات في العقود السابقة. وهو أمر يتفاقم في ظل الخطاب العام والإعلامي التخويفي من الكورونا، وصولاً إلى حد التهجم على من خرج في الفضاء العام ونعته بالـ “بلا مخ” في مقدمات الأخبار. فالبلا مخ هو وصم الكورونا والمصابين به ونشر أسمائهم وسيَرهم الذاتية في الإعلام، والبلا مخ هو ترويج ثقافة الخوف والوصم إزاء هذا الأمر بدلاً من ثقافة الوعي والتضامن والتكافل للخروج من المحنة بشكل مواطني وديمقراطيً وبأقل الأضرار الممكنة، والبلا مخ هو من لا يعي أن مؤدّى الوصم هو تردد وتقاعس عدد من المصابين والمخالطين بهم عن التصريح بحالاتهم بسبب الخوف والوصم ذاته، الذي تمعن بعض أجهزة الدولة والأجهزة الإعلامية على إنتاجه. لا بل والبلا مخ هو من لا يعي أن إلزام المواطنين البقاء في منازلهم دون إيجاد أي بدائل معيشية لهم وفي ظل غياب أي سياسة إسكانية وإقتصادية وإجتماعية إنقاذية بالمقابل يشكل لهؤلاء حكماً بالإعدام ويؤدي بنا إلى كارثة (بكل ما للكلمة من معنى) إقتصادية وإجتماعية سوف تدوم حتى ما بعد زوال الكورونا من حيواتنا. فأسلوب التخويف والوصم ليس من سمات المجتمع الديمقراطي، الذي يقتضي بالمقابل تبني سياسات شاملة تضمن وتوفق بين مختلف ضرورات وحاجيات المواطنين.

إذاً، الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة، وإن كانت تتماشى مع التوجه العالمي في هذا الإطار، إنما تتجاهل تماماً التوفيق الملزم مع الحقوق الإقتصادية والإجتماعية (وهي الأخرى حيوية أيضاً)، وفق ما سبق لي أن أسلفته أعلاه. وإن هذا الأمر سوف يؤدي إلى إستحالة إستدامة هذه الإجراءات على هذا النحو، علماً أن المحنة قد تدوم لأسابيع وأشهر. فكيف يمكن التوفيق مع هذه الحقوق إذاً والخروج من المحنة بأقل الأضرار الممكنة على الصعيد الصحي والإقتصادي والإجتماعي؟

كيف يمكن التوفيق بين مختلف الضرورات؟

في دراسة حديثة العهد للمهندس التطبيقي توماس بويو (Tomas Pueyo) نُشرت على موقع Medium الإلكتروني في 19/03/2020، يحلل الباحث مختلف الإجراءات المتخذة في مختلف البلدان حول العالم للحدّ من تفشي فيروس الكورونا، في مقارنة للتوجهات الدولية ومدى فعاليتها للحدّ من الوباء ومن تداعياته على الحياة الإقتصادية والإجتماعية، لا سيما في ظل تبني معظم الدول الموبوءة سياسة العزل المنزلي والإبتعاد الإجتماعي (social distancing). وقد وجد أن بعض البلدان منها (مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان) التي تبنت بحزم بعض الإجراءات الوقائية (أعود إليها لاحقاً)، تفادت بالمقابل إعتماد إجراءات العزل المنزلي والإبتعاد الإجتماعي وشل الحركة الإقتصادية أو أقله إن إعتمدتها، فكان هذا الأمر لفترة زمنية محدودة لم تتعدّ الأسابيع، وقد أدى هذا الأمر بالرغم من كل ذلك إلى الحد من تفشي الوباء كما والحد من أضراره على الحياة الإقتصادية والإجتماعية في الوقت نفسه.

وقد تمثلت الإجراءات الوقائية المذكورة بشكل أساسي بالآتي: إجراء فحوصات مكثفة على المواطنين مهما ظهرت عليهم عوارض أم لا بالتزامن مع إستحداث وسائل متطورة للتقصي عن المخالطين – ترعى قدر الإمكان خصوصية هؤلاء (مثل أنظمة المراقبة وتطبيقات ذكية إلكترونية ومحطات جوالة للفحص المخبري إلخ.) –، وتالياً عزل المصابين والمخالطين إمّا في منازلهم وإمّا في منشآت عزل مستحدثة لهذه الغاية (تضمنت أحياناً فنادق خاصة فارغة أُعيد تخصيصها للغاية)، كما وتوزيع وسائل الوقاية الذاتية بكثافة ومجاناً، فضلاً عن إستدعاء متطوعين في الجسم الطبي (شمل طلاب في الطب) للمساهمة في عملية الإنقاذ الوطني.

أمّا اللجوء إلى سياسة الإبتعاد الإجتماعي، فقد تم تخصيصها لحماية الفئات الإجتماعية الأكثر هشاشة أمام الوباء، فيما تم عزل بعض الشوارع والمناطق حيث تفشى فيها الوباء بشكل ملحوظ. وقد أدى تبني هذه الإجراءات على وجه السرعة إلى الحدّ من طول أمد الإجراءات الأخرى التي تشل الحركة الإقتصادية والإجتماعية في البلد. والعكس صحيح أيضاً: فكلما تأخرت الدولة في تبني الإجراءات الوقائية بحزم وبكثافة، كلما إضطرت على تمديد مهلة الإجراءات المشلة للحياة الإقتصادية والإجتماعية (وهي قد تصل إلى بضعة أشهر وفق بعض التوقعات) مع كل ما سوف يسفر عن هذا الأمر من تداعيات كارثية على الصعيدين الإقتصادي والإجتماعي (أدعو القراء الراغبين التعمق في الدراسة المذكورة، الإطلاع عليها على الرابط التالي). ولا يرد على ذلك أن كلفة الإجراءات الوقائية المذكورة هي باهظة الثمن، لأنه يكفي القياس مع كلفة شل الحركة الإقتصادية والإجتماعة على مدار أشهر للتيقن أنه مهما إرتفعت كلفة هذه الإجراءات، فهي تبقى أوفر خيار في الوضع الراهن.

وعلى هذا الأساس، يقتضي إعتماد مثل هذا البروتوكول الوقائي المذكور في لبنان، في ظل ثبوت نجاحه في دول أخرى (مثل سنغافورة وتايوان)، بهدف التوفيق بين ضرورات الصحة العامة والضرورات الإقتصادية والإجتماعية في الوقت نفسه، على أن يتم ذلك من خلال حسن تخصيص أموال وطاقات الدولة اللبنانية وعلى وجه السرعة القصوى وفق الخطوات التالية:

1- إيلاء الأولوية القصوى للتوعية والوقاية من خلال تمكين المواطنين وإجراء فحوصات شاملة وكثيفة ومجانية (حتى ولو لم تظهر على المواطنين أية عوارض) وتوزيع وسائل الوقاية بكثافة ومجاناً، وفق ما هو منصوص عنه في أحكام قانون سنة 1957؛

2- إستحداث منشآت لعزل المصابين والمخالطين. وهذا يمكن أن يتم من خلال إعادة تخصيص بعض المباني والفنادق الفارغة في البلد دون تكلفة على الدولة نظراً للظروف الإستثنائية وإمتداداً من موجب أصحاب هذه المباني والفنادق بالتضامن في الأزمات الوطنية؛ علماً أن بإمكان الدولة أن تصادر أو تفرض على المؤسسات أداء خدمات في ظل إعلان التعبئة العامة كما سبق بيانه،

3- إستدعاء جميع الطلاب والمتدرجين في الجسم الطبي في لبنان للتطوع بهدف تضافر الجهود والطاقات للحد من تفشي الوباء وتأمين عناية صحية شاملة وواسعة النطاق. هذا فضلاً عن تخصيص الأموال والمساحة الحاضنة لتشجيع الإبتكار والبحث العلمي والطبي في لبنان، فتشارك الدولة اللبنانية أسوة بدول أخرى على صناعة الحلول العلمية والطبية لمكافحة الوباء بدلاً من وقوفها مترقبة لحل من الخارج؛

4- إقرار بصورة العجلة سياسة إسكانية شاملة تجعل من شعار “خليك بالبيت”، شعاراً بمتناول الجميع وليس فقط بمتناول الفئات الإجتماعية الميسورة. هذا فضلاً، عن تدخل الدولة لضبط أسعار الإيجارات ووضع سقوف لها تماشياً مع الوضع الراهن وحفاظاً على حق السكن؛

5- إقرار خطة شاملة إنقاذية لدعم العمّال والأجراء الذين خسروا وظائفهم أو خُفضت معاشاتهم، تماشياً مع ما كان سبق للمفكرة القانونية والمرصد اللبناني لحقوق العمّال والموظفين أن طالبوا به منذ أشهر؛

6- إقرار خطة إنقاذية لدعم وحماية الفئات الأكثر هشاشة في مواجهة الوباء (مثل الأشخاص المودعين أو المقيمين في دور الرعاية ودور العجزة)؛

7- تفعيل التفتيش في مجالات العمل ومؤسسات الرعاية ضماناً لسلامة العاملين أو المودعين فيها. وهذا ما يتطلب وضع خطط للمفتشين من قبل وزارتي العمل والشؤون الاجتماعية،

8- إقرار سياسة جزائية مفادها تخفيف الإكتظاظ في السجون والمخافر، فيتم إخلاء سبيل جميع الموقوفين والمحكوم عليهم بجنح وجرائم غير خطيرة أو ذات خطورة محدودة على الفور عملا بمبدأ تخفيف المخاطر؛

9- إلزام بعض المؤسسات، وعلى رأسها المصارف ومؤسسات بيع وتوزيع المواد الغذائية، على فتح أبوابها لفترات تمتد زمنياً تفادياً للإزدحام وتلبية لحاجات المواطنين، وهو أمر يمكن للحكومة أن تفرضه بموجب المرسوم الإشتراعي رقم 102/1983 وفق ما أسلفته؛

كل الخطوات المذكورة أعلاه يمكن أن يتم وضعها قيد التنفيذ، شرط أن يتم حسن تخصيص أموال وطاقات الدولة. سوف نخرج من هذه المحنة، فالأوبئة تأتي ومن ثم تزول. سوف نخرج منها، لكن الخيارات التي نعتمدها اليوم سوف تحدد سرعة خروجنا منها وتحدد وزن التداعيات المتأتية عنها والتي سوف نتعايش معها ما بعد زوال الوباء، فلا نفوّتَنَ الفرصة.

  • لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:

Fear and the Law in the Time of Corona: What is to be Done?


[1]  كريم نمّور، “الهلع والقانون في زمن الكورونا“، المفكرة القانونية، 14/03/2020.

[2]  تراجع حلقة البودكاست القانوني التابع للمفكرة القانونية مع الطبيبة النفسانية الدكتورة هلا كرباج تحت عنوان “الصحة النفسية في زمن الكورونا“.

[4]  كريم نمّور، “الهلع والقانون في زمن الكورونا”، مذكور أعلاه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، حقوق العمال والنقابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني