كتّاب العدل ينتصرون على “الاستثناء”: 2-0


2014-07-01    |   

كتّاب العدل ينتصرون على “الاستثناء”: 2-0

لم توفر الحملة التشريعية الأخيرة مهنة كتابة العدل. فالسياسيون وجدوا فيها منجماً آخر لإغداق الغنائم على مقربين منهم، فأقروا في 2 نيسان 2014 قانوناً يهدف الى تمكين كل من كلف ككاتب عدل لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات بالتحول الى كاتب عدل أصيل. ومن المعلوم أن قانون كتاب العدل في صيغته السابقة سمح لوزراء العدل المتعاقبين بتكليف موظفين عامين تابعين لملاك الوزارة بهذه المهمة، عند حصول شغور أو إجازة في أي من دوائر كتاب العدل. وقد هدف هذا القانون الى توليتهم – وبعضهم رسب في مباراة الدخول أو هو موضع ملاحقة جزائية – مهنة غير مستحقة تدرّ عموماً مالاً كثيراً، وعلى نحو مخالف لمبدأ المساواة في تولي الوظائف العامة. ويلحظ أن مبادرة التشريع هنا قد صدرت عن نواب ينتمون الى مختلف الكتل السياسية، وهذه ممارسة بات متعارفاً عليها كلما هدف الاقتراح الى تمرير تقاسم غنائم أو ما يسمى محاصصة. وعلى عكس المتوقع، أدى هذا الاقتراح الى استنهاض كتاب العدل، ما أسفر عن أمور ثلاثة إيجابية: الأول، أنه دفعهم للمرة الأولى في تاريخهم الى التحرك جماعياً دفاعاً عن مصالح مهنتهم، والثاني، أنهم نجحوا في انتزاع قانون بإنشاء مجلس مستقل لهم على نحو يمهد لمأسسة حراكهم وتعزيز إمكانيات الدفاع عن مهنتهم في حال تعرضها لخطر مشابه مستقبلاً، والثالث، وقد حصل بمعونة المجلس الدستوري، إبطال القانون الغنيمة بموجب قرار من شأنه أن يمهد لانحصار آليات التثبيت والمباريات المحصورة وما الى هنالك من آليات مخالفة لمبدأ المساواة أمام القانون، وإن كنا نأسف أن يكون صدر مقتضباً. وهذا ما سأحاول درسه في هذا المقال.

مسار عملية تثبيت كتّاب العدل المكلفين
في 16/12/2011، وقّع نواب عديدون يمثلون مجمل الكتل النيابية[1] اقتراح قانون يرمي الى تثبيت الموظفين في ملاك وزارة العدل الحائزين الإجازة اللبنانية في الحقوق، ككتّاب عدل  أصيلين، والذين مارسوا مهنة كتاب العدل بالتكليف مدة لا تقل بمجموعها عن ثلاث سنوات، من دون شرط السن، من دون الحاجة الى إجراء مباراة محصورة أو الى أي فترة تدريب. إزاء هذا الأمر، تحرك كتاب العدل واعتصموا في المجلس النيابي تباعاً في 13-1-2012 و12-3-2012 وقدموا للجنة النيابية للإدارة والعدل دراسة وقعها عدد منهم رفضاً لهذا الوضع الذي يُراد فرضه كأمر واقع، متمسكين بمبدأ المباراة[2].

في 30/4/2012 اجتمعت لجنة الإدارة والعدل لدرس الاقتراح. فاكتفت بأن أدخلت اليه، بدفع من وزير العدل السابق شكيب قرطباوي، إضافة تجميلية من خلال إخضاع هؤلاء قبل تثبيتهم لدورة تقييمية تجريها لمدة 3 أشهر لجنة مؤلفة من خمسة قضاة أو أكثر في معهد الدروس القضائية. كما تجدر الإشارة الى تضمين القانون مادة مفادها عدم جواز التكليف إلا خارج أوقات الدوام الرسمي على نحو يؤدي الى منع نشوء فئة المكلفين مستقبلاً، وكأنما المشرّع يسعى الى تبرير فعلته في اقتسام الغنائم من خلال التأكيد أنها ظرفية ترتبط بوجود أصحاب مصالح، وأن منع وجود هذه الفئة يشكل ضمانة بعدم تكرار هذه الفعلة. واللافت أن قرطباوي وصف صيغة التجميل هذه بأنها “منصفة وتأخذ بعين الاعتبار كل المعايير القانونية الواجب مراعاتها لشغل منصب كاتب عدل”. وتبعاً لهذا الإصرار السياسي على تمرير اقتراح القانون، كان اللقاء الحاشد في 2-5-2012 في فندق الرويال الذي جمع ما يقارب 160 كاتب عدل لمناقشة اقتراح القانون كما عدلته لجنة الإدارة والعدل، وأصدر المجتمعون بياناً أكدوا فيه “اعتراضهم الشديد على اقتراح القانون “الاستثنائي” الذي أقرت صياغته لجنة الإدارة والعدل في المجلس النيابي، وذلك خلافاً وخرقاً لقانون تنظيم مهنة كتابة العدل القانون رقم 337/1994 وفي سابقة لم تحصل منذ العام 1979[3]“. وقد قام عدد من كتاب العدل، فضلاً عن ذلك، بزيارات لنواب عديدين بغية حثهم على التراجع عن هذا القانون[4].

وفي جلسته المنعقدة في 2 نيسان 2014، دار جدل بين النواب: فأدلى قسم منهم بمظلومية الموظفين المكلفين معتبرين “أن هناك تشويهاً لصورة موظفين خدموا في فترة لم يكن فيها كتاب عدل، وأن الذنب هو ذنب وزراء العدل السابقين الذين كلفوهم وجددوا تكليفهم” (النائب نوار الساحلي) و”أن هناك إجحافاً بحقهم ومظلومية” (النائبان بطرس حرب وأحمد فتفت)، فيما أدلى قسم آخر بالمقابل بتجاوز مبدأ المباراة (النائبان جورج عدوان ونديم الجميل). وقد تدخل وزير العدل أشرف ريفي معلناً تمسكه بوجوب إجراء مباراة ولو محصورة، ضماناً لمبدأ المساواة.

وإزاء هذا الخلاف، اتخذ رئيس المجلس النيابي نبيه بري قراراً فورياً بتأليف لجنة مصغرة لوضع صيغة مقبولة في هذا الموضوع، لينتهي النواب الى إقرار قانون يؤكد إجراء مباراة محصورة في اليوم نفسه. واللافت هو تسليم المجلس برئاسته، ولو عن طريق المزاح، بطغيان روح الغنائمية على عملية التشريع. فردا على سؤال للنائب نديم الجميل حول ما اذا كان المكلف الذي سيتثبت سيحصل على تعويض من وظيفته الأصلية، رد بري أنهم “قارطين مصاري الدنيا”، من دون إيلاء أي اهتمام من أي نوع كان للسؤال المطروح والذي قد يؤدي الى تدفيع المواطن ثمناً إضافياً من جراء اغتنامهم وظيفة كاتب العدل. وقد عكس هذا الحوار “الشيق” سواد الذهنية الآيلة الى تسفيه الفساد المؤسساتي[5].

وفي الاتجاه نفسه، أقر المجلس النيابي في الجلسة نفسها، بتاريخ 2-4-2014، قانون إنشاء مجلس للكتاب العدل في لبنان، الذي يفترض أن يشكل ما يشبه نقابة لكتاب العدل. ومن أبرز مهامه ضمان تمثيلكتاب العدل تجاه السلطات العامة والغير أمام المحاكم. وقد جاء إنشاؤه بمثابة تمكين لهؤلاء في الدفاع عن مصالح مهنتهم مستقبلاً مقابل غض الطرف آنياً عن الاعتداء السافر على هذه المصالح.

إلا أن ذلك لم يقنع كتاب العدل فنجحوا في إقناع عشرة نواب بتقديم طعن ضد قانون تثبيت كتاب العدل المكلفين أمام المجلس الدستوري[6]، ما أدى الى إصدار قرار بإبطال القانون موضوع المراجعة لمخالفته الدستور ومبادئ ذات قيمة دستورية. وقد بدا من خلال الطعن أن كتاب العدل يشعرون بإجحاف ليس فقط إزاء فتح باب تعيين المكلفين، بل أيضاً إزاء منع التكليف مستقبلاً إلا من خارج الدوام الرسمي، وهو ما اعتبروه حائلاً دون تمتعهم بحقهم بالإجازة.

وقبل المضي في عرض الأسباب التي انبنى عليها قرار الإبطال، تقتضي الإشارة الى أن ثلاثة من الطاعنين بهذا القانون كانوا من الموقعين على اقتراحه المقدم في 2011، وهم عبد اللطيف الزين وايلي ماروني وميشال الحلو، وكأنهم بذلك يمسحون تواقيعهم. كما نلحظ أن ماروني هو من تقدم باقتراح قانون بإنشاء مجلس كتاب العدل. وهذا يدل على نوع من اللامسؤولية في العمل التشريعي. فكيف يمكن لنائب تقدم باقتراح قانون أن يعود ويطعن في دستوريته؟ وألا يؤشر ذلك الى تحول التشريع الى مجاملة لهذا أو ذاك أو بالنسبة الى بعض النواب الى مجرد عملية لهو؟ فكيف يمكن لنائب أن يقدم قانوناً لإنشاء مجلس كتاب العدل بذريعة تحصين المهنة وضمان استقلاليتها، وفي الوقت نفسه اقتراح قانون من شأنه أن يضرب صلب المهنة ويزعزعها، فينتهي مجلس النواب الى إقرار الاثنين معا؟

المجلس يبطل المباراة المحصورة: التشريع لأمر
الطعن الدستوري طرح على المجلس الناظر فيه سؤالاً مركزياً حول مدى مخالفة “المباراة المحصورة” لمبدأ المساواة الذي يفيد بوجوب إشراك الجميع في المباراة على قدم المساواة، فهل هناك أوضاع خاصة للمكلفين تفرض أو تبرر تمييزهم عن سائر المواطنين؟

وفي هذا المجال، ذكر مقدمو الطعن أن عدداً من المستفيدين من أحكام القانون المطلوب إبطاله سبق واشتركوا في المباريات المفتوحة التي تجريها دورياً وزارة العدل لتعيين كتاب عدل متدرجين ولم ينجحوا. وقد وصف هؤلاء القانون بأنه “تشريع أمر” لكونه هدف خصوصاً لإنجاح من سبق ورسب في المباراة المفتوحة، أو من يفتقد شروط الترشح من دون أي مبرر. واستجابة لذلك، أقر المجلس الدستوري بمخالفة مبدأ المساواة، لكونه ميز بين المرشحين للمباراة المحصورة والمرشحين للمباراة المفتوحة، مؤكداً “أن القانون ينبغي أن يكون واحداً لجميع الأشخاص الذين يقعون في الوضع القانوني نفسه”. وبقراءة أولية لهذه الحيثية، يظهر أن القرار لم يتضمن أي حيثيات خاصة بظروف كتاب العدل لتجريد المكلفين من إمكانية التذرع بوضعية خاصة من دون المس بمبدأ المساواة، الأمر الذي يسمح ربما بتطبيق هذه القاعدة على مجمل التشريعات التي تفتح الباب أمام مباراة محصورة بأشخاص شغلوا لفترة معينة هذه الوظائف بموجب تعاقد أو ما شابه. لكن النظر الى القرار الثاني الصادر عن المجلس في اليوم نفسه بشأن قانون الدفاع المدني والذي قبل به مبدأ المباراة المحصورة بالمتطوعين العاملين في الدفاع المدني دون سواهم يدحض هذه القراءة ويبين في الوقت نفسه قصور المجلس في تعليل مواقفه على نحو يسهم في تطوير المنظومة القانونية. ولفهم هذا القرار، يظهر أنه يجب أن نستمد غياب الوضع الخاص للمكلفين من الحيثيات الآيلة الى دحض نظرية الاستثناء. فنفياً لهذه النظرية، ذكر المجلس أن الوزارة كانت تجري مباريات دورية لملء المراكز الشاغرة وأنه كان تالياً بإمكان هؤلاء المشاركة فيها.

فضلاً عن ذلك، أقر المجلس الدستوري بمخالفة القانون لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والإجرائية، ما دام المشرّع ألزم السلطة التنفيذية بـ”إجراء مباراة محصورة” خلال مهلة شهر من إقرار القانون، فيما هذه السلطة هي صاحبة الصلاحية بالتوظيف.

