منذ بدايات 2017، لم يعُدْ القاضي بيتر جرمانوس قاضيا عاديا. الأمر لا يعود لمؤهلاته أو لمركزه (مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية)، بل للتجاذب السياسيّ الحاصل حول شخصه، في أهم ورشتين انفتحتا في السنوات الأخيرة في المجال القضائي، وهما تباعا مشروع التشكيلات القضائية 2017 والتحقيقات الجارية بشأن السمسرة القضائية (الفساد القضائي) منذ زهاء سبعة أشهر.

وقد برز شخص جرمانوس بمناسبة الورشة الأولى (تشكيلات 2017 وهي الأولى من نوعها من حيث شموليتها منذ 2009) تبعا لتمسك وزير العدل السابق سليم جريصاتي (وهو ما يزال وزير دولة لشؤون رئاسة الجمهورية) والفريق الذي يمثله (التيار الوطني الحر) بتعيينه مفوضا للحكومة لدى المحكمة العسكرية، خاصة بعدما أصبح تعيينه في هذا المركز بمثابة العقبة الأساسية في نجاح المساومات السياسية الحاصلة في هذا الشأن. ولم يتمّ تجاوز هذه العقبة إلا في اللحظات الأخيرة، بعدما رفع رئيس الوزراء سعد الحريري تحفّظه عن تعيينه تبعا لمساع بذلها جريصاتي في اللحظات الأخيرة؛ فصدرت التشكيلات.

ولم يكن التداول باسمه في تحقيقات الفساد القضائي الحاصلة في 2018-2019 أقل بروزا. فما أن بدأت هذه التحقيقات، حتى تردّد اسمه ضمن مجموعة من أسماء القضاة، الذين يشتبه بتورطهم بدرجة أو بأخرى في رشى وعلاقات مشبوهة مع سماسرة كبار في قضايا قضائية. وبروز اسمه هنا لم يحصل فقط بفعل أهمية المركز الذي يتولاه، بل أولا بفعل تحوله مرة أخرى إلى موضع تجاذب سياسي بشأن الاجراءات الجائز اتخاذها بحقه على خلفية هذه التحقيقات. فبالإضافة إلى مساعيه لتظهير قضيته على أنها استهداف للفريق السياسي الذي يدعمه، تحوّلت الأنظار إليه تبعا لرفضه المثول أمام هيئة التحقيق القضائي بحجة أنها غير صالحة لمساءلته. كما تحوّلت إليه مجدّدا تبعا لعدم تجاوب وزير العدل ألبير سرحان مع توصية الهيئة بوقفه عن العمل. وتماما كما حصل في سياق ورشة التشكيلات حيث كاد الإصرار على تعيينه أن يفجرها، يكاد السعي لدرء مساءلته أو وقفه عن العمل أسوة بسائر القضاة يفجر ورشة التحقيقات الجارية حول الفساد القضائي.

هذه هي الأسباب التي قذفت جرمانوس إلى واجهة الأحداث القضائية في السنوات الأخيرة. وبالطبع، ما كان اسمه ليبرز وفق ما تقدم لولا ارتباطاته السياسية، والأهم قبوله استخدام هذه الارتباطات لارتقاء مناصب قضائية أو كغطاء للتفلّت من آليات المساءلة أو المحاسبة. ومن هذه الزاوية، تمنحنا تطوراته المهنية، ارتقاء كما هبوطا، إضاءات ثمينة جدا حول عيوب التنظيم القضائي، وبخاصة العيوب التي تسمح للقوى السياسية بالتأثير على القضاة والتحكم في أعمالهم. ففيما تكثر الشواهد على تدخّل قوى سياسية لتعيين مقرّبين منها في مراكز نفوذ قضائية، فإنّه قلما توفّرت أدلّة حول حجم التدخلات السياسية كما حصل فيما يتصل بجرمانوس، والأهم قلما اجتمعت في قاضٍ واحد أدلة على تدخلات لغاية تعيينه في مركز هامّ مع أدلة على تدخلات لاحقة لتغطيته وعرقلة مساءلته.

ومن شأن اجتماع هذه الشواهد أن يقوّض تماما الخطاب السياسي الذي ما فتئ يفصل ملف الفساد القضائي عن الفساد السياسي أو أيضا ملف محاسبة القضاة عن ملف استقلاليتهم، فيما أنّ أيّ تحليل منطقي وموضوعي للنصوص والممارسات المتصلة بالتنظيم القضائي يثبت مدى تلازم هذه الملفات. أي اتجاه مخالف يؤدّي إلى جعل الحديث عن الفساد القضائي أو محاسبة القضاة فرصة جديدة لاستتباعهم.

هذا ما سنحاول تبيانه على طول هذا المقال.

ثلاث جبهات سياسية حول قاض مسيس

في هذا السياق، سنتناول التجاذبات السياسية الحاصلة حول القاضي جرمانوس، على أن نكتفي بالتفاصيل والأحداث التي تسمح لنا بخدمة الغاية من هذا المقال أي إبراز عيوب النظام القضائي.

1- يكون جرمانوس أو لا تكون التشكيلات

رغم الانتقادات الكثيرة التي طاولت تشكيلات 2017 والتي أسمتها “المفكرة” تشكيلات الأحزاب الثلاثة، فإن جريصاتي (الذي كان وزير عدل آنذاك) لا يخفي افتخاره بإنجازها، معتبرا إياها المدماك الأول لإصلاح القضاء في العهد الجديد. ومردّ التباين في التقييم في هذا المضمار هو أن ما تراه “المفكّرة” إخفاقا قضائيا، يراه جريصاتي إنجازا سياسيا طالما أنه نجح في تعزيز مواقع الفريق السياسي الذي ينتمي إليه داخل القضاء.

ففيما كان لتيار المستقبل و”حركة أمل” تباعا كلمة الحسم في التعيينات في المراكز الهامة المحجوزة للقضاة من الطائفتين السنية والشيعية، ها هي القوة السياسية المسيحية الأقوى تفرض أسوة بهما المقربين منها في المراكز الهامة المحجوزة لقضاة من الطائفة المسيحية (وهي تعادل المراكز المحجوزة للسنة والشيعة والدروز مجتمعين بفعل المناصفة). وما يزيد من أهمية هذا الإنجاز بالنسبة للتيار الوطني الحر هي أنها التشكيلات الشاملة الأولى التي تحصل منذ انخراطه في الحكومة وتوليه وزارة العدل إلى جانب رئاسة الجمهورية. وقد شكل آنذاك مركز مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (وهو محجوز عرفا لقاض ماروني) والذي كان يتولاه حتى تلك اللحظة القاضي صقر صقر، المقرّب من فريق 14 آذار وتاليا رئيس الحكومة سعد الحريري، أحد أهم مواقع التنازع.

ولم يقتصر التنازع على هذا المركز على تحديد مرجعيته السياسية، بل سرعان ما رشح عن أبعاد شخصية، بفعل إصرار جريصاتي على تعيين قاضٍ بعينه هو بيتر جرمانوس فيه. وهذا ما كشف عنه هذا الأخير ببلاغة كليّة بعد شهرين (20/12/2017) من إنجاز التشكيلات في حفل تكريمي أقامته بلدية العاقورة لجرمانوس: “منذ استلامي لوزارة العدل لم أتخيّل دقيقة واحدة غير بيتر جرمانوس كمفوض للحكومة لدى المحكمة العسكرية”، مبرّرا موقفه المذكور بما يربطه به من “صداقة عميقة شخصية وعلمية، لأنّه مرجع قضائي وقانوني كبير” ولكن بالأخص بما “يتمتّع (به) من حسّ سياسي وأمني كبيرين وفراسة قانونية تسمح له أن يكون في هذا الموقع”.

وندرك أبعاد التمسك بشخص جرمانوس، على ضوء ما أشرنا إليه أعلاه لجهة أن مشروع التشكيلات كاد ينفجر لولا مساعي اللحظات الأخيرة، وأن رفع التحفّظ حصل وفق ما نقلته بعض وسائل الإعلام بعد زيارة جرمانوس نفسه برفقة جريصاتي للحريري، والأهم وفق ما أشيع في الأوساط القضائية، بعد تجاوز تحفظات رئيس هيئة التفتيش القضائي بركان سعد، الذي كان وضع فيتو من قبل على اسمه لأسباب تتّصل بملفه لدى هذه الهيئة.

2- مثول جرمانوس أمام هيئة التفتيش القضائي، استحقاق سياسي؟

ابتداء من أواخر 2018، تسرّبت إلى الإعلام معلومات حول ورود أسماء عدد من القضاة والمحامين وكتاب المحاكم في التحقيقات التي فتحها فرع المعلومات لدى قوى الأمن الداخلي في الأساس مع أشخاص يشتبه بضلوعهم في السمسرة القضائية. وسرعان ما تبيّن أن اسم جرمانوس ورد ضمن هذه القائمة. وفيما أحالت هيئة التفتيش القضائي خمسة قضاة إلى المجلس التأديبي بعدما أوصت بوقفهم عن العمل (الأمر الذي سارع وزير العدل ألبير سرحان إلى قبوله)، فإنه تسرّب بالمقابل أن جرمانوس يرفض المثول أمام هذه الهيئة، نافيا أي صلاحية لها للتحقيق معه، بحجة أن وزير الدفاع هو المرجع الوحيد المخوّل محاسبته، بالنظر إلى مركزه لدى المحكمة العسكرية. ورغم ضعف هذه الحجة، فإنها فتحت مجال التجاذب السياسي، وبخاصة في ظل تريّث الهيئة عن اتخاذ موقف من جراء رفض جرمانوس المثول أمامها، رغبة منها بتذليل العوائق السياسية أمام ملاحقته (عمليا إقناع مرجعيته برفع الغطاء عنه) قبل المضي بذلك.

وقد بدت القوى السياسية الداعمة لجرمانوس في مأزق حقيقي في القضية المذكورة بالنظر إلى الثمن السياسي الذي سينتج عن أي من الخيارات المتاحة لها. فأن تدعم موقف جرمانوس في رفض المثول أمام هيئة التفتيش القضائي إنما يعني التسبب مباشرة بعرقلة المسار القانوني للمحاسبة القضائية والأخطر ممارسة الانتقائية في المحاسبة بشكل فاضح. ومن شأن ذلك أن يحمّل العهد مباشرة مسؤولية تدمير المساعي لإعمال المحاسبة داخل القضاء (وهو أمر ما فتئ يعلن عن تمسكه به)، وخصوصا في ظل تهيؤ بعض القوى السياسية إلى التدخل بفعل قواعد اللعبة اللبنانية لمنع (أو وقف) محاسبة أي من المقربين منها، في حال أخذت قضية جرمانوس هذا المنحى. الخيار الثاني المتاح أمام هذا الفريق، أي رفع الغطاء السياسي عن جرمانوس، ليس أقل كلفة، وبخاصة في حال أدّت التحقيقات إلى إثبات تورّطه. فهذا الأمر، يعني في حال حصوله، أن هذه القوى سخّرت في 2017 وزنها السياسي برمته وأعاقت تمرير التشكيلات لأشهر بل كادت تطيرها، لتعيين قاضٍ في أحد أعلى المراكز القضائية، فيما هو غير مؤهل لممارسة القضاء أصلا.

في خضم هذا المأزق وتعبيرا عنه، صدرت عن جرمانوس العديد من التصرفات اللافتة والتي هدفت بشكل أو بآخر إلى تحويل قضيته إلى قضية خصام بين قوى سياسية، إن لم نقل إلى تطييفها. من أبرز هذه التصرفات الادّعاء على مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان على خلفية تسريب التحقيقات أو أيضا على خلفية دوره في تغطية عدد من مخالفات البناء وغيرها من المخالفات. وقد سعى جريصاتي (بصفته وزيرا للشؤون الرئاسية) إلى مواكبة هذه المساعي بمواقف أعلن عنها في إطار اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع المركزي وذهبت في الاتجاه نفسه. وقد تمثل ذلك في تنديد جريصاتي بعمل فرع المعلومات ومطالبته بنقل التحقيقات في السمسرة القضائية من جهاز فرع المعلومات إلى فرع أمن الدولة، المقرب من قيادات التيار الوطني الحرّ، بحجة أن “لديه خبرة وإنجازات حققها بشفافية”.

وتظهر تتمة الأحداث أن هذا الفريق السياسي انتهى إلى اختيار توجّه وسطي، بمعنى أنه رفع الغطاء عن جرمانوس بشكل جزئي ومرحليا، الأمر الذي أرغم هذا الأخير على المثول أمام الهيئة، مع احتفاظ هذا الفريق بامكانية التدخل لاحقا، في اتجاه أو آخر، على ضوء تطورات التحقيق والملاحقة.

مهما يكن، أظهر التجاذب الحاصل حول تفعيل آليات المساءلة بحق جرمانوس أن التدخل السياسي لا يقتصر على تعيين القضاة إنما ينسحب أيضا على آليات محاسبتهم، بمعنى أن بإمكان القوى السياسية تفعيل هذه الآليات أو تعطيلها، وأن ملاحقة بعض القضاة المقربين منها قد تبقى وقفا على موافقتها برفع الغطاء عنهم. ويقتضي التذكير هنا أن حالة جرمانوس ليست الأولى من نوعها، حيث كانت “المفكرة” وثقت ضمن الممارسات المتصلة بالتفتيش القضائي مجموعة من التدخلات في أعمالها. ومن أكثر الشواهد دلالة في هذا الخصوص، المناقشات النيابية خلال مناقشة مشروع تنظيم مجلس القضاء في مجلس النواب في أوائل تموز 1965، حيث عزا عدد من النواب تراجع أداء القضاء لضعف هيئة التفتيش وكثرة التدخلات السياسية في أعمالها. [1] فاعتبر النائب صبحي المحمصاني أن التفتيش هو عبارة عن تقارير توضع في الأدراج وأنه هناك عدم إهتمام بالتفتيش الجدي. كما اعتبر النائب كمال جنبلاط أن الإصلاح الحقيقي يبدأ بمنع السلطة السياسية من التدخل في القضاء. فالتدخلات أدّت إلى تعطيل المؤسسات القضائية وبخاصة هيئة التفتيش القضائي ما منع المساءلة والمحاسبة داخل القضاء[2].

3- توقيف جرمانوس، من البديل؟

بتاريخ 4 تموز 2019، تسرّب إلى الإعلام خبر مفاده أن هيئة التفتيش القضائي أحالت إلى المجلس التأديبي جرمانوس بعد الاستماع إليه، كما وأنها أوصت وزير العدل بوقفه عن العمل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قانون تنظيم القضاء العدلي (المادة 106 منه) يولي وزير العدل وحده صلاحية وقف قاضٍ عن العمل قبل صدور قرار تأديبي بحقه، على أن يتم ذلك بناء على اقتراح مجلس هيئة التفتيش القضائي تبعا لإحالة القاضي المعني إلى المجلس التأديبي.

وكانت “المفكرة” سجّلت في سياق عملها على إصلاح تنظيم القضاء العدلي، ملاحظات عدّة على منح هذه الصلاحية لوزير العدل، أبرزها أنها أنيطت بالسلطة التنفيذية من دون أن يكون للمجلس التأديبي أي صلاحية بوقف القاضي عن العمل أو إلغاء قرار وقف العمل الصادر بحقه، وأن وزير العدل غير ملزم بالإستجابة لاقتراح مجلس هيئة التفتيش القضائي أيا كانت خطورة الفعل المنسوب للقاضي الموصى بوقفه عن العمل بل هو يتمتع بسلطة استنسابية في هذا الخصوص. وفيما بدت هذه الملاحظات عند إبدائها نظرية محض، فإنها اكتست أهمية مضاعفة في ظل هذه القضية، تبعا لامتناع وزير العدل عن العمل بتوصية هيئة التفتيش القضائي بوقف جرمانوس (أقله إلى حين كتابة هذه الأسطر). وما زاد من استنسابية الوزير في ممارسة صلاحيته وضوحا وقابلية للنقد هو ارتباطه سياسيا بالتيار الوطني الحر، أي المرجعية السياسية نفسها المعنية في قضية جرمانوس وأنه كان سارع من قبل إلى الاستجابة لتوصية هيئة التفتيش بتوقيف خمسة قضاة في إطار نفس ملف التحقيقات التي يجريها فرع المعلومات.

وبدورها، لم تتأخر هذه المسألة من أن تتحوّل إلى موقعة تجاذب سياسي، سارعت وسائل الإعلام إلى نقل وقائعه. وفيما ألمحت بعض وسائل الإعلام إلى أن الموافقة “السياسية” على مثول جرمانوس أمام هيئة التفتيش كانت مشروطة أصلا بعدم وقفه عن العمل، نقلت وسائل أخرى أن موافقة الرئيس الحريري على مثول القاضيين آلاء الخطيب وهاني الحجار أمام هيئة التفتيش بموجب إحالتهما إليها من قبل وزير العدل، مشروطة باستجابة وزير العدل لتوصية الهيئة بما يتصل بوقف جرمانوس. وهذا الأمر يشكل شاهدا آخر على ارتباط محاسبة القضاة بالحسابات والمساومات السياسية.

في ظل كل ذلك، تظهر مسألة وقف جرمانوس عن العمل هي الأخرى وكأنها مسألة سياسية بحتة، تتصل بالتوازن بين القوى السياسية في توزيع الوظائف القضائية. بالمقابل، تبقى مسألة حماية المواطنين من أعمال قاضٍ تتوفر فيه شبهات تورطه في أعمال فساد وتاليا أسباب ارتياب مشروع باستقلاليته أو حياديته، مسألة ثانوية لا ترتب أي نتيجة.

ثلاث إضاءات ثمينة على عيوب النظام القضائي

مما تقدم، تبدو قضية جرمانوس غنية جدا بالدروس، التي يمكن أن نلخصها على النحو الآتي:

أولا، أن الفساد القضائي هو في معظمه امتداد للفساد السياسي

يتأتى هذا الدرس عن التلازم بين وجود هذا الفساد واستمراره والتأثيرات الخارجة عن القضاء، أهمّها اليد الطولى للقوى السياسيّة في التحكم في المسارات المهنيّة للقضاة. فكما يظهر في هذه القضية، ما كان للقاضي جرمانوس أن يتولّى منصبه القضائي أو يمانع ولو للحظة المثول أمام هيئة التفتيش القضائي أو يستمر حتى الآن في منصبه، لولا تمتعه بالدعم السياسي. والواقع أنه رغم هذه الحقيقة الفاقعة، فإن العديد من القوى السياسية (ضمنا القوى الأكثر تدخلا في القضاء) لا تجد حرجا في مقاربة الفساد القضائي على أنها مسألة تتصل بالقضاة وحدهم وتخرج تماما عنها، بمعنى أنها تستفيد ما قدرت من قضاة تعينهم وتستتبعهم وتحميهم، فإذا ظهر فسادهم، تصرفت كأنما لا علاقة لها بذلك. وعدا عن الفائدة التي تستمدها السلطة السياسية من هذا الخطاب بفعل تماهيه مع مشاعر التململ العامّ إزاء الأداء القضائي (أي شعبويته)، فإنه يؤدي إلى تظهيرها مظهر السلطة “الخيّرة” التي تجهد لإنقاذ المواطنين من قضاء يتغلغل فيه الفساد والكسل واللاكفاءة. وأسوأ ما في هذا الخطاب أنه غالبا ما يؤدي إلى استيلاء السلطة السياسية على مزيد من الإمكانات للتدخّل في القضاء بحجة إنقاذه من ذاته، وعمليا إلى معالجة الداء بالتي كانت هي الداء، وتاليا إلى تعميق الفساد القضائي- السياسي وتأصيله. ومن أهم ما يستدعيه هذا الدرس هو التنبه الدائم لإعادة توجيه الخطاب حول هذه المسائل في الاتجاه الصحيح: فشبهة فساد قاض يحتل مركزا رفيعا ليست شبهة فساد قضائي وحسب، بل هي أيضا وربما قبل كل شيء شبهة فساد سياسي بحق الأشخاص الذين سعوا من مواقعهم إلى تعيينه في هذا المركز أو إلى الحؤول دون محاسبته. وفي هذا الإطار، لا نبالغ إذا قلنا أن وزير العدل سرحان يعتبر من اليوم وصاعدا مسؤولا سياسيا عن أي مخالفة يرتكبها جرمانوس بعدما رفض الاستجابة لتوصية قضائية بوقفه عن العمل.

ثانيا، التلازم بين تعزيز استقلال القضاء وآليات محاسبته

الدرس الثاني الذي نستشفه من هذه القضية هو التلازم بين اعتبارات استقلال القضاء وآليات محاسبته وعدم جواز الفصل بينهما، بحيث أظهرت العراقيل أمام ملاحقة جرمانوس تبعا للتدخّل الحاصل في أعمال هيئة التفتيش القضائي بطريقة أو بأخرى وتحكّم وزير العدل بصلاحية وقف القضاة عن العمل أو عدمه. ومن شأن هذا الأمر أن يؤدي إلى جعل تدخّل السلطة السياسية في أعمال المحاسبة بمثابة امتداد لتدخلها في التعيينات وسواها من الشؤون القضائية، وتحويلها إلى أداة لإحكام سطوتها على القضاء. فكما يشكل قرب القاضي من هذه القوة السياسية أو تلك شرطا لارتقائه الوظيفي، فإن من شأن هذا القرب أن يشكل درعا يقيه بدرجة أو بأخرى من المساءلة. ومن أهم ما يستدعيه هذا الدرس هو اعتبار أن أي خطاب رسمي بتغليب ملف محاسبة القضاة على ملف استقلالية القضاء هو خطاب يتراوح بين الخطاب الخاطئ إذا غلبنا حسن الينة، والخطاب المخادع الذي يرمي إلى عكس ما يعلنه، وتحديدا إلى تعميق استتباع القضاء وصولا إلى تقويض حظوظ إصلاحه برمتها. ومن اللافت في هذا المضمار أن خطاب وزير العدل ما يزال حتى اللحظة خلوا من أي تعهد بوضع تشريعات أكثر ضمانا لاستقلال القضاء.

ثالثا، أولوية إصلاح النظام القضائي اللبناني

أخيرا، تمنحنا هذه القضية إضاءات هامة على عيوب تفصيلية في النظام القضائي وما يتيحه من تدخلات متنوعة في المسار المهني للقضاة. ولا نبالغ إذا قلنا أنها تصلح كدليل أو سبب موجب لإصلاح هذه العيوب. وهذا ما ذهب إليه نادي قضاة لبنان في تصريحه أمس على صفحة الفايسبوك. فبعدما اعتبر التجاذبات والمهاترات السياسية حول محاسبة القضاة مدعاة للخجل والغضب، رأى أن هذه التجاذبات تثبت مرة أخرى الحاجة الماسة إلى إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية. ومن دواعي فخر “المفكرة” أنها كانت سباقة إلى استشراف أهمية هذا الإصلاح، من خلال العمل على صياغة اقتراح قانون لتثبيت استقلال القضاء وشفافيته. على أمل أن يشق هذا الاقتراح طريقه إلى المناقشة الجدية.

 


[1]  جويل بطرس. تطهير القضاء 1965-1966 (1): قانون رفع الحصانة عن القضاة. المفكرة القانونية، العدد 36، شباط 2016

[2]  وقد تطرق الوزير الراحل فؤاد بطرس الى هذه المسألة في مذكراته كاشفاً انه قرر ترك السلك القضائي بعد رحيل الفرنسيين عن لبنان بسبب تفشي الفساد في القضاء، بطرس، فؤاد. المذكرات. بيروت: دار النهار، 2003.