أصدر قاضي الأمور المستعجلة في جديدة المتن أنطوان طعمة بتاريخ 8/6/2017 قرارا بمنع وسائل الإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني التداول في الجوانب التحقيقية لقضية موت فتاة في مستشفى نادر صعب تحت طائلة تسديد غرامة قدرها خمسون مليون ليرة لبنانية عن كل مخالفة. ويذكر أن هذه القضية بدأت فصولها مع موت السيدة -وعمرها 33 سنة (وهي أم لطفلتين)– أثناء خضوعها لعملية تجميل في المستشفى المذكورة، وقد حظيت باهتمام لافت من قبل الإعلام والرأي العامّ. وبعدما ذكر القرار بأنه يجب أن تمارس الحرية بمسؤولية بشكل لا يؤدي إلى الإضرار بالغير، انتهى إلى إصدار قراره بمنع التداول وذلك حفاظا لمصلحتين حسبما جاء فيه، هما "حرمة الموت" و"منع "التأثير على مسار التحقيق (الذي يجريه القضاء ونقابة الأطباء)". ويلحظ أن القاضي اكتفى بالقول بأن الإعلام يتداول القضية بشكل مستمر من دون أن يبين في حيثيات قراره أي إساءة لأحد في هذه القضية.
وهذا القرار، الذي يشكل مثالاً إضافياً على توجه عدد من قضاة الأمور المستعجلة إلى ضبط حرية التعبير على نحو استباقي، يقبل الإنتقاد من زوايا عدة، أبرزها أنه يكرس قاعدة تنظيمية أكثر من كونه عملا قضائياً، وأنه يخلّ في جميع الحالات بمبدأ عدم جواز تقييد الحريات العامة ومنها حرية التعبير إلا في حال الضرورة وعملا بمبدأ التناسب.
قرار قضائي أم قاعدة تنظيمية؟
أبرز ما يميّز القرار موضوع التعليق عن سائر القرارات المشابهة والتي آلت إلى تقييد حرية التعبير حفاظا على مصلحة معينة، هو أنه لم يستهدف وسيلة إعلامية بعينها، إنما استهدف الوسائل الإعلامية كافة (المرئية والمسموعة والإلكترونية) من دون تسمية أي منها. ومن هذا المنطلق، جاء القرار بمثابة قاعدة عامة أو نص تنظيميّ لا ينحصر مفعوله على الأطراف المعنية بالقضية المعروضة على القاضي، إنما ينطبق على العامّة. وهذا التوجه إنما يخالف المادة 3 من قانون أصول المحاكمات التي تمنع على القاضي وضع أحكامه في صيغة الأنظمة. ويلحظ أن القاضي اكتفى لتعميم حكمه على هذا النحو بالقول بأن وسائل الإعلام تتداول بشكل مستمر بهذه القضية. وما يزيد هذا الأمر قابلية للإنتقاد هو أن القرار ذهب إلى تبرير فرض قيود على حرية التعبير بالحفاظ على مصالح لم تطلب أي جهة معنية الحفاظ عليها. وقد حصل هذا الأمر من خلال منع التداول في القضية حفاظاً على "حرمة الموت"، فيما أن الجهة صاحبة المصلحة للمطالبة بذلك أو للتشكي من المس بحرمة الموت وهم أهل الضحية، لم تطلب أيّ تدبير من هذا النوع. والأسوأ هو أن التدبير المتخذ قد يشكل في مفعوله تدبيراً مناقضاً لمصالح هذه الجهة التي قد تجد أن صون حقوقها يتطلب اللجوء إلى الإعلام، منعا للفلفة الملف أو لضمان تسريع التحقيقات فيه.
وبذلك، يكون القرار قد اتخذ طابعا تنظيميا، ليس فقط من حيث طابعه العام غير المحصور بأطراف معينين، إنما من حيث تبريره بحماية مصالح أطراف بمعزل وربما رغماً عنهم.
تقييد حرية التعبير خلافاً لمبدأي الضرورة والتناسب
النقد الثاني الذي يمكن توجيهه للقرار هو أنه أخلّ بشكل سافر بمبدأ التناسب والذي يفرض الموازنة بين المصلحة الواجب المحافظة عليها والضرر الذي قد ينجم عن التدبير المتخذ. فإذ حدّد المصالح المراد حمايتها بحرمة الموت ومنع التأثير على مسار التحقيق، فإن الحكم خلا من أيّ موازنة بين هذه المصالح والتدبير المتخذ.
فمن جهة أولى، خلا القرار من أي إشارة إلى المخاطر أو الآثار السلبية الناجمة عن التداول الإعلامي في هذه القضية، ولم يبين تاليا في أي حين درجة المخاطر الناجمة عن هذا التداول، على نحو يبرر التدخل الفوري والإستباقي لمنعه أو تقييده.
ومن جهة ثانية، خلا القرار من أي إشارة إلى مخاطر التدبير المتخذ (منع التداول في القضية) وما قد يتولد عنه من تأثيرات سلبية على حرية التعبير والمحاكمة العادلة. فكيف السبيل إلى الإحتكام إلى الرأي العام في حال ظهور بوادر واضحة على حصول تلاعب في التحقيقات أو إبطاء مقصود لها تمييعا للقضية وتمهيدا لإفلات الأشخاص المذنبين من العقاب، في ظل هذا المنع الشامل؟ وما يزيد هذا التساؤل إلحاحاً هو أمران: الأول الظروف الاجتماعية العامة والتي تتمثل في سواد ثقافة التدخل في القضاء وإفلات العديد من أصحاب النفوذ المالي أو السياسي من المحاسبة. والثاني، يتصل بظروف القضية بالذات. وللتذكير، كان الإعلام نجح قبل يوم واحد من تاريخ القرار بتظهير علاقة الصداقة القائمة بين المدعي العام القاضي داني شرابيه والشخص المشتبه به في القضية (نادر صعب)، الأمر الذي أدى عملياً إلى رفع الأول يده عن القضية وتاليا إلى ضمان حيادية التحقيقات وتصويب مسارها. ففي ظل هذين الإعتبارين، هل يقتضي إسكات الإعلام أم على العكس من ذلك الإعتراف بأهميته وحثّه على متابعة القضية منعا للفلفتها ومنعا لأي تدخل غير مشروع في التحقيقات لتحوير مسارها؟ وفي الإتجاه نفسه، أيهما يكون الأكثر إضراراً بمسار التحقيقات في قضايا مماثلة: الإعتراف بحرية التداول في هذه القضية أم منعه؟
والأسئلة نفسها تثور بشأن المصلحة الثانية المراد حمايتها وقوامها الحفاظ على حرمة الموت. فعدا عما سبق بيانه وعن عدم وضوح الرابط بين هذا الأمر ومنع التداول في الجوانب التحقيقية للقضية، يجدر التساؤل هنا أيضا أيهما الأكثر حفاظا على حرمة الموت: ضمان حقوق أهل الضحية من خلال جهوزية إعلامية لانتقاد أي التفاف أو محاولة التفاف حول قضيتهم، أم تجريدهم من إمكانية الإحتكام إلى الرأي العام عند الضرورة، مع ما قد يتأتى عن ذلك من استباحة لموت الضحية وذكراها، بعد شبهة استباحة حياتها؟
ثم، وعلى فرض وجود مخاطر من جراء التداول الإعلامي في هذه القضية، يسجل أن القرار أغفل أسئلة لا تقل أهمية، أبرزها السؤال فيما إذا كان هنالك وسائل أخرى كفيلة بتحقيق المصالح المرجو حمايتها وتكون أقلّ كلفةً من تقييد حرية التعبير. فألا يتضمّن قانونا العقوبات والمطبوعات وسائل كافية لردع أي شطط في هذا المجال بعد حصوله، أهم ما فيها أنها لا تؤدي إلى محاكمة النوايا واستباق أي تداول في القضية بمنعه؟ وثم، أليس بوسع المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى التدخل لتصويب أي خطأ أو شطط إعلامي؟ والأهم من كل ذلك، وعلى فرض وجود حاجة إلى قرار استباقي، فلماذا لا يقتصر تدبير المنع على وسائل الإعلام التي أبدت استهتارا في التعاطي مع هذه القضية فارتكبت عن قصد أو غير قصد شططا معينا في التداول في القضية، بدل تعميمه على جميع وسائل الإعلام (ومنها المفكرة القانونية)، بمعزل عن نواياها أو مدى جديتها أو اختصاصها في التداول مع قضايا مماثلة؟ ففي هذه الحالة، ألا يشكل التدبير المتخذ، أقله بحق هذا النوع من وسائل الإعلام، مسّا بجوهر حرية التعبير من دون أي مبرر؟
وختاما، تقتضي الإشارة إلى اتخاذ التدبير من دون ربطه بأي قيد زمني أو بفترة التحقيقات السرية مثلا، على نحو يزيد من طابعه الهجين.