واللافت أن المجلس رد بالمقابل الطعن بدستورية المادة القانونية المتصلة بمنع التكليف ضمن أوقات دوام العمل الرسمي. وفيما أثار الطعن بأن من شأن هذا المنع أن يحرم الكاتب العدل من أبسط حقوقه وهو الحق بالإجازة المنصوص عليها في المادة 24 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ما دامت دائرته تعتبر دائرة رسمية (مرفقاً عاماً) ويجب أن تبقى مفتوحة أمام أصحاب العلاقة لإنجاز معاملاتهم خلال مواعيد الدوام الرسمي، اكتفى المجلس بالقول بأن الموظفين الداخلين في ملاك وزارة العدل ممن يجوز تكليفهم قانوناً بمهام كتابة العدل ينبغي أن يقوموا بوظائفهم أثناء الدوام الرسمي طبيعياً. وقد جاء تعليل المجلس هنا أيضاً مقتضباً وغير مرض: فأن يبرر عدم إمكانية التكليف أثناء الدوام الرسمي بواجبات الموظفين العامين بأداء وظائفهم الأصلية مع تجاهل تام لحق كتاب العدل بالإجازة، إنما يعني أنه ارتكب خطأ مثلثاً. الخطأ الأول تمثل في إعراضه عن النظر في حصول انتهاك لحق دستوري هو حق كتاب العدل بالإجازة، والخطآن الآخران تمثلا في اعتماد مسلّمتين ليس لهما بالواقع أي قيمة دستورية: الأولى، عدم جواز انتداب موظفين عامين لأعمال خارجة عن وظائفهم، والثانية، عدم إمكانية تكليف أشخاص آخرين من خارج ملاك موظفي الوزارة. وقد كان يتعين عليه برأينا أن يباشر تعليله في النظر في وجود انتهاك لحق دستوري أو عدمه، فإذا صح حصول انتهاك، أوجب عليه أن يدرس أو أن يدعو المشرّع الى درس كيفية التوفيق بين هذا الحق ومقتضيات الوظيفة العامة وربما درس احتمال توسيع دائرة الأشخاص الممكن تكليفهم ليشملوا أشخاصاً من غير الموظفين التابعين لملاك وزارة العدل. أما إذا تبين له أنه ليس هناك أي انتهاك للحق الدستوري، تعين عليه في هذه الحالة رد الطعن لهذه الجهة. أما وأنه تجاهل الادعاء بحصول انتهاك لحق دستوري ليسهب في وعظ الموظفين بوجوب قيامهم بوظائفهم، فإنه يعني أنه آثر الوعظ على القيام بدوره في إحقاق الحق.

وبمعزل عن صوابية قرار المجلس على هذه الأصعدة كافة، من المؤسف أن تعليله بقي ملتبساً ومقتضباً وبأية حال قاصراً عن التحول الى قاعدة عامة من شأنها تطوير المنظومة الحقوقية. وما يزيد الأمر قابلية للانتقاد أن القرار المذكور كان قراره الأول منذ ما يزيد على سنة، الأمر الذي كان يؤمل معه إصدار قرارات أكثر إتقاناً وجودة.

الحصيلة: حين حصد النواب الخيبة
ختاماً، تجدر الإشارة الى أن حسبة المشرّع لم تكن موفقة تماماً. فقد حسب هؤلاء أنه بمقابل تثبيت كتاب العدل المكلفين، يمكن استرضاء كتاب العدل الأصيلين بمنحهم حق التجمع في مجلس هو بمثابة نقابة. إلا أنه بقرار المجلس الدستوري الذي أفضى الى إبطال قانون تثبيت كتاب العدل بعد مباراة محصورة، يخرج كتاب العدل بشعور بانتصار مضاعف: فمن جهة منع المجلس الدستوري تولي المكلفين وظيفة الكاتب العدل من خارج الأصول، ومن جهة أخرى ربح كتاب العدل نقابتهم.

نشر هذا المقال في العدد | 18 |حزيران/يونيو/  2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

أبعد من المحكمة الدولية،ماذا فعلنا للقضاء اللبناني؟ولماذا نحب الإستثناء؟


[1]غازي زعيتر, عماد الحوت, أكرم شهيب, ميشال الحلو,ايلي عون, عبد اللطيف الزين, مروان فارس, ايلي ماروني, انطوان زهرا,وسمير الجسر.
[2]نزار صاغية, اقتراح قانون لانجاح راسبين في مباراة كتاب العدل وهؤلاء يعارضون جماعيا الأمر الواقع, المفكرة القانونية, 2-4-2012.
[3]الكتاب العدل: نرفض تثبيت المكلفين من دون مباراة, 3-5-2012, موقع Lebanon filesالالكتروني.
[4]ورد في مقابلة أجرتها المفكرة القانونية مع كاتبة العدل رندا عبود.
[5]راجع المرجع السابق.
[6]راجع المرجع السابق.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، البرلمان ، تشريعات وقوانين ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني