قراءة هادئة لقرار التمييز الصادر في 1-7-2014: محاولة أولى لإلغاء عقوبة الإعدام قضائياً


2014-08-05    |   

قراءة هادئة لقرار التمييز الصادر في 1-7-2014: محاولة أولى لإلغاء عقوبة الإعدام قضائياً

في1-7-2014أصدرت محكمة التمييز[1]حكماً قضى بالإعدام للسيد ناصر الفارس لقتله الصيرفي محمد الناتوت في صيدا. وكان قد ترافع في هذه القضية كل من نقيب محامي باريس Pierre Olivier Sudوالمحاميين زياد عاشور ولينا العيّا من جمعية عدل ورحمة. وبنتيجة ذلك، أخذت القضية طابعاً عاماً، بحيث بدا سريعاً أن الهدف من ترافع النقيب الفرنسي تجاوز مسألة الدفاع عن ناصر الفارس، لتبلغ حد المطالبة باتخاذ قرار قضائي مبدئي باستبعاد عقوبة الإعدام في لبنان[2]. ورغم أن القرار لم يستجب لطموحات الدفاع، إلا أن تأثيره بدا واضحاً في مجالين اثنين:

الأول من خلال الرأي المخالف للمستشارة غادة عون عبرت فيه عن ضرورة إلغاء عقوبة الإعدام لتعارضها مع المواثيق الدولية وحقوق الإنسان[3]، والثاني من خلال اضطرار أكثرية المحكمة لتعليل موقفها بشأن وظيفة العقوبة ومدى توافر الأسباب الموجبة بإسهاب، وهو تعليل ما كان ليطوره لو لم تعط هذه القضية البعد العام والإستراتيجي المذكور. ونظراً لأهمية هذه الخطوة والجدلية التي شكّلها الحكم، نرى أنه من المجدي تقديم قراءة نقدية هادئة للخطوة الحاصلة على ضوء تجارب عالمية مشابهة وأسباب نجاحها أو قصورها في هز قناعات أعضاء المحكمة، وذلك من باب التفكير بإمكانيات تطويرها.

هل شكلت هذه الحالة مدخلاً ملائماً لبدء التقاضي الهادف الى إلغاء عقوبة الإعدام؟
يرتكز التقاضي الهادف الى تقديم دعوى من قبل منظمة أو فرد كجزء من خطة لتحقيق تغيير قانوني واسع النطاق من خلال القضاء[4]. وغالباً ما يولي الناشطون أو المحامون أهمية كبرى لعملية اختيار الحالة التي تكون الأكثر ملاءمة لتمثيل القضية وتحسيس القاضي والرأي العام على أهمية التدخل لتغيير القواعد السائدة.

ومع التسليم بأهمية تقديم المساعدة القانونية لأي محتاج، ولا سيما إذا كان أجنبياً ومعدماً، يجدر التساؤل هنا حول مدى ملاءمة اختيار هذه الحالة بالذات كبداية للتقاضي الهادف الى إلغاء عقوبة الإعدام من خلال القضاء. فمن الصحيح أن المتهم يتمتع بالصفات التي قد تؤدي إلى تخفيف العقوبة والتعاطف معه، ومنها صغر سنه، وظروفه الاجتماعية الصعبة وعدم وجود أي إسباقيات بحقه وسلوكه الحسن في السجن. إلا أنه بالرغم من هذه “الصفات” المهمة طبعاً، ترشح القضية عن خصائص أخرى قد تقوّض إمكانيات تعاطف الرأي العام اللبناني مع حالته. فهو سوري الجنسية، قتل صرّافاً لبنانياً من عائلة معروفة وميسورة بهدف سرقته وطعنه 11 طعنة اطلع عليها الرأي العام على موقع youtube، وهو يحاكم في ظروف اجتماعية يسودها رهاب اجتماعي إزاء تكاثر أعداد اللاجئين السوريين الى حد يقارب “رهاب الأجانب” أو الـ”Xenophobia“. وهو فضلاً عن ذلك، عمد مباشرة بعد قتل الشخص المذكور الى ممارسة الجنس مع امرأتين تعملان في الدعارة قبلما يسعى الى الفرار خارج لبنان.

وكان ربما من المفيد التقاضي ضد هذه العوامل أو بعضها كأن يتم ذلك في قضية تتصل بحقوق الأجانب أو بالآراء المسبقة ضدهم، أو في قضية تتصل بالأخلاق العامة لمناقشة الآراء المسبقة المتصلة بممارسة الجنس خارج الإطار التقليدي أو المباح (الزواج): أما أن استخدام هذه القضية كمدخل لإلغاء عقوبة الإعدام فهي مسألة قد تكون في غاية الصعوبة. ويخشى، في ظل العوامل السلبية تلك، أن يؤدي التوجه الى الرأي العام الى عكس ما يرغب به الدفاع، وتحديداً الى تعزيز القناعة بعقوبة الإعدام ومعه تعزيز الآراء المسبقة ضد الأجانب (الذي يظهرون جد خطرين وقتلة) والأعمال المخلة بالآداب العامة (الرذيلة التي تبرر القتل)، بدل تحسيس الرأي العام الى مخاطر هذه العقوبة وطابعها غير الإنساني.

في النقص في مقاربة الوضع النفسي والاجتماعي للمتهم
على صعيد آخر، من المجدي إعادة قراءة الدفاع والحكم ومقارنتهما مع مرافعات أخرى قدمت في بلدان أخرى، مثل الولايات المتحدة حيث قضايا عديدة قدمت أمام المحكمة العليا ضد الإعدام.

وقد ظهر ضعف هذه المقاربة من خلال إعلان أكثرية المحكمة غياب أي سبب تخفيفي في وقائع القضية، بعدما تم التركيز على واقعة ذهاب المتهم إلى الكباريه مباشرة بعد الجريمة، ما يثبت خطورته “ويجرده من أدنى المشاعر الإنسانية”، فامتلأ الحكم  بمواقف قيمية في هذا المجال[5]، واصفاً فعله ذلك “بالرذيلة”. وقد كان من المهم على ضوء ذلك لو عمل الدفاع على تفسير الأبعاد النفسية لتوجه المجرم إلى الكباريه في إثر جريمته بدلاً من تفادي الخوض في ذلك. فلزوم الصمت هنا أتاح للقاضي أن يبقى على مواقفه القيمية بهذا الخصوص، والى حد كبير الى تجاوز الأسئلة المتصلة بعقوبة الإعدام. فماذا يعني أن يقصد شخص كابريه لممارسة الجنس مباشرة بعد قتل شخص وسرقة أمواله بدل العمل على الهرب الى مكان بعيد عن موقع الجريمة؟ وما هي الإضاءات التي نستمدها من هذا الفعل حول الوضع النفسي للمتهم أو حول نياته أو حول مدى توافر عنصر العمد في القتل؟
فالمقاربة الاجتماعية والنفسية للقانون تؤمن “أنسنه” أكثر للقضية، وهي ضرورية لنقض النظرة السائدة للشخص المجرم والآراء المسبقة التي تصوره على أنه شر مطلق يجب التخلص منه. كما من شأنها حكماً أن تشكل في حال تعميقها وتوضيحها مدخلاً للقاضي لإظهار نسبية مسؤوليته وتالياً عدم ملاءمة إنزال عقوبة مطلقة بحقه. وبالطبع، لا تؤول هذه العوامل الى تبرئة المتهم أو التخفيف من بشاعة الجريمة المرتكبة، ولكنها توفر للقضاة أبعاداً ضرورية كي يحددوا العقوبة على ضوء مجمل أبعاد القضية، من دون الاكتفاء بأبعادها الظاهرة[6]. فالهدف هنا هو وضع حياة المتهم في إطار أوسع والوصول إلى فهم كيفية تأثير تجاربه الحياتية والنفسية عليه، خاصة أن العديد من الدراسات[7] ركزت على ضرورة أخذ هذه الخلفية بعين الاعتبار، أي طفولته وظروف حياته، حيث برهن عدد من علماء الاجتماع أن من عانى طفولة صعبة أو مكبوتة هو أكثر عرضة لأن ينمي الميول الإجرامية، فتحدث العديد عن كون هؤلاء المجرمين ضحايا محيطهم وظروفهم الصعبة، حتى ذهب أحد الباحثين للحديث عن ضرورة وضع هذه الظروف كمعيار أساسي للأسباب المخففة لعقوبة الإعدام، مشيراً إليها “بالظروف الاجتماعية الفاسدة”[8](The Rotten Social Background Defense).  وإن أخذ المحكمة بهذه المعايير هو نظرة للمتهم ليس فقط كمرتكب لجريمة في يوم من حياته، بل كمن تعرّض لظلم وضغوط اجتماعية أدت الى تقييد إرادته وتشويشها وجعلت بالضرورة مسؤوليته نسبية[9].

خطورة الجرم بمعزل عن السياق اللبناني…
إضافة إلى غياب مقاربة الوضع الاجتماعي والنفسي للمتهم، يسجل أيضاً غياب أي مقاربة لخطورة الجرم على ضوء الظروف الاجتماعية السائدة في لبنان. فقد ركّز المحامون اللبنانيون على سرد المعطيات الواقعية والقانونية الخاصة بالجريمة وتولى من بعدهما النقيب الفرنسي مهمة مناقشة مدى ملاءمة عقوبة الإعدام من الناحية المبدئية، الفلسفية والقانونية. وتبعاً لذلك، وما عدا تذكير هذا الأخير بأن نظام محكمة الحريري استبعد عقوبة الإعدام عما يعد أحد أخطر الجرائم في لبنان، لم يتطرق أي من محامي الدفاع إلى التفاوت الحاصل في السياسة العقابية في لبنان: فكيف يعقل أن يكون قد صدرت قوانين عفو عام، أعفت عن مجرمين ضد الإنسانية، وأن يعم جو واسع من اللامساءلة في مجمل أرجاء الدولة من جهة، والتمسك في أعمال مبادئ المسؤولية والعقوبة المطلقة على حفنة من الأشخاص البائسين المعدمين من جهة أخرى؟ ثم، كيف تقيم خطورة الجريمة في ظل ظروف باتت فيها التفجيرات الإرهابية الآيلة الى حصد أكبر عدد من المدنيين في يوميات اللبنانيين؟

وماذا بشأن مساهمة نقيب محامي باريس في المرافعة؟
وإزاء ذلك، من المجدي التفكير في مدى صوابية قدوم النقيب الفرنسي للمرافعة في هذه القضية بالذات. فبالرغم من كون هذه الخطوة مهمة ولافتة من حيث المبدأ، وخصوصاً لجهة لفت الأنظار إلى القضية، فإنه يجدر التساؤل في ما إذا كانت قد أدت إلى مفعول عكسي، في هذه القضية التي ربما ليست الأنسب لإطلاق النقاش حول عقوبة الإعدام. وهذا ما يؤشر اليه ربما قول رئيس المحكمة خلال الجلسة أن القضية “أعطيت أكثر من حجمها”.

ختاماً، من الضروري التذكير بأن النجاح في التقاضي الهادف لا يكون فقط من خلال الحصول على حكم إيجابي[10]. فحتى في حال خسارة القضية، يمكن استثمارها بهدف خلق خطاب عام للمطالبة بإلغاء العقوبة، أو توعية الرأي العام حول وجوب تغيير أمر ما، وذلك من خلال إعطاء مثال واقعي وحقيقي. وهذا ما شهدناه مثلاً مع قضية رولا يعقوب، حيث شكل القرار بمنع محاكمة زوجها في جريمة قتلها مناسبة للناشطين والمطالبين بإقرار قانون لحماية المرأة من العنف الأسري لكسب تأييد شعبي أكبر. وبالطبع، من شأن الرأي المخالف للمستشارة غادة عون أن يشكل علامة فارقة على طريق إلغاء عقوبة الإعدام.

* باحثة، من فريق عمل المفكرة القانونية

نشر هذا المقال في العدد | 19 |تموز/يوليو/  2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

حضرات النواب، حدثونا عن إنتاجيتكم



[1] الغرفة السادسة الجزائية وهي تتألف من القضاة جوزيف سماحة رئيسا وغادة عون وصبوح سليمان مستشارين.
[2]لمىكرامة،تقاضاستراتيجيلبنانيفرنسيضدالإعدام: وسائلعملجديدةأمامالمحاميالمناصر، المفكرة القانونية
[3]للاطلاع على الحكم وتعليق عليه، يراجع: علاء مروة، ………………،منشور في ….. على موقع المفكرة القانونية
[4]لمى كرامة، “قضايا تبحث عن محامين، المحامون المناصرون للقضايا الاجتماعية في لبنان، دراسة أولية لعالم مهني هامشي”، المفكرة القانونية 2014 (التقرير الكامل في طور النشر)
[5]راجع مقال ع. مروة المذكور سابقا
[6]Craig Haney, Symposium,Social Context of Capital Murder: Social Histories and the Logic of Mitigation, 35 SantaClaraL. Rev. 547 (1995). Available at: http://digitalcommons.law.scu.edu/lawreview/vol35/iss2/7
[7]المرجع السابق
[8]Delgado Richard, “Rotten Social Background”: Should the Criminal Law Recognize a Defense of Severe Environmental Deprivation? (1985). Law & Inequality, Vol. 3, (1985). Available at: http://ssrn.com/abstract=2111695
[9]Kirchmeier Jeffery L., A Tear in the Eye of the Law: Mitigating Factors and the Progression Toward a Disease Theory of Criminal Justice. Oregon Law Review, Vol. 83, 2004. Available at: http://ssrn.com/abstract=914180
[10]Depoorter, Ben, The Upside of Losing, Columbia Law Review, Vol. 113, p 817, 2013; UC Hastings Research Paper No. 37. Available at: http://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=2263498
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، قرارات قضائية ، الحق في الحياة ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني