قراءة في نتائج استمارة حول الأخلاقيات القضائية: قضاة تونسيون كما يتصورون مهنتهم

،
2021-01-07    |   

قراءة في نتائج استمارة حول الأخلاقيات القضائية: قضاة تونسيون كما يتصورون مهنتهم
(ا ف ب)

منذ نشأتها، تُعلّق “المفكّرة القانونية” أهمّيّة كبيرة على بيئة المهن القانونية وفهمها لوظائفها وأخلاقيّاتها. وهي ترى أنّ هذه البيئة تُشكّل عاملاً أساسياً في تعزيز احتراف هذه المهن وقدرتها على تطوير وظائفها التي وُجدَتْ مبدئياً من أجلها: ضمان حقّ الدفاع عن النفس بالنسبة إلى المحامين، وحماية الحقوق والحرّيّات ضمن منظومة عادلة بالنسبة إلى القضاة. من هذا المنظور، من شأن هذه البيئة أن تشكّل عاملاً أساسياً في مواجهة التدخّلات الحاصلة من خارج هذه المهن بهدف حرفها عن صلب مهامّها. وعليه، رأت “المفكّرة القانونية” أهمّيّة في إطلاق تفكير مشترك في المنطقة العربية – وبخاصّة في الدول التي تعمل فيها، لبنان وتونس والمغرب – في شأن الأخلاقيّات القضائية. وقد زاد إلحاح هذه الفكرة مع إقرار قوانين لتحقيق استقلاليّة القضاء في المغرب وتونس تنزيلاً للإصلاحات القضائية فيهما، تحديداً بعدما أُنيط بالمجالس العليا المُنشأة بموجبها وضع مدوّنة للأخلاقيّات القضائية. وعليه، تعاونت “المفكّرة” مع شركائها في تونس والمغرب لإنجاز استمارة هي بمثابة دعوة لكلّ قاضٍ إلى إبداء رأيه في شأن مدوّنة الأخلاقيّات، سواء لجهة المنهجيّة الواجب اعتمادها أو لجهة شكلها أو مضمونها. وفي هذا الاتّجاه، تمّ ملء الاستمارة في 2018 بجهود عددٍ من القضاة المشكورين جدّاً، وذلك من قبل 333 قاضياً تونسياً. ولئن تقرّر الاحتفاظ بـ254 استمارة فقط بعدما اتّضح أنّ ثمّة خللاً في ملء سائر الاستمارات بشكل مناسب، يبقى العدد مُعبِّراً حيث أنّه يزيد عن نسبة 10% من مجموع قضاة تونس. وتأتي هذه المقالة لتحلّل نتائج هذه الاستمارة، على أمل أن تسهم في عمليّة صياغة مدوّنة الأخلاقيّات الموعودة.

وقبل المضيّ في ذلك، يجدر التذكير بأنّ “المفكّرة القانونية” صاغَتْ، بالتعاون مع شركائها، تصوّراً تجديدياً للأخلاقيّات القضائية على نحو يجعلها أداة أكثر فعاليّة وقدرة على تطوير البيئة القضائية. فعلى نقيض التوجّه العامّ الذي ينتهي غالباً إلى رسم صورة القاضي النموذجي على أنّه شخص خارق ذو مواصفات غير اعتيادية وقادر بفعل ذلك على مواجهة جميع الضغوط والتدخّلات بقوّته الذاتية، يدعو هذا التصوّر إلى إعادة رسم صورة القاضي النموذجي انطلاقاً من مواصفات الإنسان العادي، بما له من جوانب قوّة وضعف. فإذا تمّ ذلك، توجّب تحديد الموجبات الأخلاقية القضائية على النحو الذي يمكّن القاضي من ممارسة دوره بأفضل الطرق. ومنها ما يناقض تماماً ما ذهب إليه العديد من المدوّنات في المنطقة العربية. وبذلك، ننتقل من نظام الأخلاقيّات الفردية التي يتعيّن على كلّ قاضٍ، مهما بلغت التحدّيات أمامه، المحافظة عليها منفرداً وبصمت إلى نظام الأخلاقيّات الجماعية التي يجدر بالجسم القضائي برمّته تطوير آليّاته للمحافظة عليها، بما في ذلك من تلاقٍ وتفاعل وتضامن وتآزر؛ أو ننتقل من نظام تجريد القاضي من حرّيّة الكلام والتجمّع باسم موجب التحفّظ إلى نظام تشكّل فيه حرّيّة القاضي إحدى الضمانات الأساسية للمحافظة على استقلاليّته.

هذا تصوّر “المفكّرة القانونية” الذي أسمته التصوّر التجديديّ. ولكن ماذا عن تصوّر القضاة التونسيين؟ هذا ما سنحاول استكشافه في قسمين: الأوّل مخصّص للأسئلة التمهيدية للمنهجيّة الواجبة في صياغة المدوّنة، والثاني للأسئلة المتّصلة بجوهر القواعد الأخلاقية.

الفصل الأوّل

الأسئلة التمهيدية لصياغة المدوّنة

  • أي نموذج لمدوّنة الأخلاقيّات القضائية؟

من الأسئلة الأولى التي تضمّنتها الاستمارة، سؤال حول النموذج الذي يرغب قضاة العيّنة اعتماده في تحرير مدوّنة الأخلاقيّات القضائية. فهل هم يرغبون بمدوّنة ذات طابع توجيهي أم مدوّنة تشكّل أحكامُها أساساً للملاحقة التأديبية أم مدوّنة تحتمل المزاوجة بين القواعد التوجيهية والتأديبية، كأن تنحصر القواعد التأديبية في القواعد التي تتّسم بدرجة معيّنة من الخطورة أو القواعد التي تنصّ عليها القوانين صراحة وبشكل دقيق؟

وقد جاءت الغالبيّة النسبية للإجابات في مصلحة الطابع التوجيهي للمدوّنة (39%). وفيما انعدمت تقريباً نسبة الراغبين بمدوّنة ذات طابع تأديبي صرف (6%) أبدى عدداً من القضاة قبولهم بمدوّنة تتضمّن بعض القواعد ذات القوّة التأديبية، إمّا بفعل خطورتها (22%) وإمّا في حال استنادها إلى نصّ قانوني يعرّف عنها بصراحة وبشكل دقيق (31%). نستشفّ من ذلك ميلاً لدى القضاة التونسيين إلى اعتماد مدوّنة توجيهية وإرشادية، تشكّل بالنسبة إليهم مرجعاً يسترشدون به لتحديد السلوكيّات الأكثر ملاءمة، وفي الآن نفسه توجّساً حيال القواعد التي قد تشكّل سيفاً مصلتاً عليهم فلا يقبلون بها إلّا إذا كانت محدَّدة قانوناً وبدقّة أو إذا كانت محصورة في المسائل التي ترشح عن خطورة معيّنة.

كما نستشفّ التوجّه نفسه من إجاباتهم عن سؤال آخر يتّصل بمدى وجوب التزام المسؤولين القضائيين بقواعد أكثر صرامة. ففيما وافقت غالبيّة القضاة على هذا الموجِب (152 قاضياً؛ 60%)، عزى 70% منهم ذلك إلى المثال الذي يجب أن يشكّله هؤلاء لسائر القضاة مقابل (57%) من هؤلاء عزوا هذا الواجب إلى التأثير الكبير لتصرّفات المسؤولين على المجتمع. فكأنّما القضاة يأملون من المسؤول أن يكون مثالاً يحتذون به أكثر من كونه واجهة للقضاء أمام الرأي العامّ. ومؤدّى ذلك هو التعبير عن الحاجة إلى المثال الذي بإمكان القضاة اتّباعه.

تشكّل إجاباتهم في شأن تصوّرهم لأهداف المدوّنة، الذي نعود إليه أدناه، دليلاً آخر على اختيار النموذج التوجيهي. ففيما رأى 45 من قضاة العيّنة أنّ هدفها الأكثر أهمّيّة هو توثيق قواعد أخلاقية نابعة من روح الجسم القضائي وممثِّلة له ضماناً لحسن نفاذها، رأى 5 منهم فقط أنّ الهدف الأكثر أهمّيّة هو السماح للمؤسّسات القضائية أو السلطات الأخرى بمساءلة القضاة.

ونستشفّ التوجّه نفسه من المفاضلة التي عبّرت عنها الإجابات في ما خصّ شكل التدخّل الذي يُفترض بالقاضي اعتماده إزاء المخالفات التي يرتكبها أحد زملائه. فقد رأى 109 قضاة وجوب التدخّل في هذه الحالة عن طريق النصح والتوجيه والحوار، علماً أنّ 45 منهم صنّفوا هذا الخيار خياراً أوّلاً. في المقابل، انخفض عدد الذين فضّلوا التشكّي إلى السلطات المعنيّة إلى 82 قاضياً. وحتّى الذين فضّلوا سلوك طريق التشكّي آثروا أن يؤدّي تحرّك هذه السلطات إلى إقناع القاضي بضرورة العدول عن تصرّفه وليس معاقبته (55 من أصل 82).

ويُلحظ في هذا السياق إبداء قضاة العيّنة رغبة واضحة في أن يتّسم الطابع التوجيهي للمدوّنة بالوضوح والدقّة. وهذا ما نستشفّه من الجواب عن السؤال الثامن حول درجة التفصيل الواجب اعتمادها عند صياغة المدوّنة. إذ مالت غالبيّة القضاة إلى وجوب اعتماد الدقّة والوضوح (49%)، فيما اختارت نسبة ضئيلة منهم فرضيّة أن تُصاغ بطريقة توجيهية تُبقي الباب مفتوحاً أمام التفسير والتساؤل (14%). ويُلحظ أيضاً، أنّ 30% من القضاة اتّخذوا موقفاً وسطياً حيث أمِلوا أن تتمّ الصياغة بطريقة توجيهية إنّما مع اعتماد الدقّة في الأمور المتّصلة بالحرّيّات أو التحدّيات الأساسية. وكان لافتاً أنّ 59% من الإجابات كشفت عن رغبة بإرفاق القواعد الأخلاقية بأمثلة توضيحية. كما نستشفّ التوجّه الغالب لتفادي أيّ غموض في المدوّنة من 98% من إجابات العيّنة عن السؤال العاشر حول المؤسّسة المعنيّة بتوضيح الواجبات الأخلاقية في حال وجود شكّ أو التباس بشأنها. فبمعزل عن المفاضلة التي عبّر عنها قضاة العيّنة بين المرجعيّات التي يمكنها أداء هذا الدور، سلّمت الغالبيّة العظمى من قضاة العيّنة بضرورة وجود هكذا مؤسّسة.

  • أيّ هدف لمدوّنة الأخلاقيّات القضائية؟

طرحنا السؤال حول الهدف المنشود للمدوّنة في مستهلّ الاستمارة (السؤال الأوّل) وذلك تبياناً لأهمّيّته وحرصاً على الحصول على العدد الأكبر من الإجابات. وقد أعطينا للقضاة إمكانيّة اختيار أكثر من إجابة طالبين منهم في هذه الحالة ترتيب الأهداف التي يختارونها وفق أهمّيّتها بالنسبة إليهم.

ويُبيّن الجدول أدناه أنّ قضاة العيّنة غلّبوا في خياراتهم الأولى بُعدها التعليمي والتوجيهي والتوعوي للقضاة على سائر الأبعاد والأهداف المطروحة. فإذا جمعْنا الإجابات التي حدّدت خياراً أوّلاً أحد الأهداف المتمثّلة في إتاحة المجال أمام القضاة لتعميق التفكير في أدوارهم (23) واقتراح قواعد سلوكية وأخلاقية للقضاة في حياتهم المهنية والشخصية (26) وتوثيق قواعد أخلاقية نابعة من روح الجسم القضائي وممثِّلة له، ضماناً لحسن نفاذها (45) فإنّنا نحصل على مجموع 94 (37% من العيّنة). وتندرج جميع هذه الأهداف، رغم الاختلافات بينها، عملياً في اتّجاه إطلاق ورشة داخلية لتطوير القيم القضائية والتباحث بين القضاة بشأنها.

وتمثّل الاتّجاه الثاني الذي ذهب إليه قضاة العيّنة في استخدام المدوّنة أداةً لتأمين ثقة الجمهور بالقضاء. ويجد هذا الاتّجاه تفسيره في إرادة واسعة لدى القضاة باستعادة ثقة الجمهور بعدما بدا القضاء أداة في يد الديكتاتورية في مواجهة خصومها السياسيين في فترة ما قبل 2011. وكان هذا الاتّجاه الخيار الأوّل لـ73 قاضياً (29%)، كما اختاره 145 قاضياً ضمن الخيارات المناسبة.

أمّا الاتّجاه الثالث، فتمثّل في رغبة قضاة العيّنة في استخدام المدوّنة أداةً للتأكيد على حقوق وحرّيّات القضاة. وكان هذا الاتّجاه الخيار الأوّل لـ37 قاضياً، كما اختير ضمن الخيارات المناسبة من قبل 143 قاضياً. ويعكس اهتمام القضاة بهذا الهدف قناعتهم بأهمّيّة التمتّع بالحرّيّة ضمانةً لاستقلاليّتهم. وهذا ما سنعود إليه لاحقاً.

الهدفعدد الإجابات التي أوردت الهدف كخيارعدد الإجابات التي أوردت الهدف كخيار أوّل
تأمين ثقة الجمهور بالقضاء14573
توعية وإطلاع الجمهور على حقوق وواجبات القاضي11111
إتاحة المجال أمام القضاة لتعميق التفكير في أدوارهم12623
اقتراح قواعد سلوكية وأخلاقية للقضاة في حياتهم المهنية والشخصية12226
توثيق قواعد أخلاقية نابعة من روح الجسم القضائي وممثِّلة له، ضماناً لحسن نفاذها13945
التأكيد على حقوق وحرّيّات القضاة، بالتوازي مع واجباتهم14337
السماح للمؤسّسات القضائية (مجلس القضاء الأعلى أو التفتيش القضائي) بمساءلة القضاة أو السلطات الأخرى (وزارة العدل) بذلك845

وتُظهر الخيارات المبيّنة أعلاه التي عبّر عنها القضاة توجّهات متكاملة رغم اختلافها: فمنها ما هو معرفي يؤسّس لقضاء أكثر علماً وتفكيراً، وتالياً التزاماً بأخلاقيّات المهنة، ومنها ما هو تواصلي يؤسّس لعلاقة أفضل بين القضاء والمواطنين، ومنها ما هو تحرّري يعزّز قدرات القضاة على الدفاع عن استقلاليّتهم. وتبدو هذه التوجّهات متناسبة مع الاستحقاقات الناتجة عن تحوّلات 2011 حيث وجد القضاء نفسه أمام ضرورة تطوير أدائه وتحسين صورته إلى جانب انخراطه في معركة استقلال القضاء والدفاع عنه.

في المقابل، أبدى قضاة العيّنة توجّساً من استخدام المدوّنة أداة للمساءلة القضائية أو الشعبية. وهذا ما نتبيّنه من قلّة عدد القضاة الذين اختاروا السماح للمؤسّسات القضائية بمساءلة القضاة (5) أو توعية وإطلاع الجمهور على واجبات القاضي (11) خياراً أوّلاً.

  • مَن يشارك في صياغة مدوّنة الأخلاقيّات القضائية؟ ومتى؟

في هذا الصدد، طرحنا ثلاثة أسئلة تتّصل في الآليّة التي يُفترض اعتمادها لوضع مدوّنة للأخلاقيّات القضائية. فمع التسليم بوجوب تشريك القضاة في وضع المدوّنة، تمحورت الأسئلة حول شكل هذه المشاركة وتوقيتها. فهل تتمّ من خلال استشارات فردية آلياً أو مباشرة، أم من خلال جمعيّات عمومية أو اجتماعات لعموم القضاة على صعيد كلّ محكمة، أو من خلال أيّ آليّات أخرى قد يجدها القاضي المُشارك في ملء الاستمارة مناسبة؟ ومن جهة أخرى، في أيّ مرحلة ينبغي إشراك القضاة في إعداد مشروع المدوّنة، وتحديداً في ما إذا كان ينبغي حصول ذلك قبل صياغتها أو بعدها أو في كلا المرحلتين. في السياق نفسه، تضمّنت الاستمارة أسئلة حول طريقة إشراك منظّمات المجتمع المدني في هذا الجهد.

  • حماس للمشاركة في صياغة مشروع المدوّنة

عند النظر في إجابات قضاة العيّنة، يتبيّن أنّ الغالبيّة عبّرت عن رغبتها في المشاركة في استشارات فردية وعدم الاكتفاء بالاستشارات الجماعية. كما عبّرت الغالبيّة الكبرى عن رغبتها في حصول المشاركة في مرحلتَيْ قبل الصياغة الأوّلية للمدوّنة وبعدها، ممّا يؤكّد مرّة جديدة إرادة القضاة في المشاركة الفعّالة في إنجازها. وفي التفاصيل، تفيدنا أرقام العيّنة بالآتي:

  • في خصوص كيفيّة المشاركة في الاستشارة، آثر 103 قضاة أن تتمّ بشكل فردي حصراً، وآثر 88 قاضياً أن تتمّ جماعياً حصراً، فيما آثر 52 من مجموع القضاة أن تتمّ الاستشارات فردياً وجماعياً. وعليه، يكون 155 قاضياً (61%) قد عبّروا عن رغبتهم بأن تتمّ استشارتهم بصورة فردية.
  • في خصوص المرحلة التي يتوجّب فيها إشراك القضاة، آثر 156 قاضياً (61%) من قضاة العيّنة أن تحصل المشاركة قبل صياغة مشروع المدوّنة وبعدها، وآثر 71 قاضياً (28%) أن تحصل الاستشارة قبل وضع المدوّنة حصراً، فيما آثر قاضيان (1%) فقط أن تحصل الاستشارة بعد وضع المدوّنة حصراً. وعليه، يظهر أنّ 89% من القضاة أعلنوا رغبتهم بالمشاركة قبل صياغة مشروع المدوّنة حصراً أو قبل وبعد هذه الصياغة.

وعلى ضوء هذه الإجابات، يمكننا استخلاص ما يلي:

  • ثمّة نيّة واضحة لدى القضاة بالمشاركة فردياً وجماعياً، بصورة قَبْلية وبَعْدية في وضع مدوّنة الأخلاقيّات القضائية. وتتأكّد رغبة القضاة بمشاركة ناشطة وفعّالة عبر إصرار غالبيّتهم على أن تتمّ استشارتهم فردياً وعدم الاكتفاء باستشارة ممثّلين عنهم، ما يعكس رغبة في مزيد من الديمقراطية المباشرة داخل القضاء في هذا الخصوص. وتتعزّز الأدلّة على هذه الرغبة من خلال إصرار غالبيّة كبرى على المشاركة القَبْلية (89%)، ما يعبّر عن شعور القضاة بأنّ الاستشارة البَعْدية غالباً ما تأخذ طابعاً شكلياً أو تكون قدرتها على التغيير محدودة. ونجد هذه النيّة في المشاركة الفعلية أيضاً في إجابات القضاة عن السؤال رقم 26 من الاستمارة الذي يتناول كيفيّة تطوير القاضي لمعارفه ومواكبته المستجدّات القضائية والقانونية، حيث عبّر العدد الأكبر نسبياً من القضاة على أهمّيّة المبادرة الفردية في اكتساب المعارف، سواء من خلال المطالعة (كتب حقوقية، أوضاع محيطه الاجتماعي) أو عبر البحث العلمي أو من خلال المؤسّسات التعليمية بناء على مبادرة شخصية” (116 قاضياً؛ 46%).
  • الرغبة بالتمتّع بأشكال من الديمقراطية المباشِرة لا تدلّ بالضرورة على توجّس إزاء الديمقراطية التمثيلية والمؤسّسات التي قد تفرزها (مجالس قضائية مُنتخَبة أو جمعيّات قضائية). والدليل على ذلك هو أنّ نسبة القضاة الذين آثروا أن تتمّ المشاركة جماعياً كانت بدورها مرتفعة نسبياً.
  • مَيل إلى إشراك الجهات المتخصّصة

وجاء السؤال الثالث على النحو التالي: ” ضماناً لإشراك المجتمع المدني في إعداد مدوّنة الأخلاقيّات القضائية، بأيّة طريقة ينبغي تنظيم ذلك؟” وقد فُتح المجال أمام القضاة لاختيار أكثر من إجابة.

وإذ اختار العدد الأكبر منهم “السماح للأشخاص والمنظّمات غير الحكومية المتخصّصة بالمشاركة في العمليّة المنظِّمة لإعداد المدوّنة” (53%)، تمّ تغليب هذا الخيار على خيارات أخرى من قبيل “تشجيع وسائل الإعلام على متابعة مسار إعداد المدوّنة لغاية جعلها شأناً عامّاً” (30%)، و”استطلاع الرأي العامّ” (23%)، و”تمكين كلّ شخص الاطّلاع على مشروع المدوّنة وإبداء الرأي” (20%). وعليه، يبرز “اختصاص” أشخاص المجتمع المدني شرطاً لإشراكهم في إعداد المدوّنة.

يتوافق هذا الموقف مع إجابات قضاة العيّنة عن أسئلة أخرى من الاستمارة تُظهر رغبتَهم في المزيد من الدقّة، مثلاً في درجة التفصيل الواجب اعتمادها عند صياغة مدوّنة الأخلاقيّات (السؤال 8).

وعلى عكس ذلك، تُظهر النسبة الضئيلة للراغبين بإشراك الرأي العامّ في مناقشة المدوّنة عن توجّس القضاة حياله. وربما يجد هذا التوجّس ما يبرره في فترة لا يزال فيها القضاء التونسي يعمل لاستعادة ثقة المتقاضين به وتحسين صورته أمامهم، بخاصّة بعد تغيّرات 2011. وهذا ما عبّرت عنه الغالبيّة النسبية من إجابات قضاة العيّنة والتي اعتبرت “تأمين ثقة الجمهور بالقضاء” هدفاً أوّلاً لها (73).

الفصل الثاني:

مزايا القضاة المُفترَضة والواقعية

ما هي أهمّ الأخلاقيّات القضائية؟ وما هي الأخلاقيّات التي تواجه تحدّيات أكبر؟

في هذا الصدد، طرحنا سؤالين على قضاة العيّنة. تناول الأوّل ماهيّة القواعد الأخلاقية التي يجب على القاضي التمتّع بها للقيام بمهامّه وفق أهمّيّتها. وتناول الثاني القواعد التي ينبغي إيلاؤها عناية أكبر لتجاوز العوائق التي تحول دون الالتزام بها. وقد عرضنا عليهم في السؤالين القائمة نفسها المكوَّنة من 20 مزيّة قضائية مفترَضة، طالبين منهم ترتيبها وفق أولويّتها بالنسبة إليهم. ومردّ اختيار القائمة نفسها هو مقارنة الإجابات عن هذين السؤالين. وقد أملْنا من ذلك الحصول ليس فقط على آراء القضاة حول أهمّيّة هذه المزايا المفترَضة، بل أيضاً على شهادتهم (وربّما تقييمهم الذاتي) حول مدى توفّر هذه المزايا فعلياً والتحدّيات التي تحيط بها.

ونكتشف عند الاطّلاع على إجابات هذين السؤالين أنّها جاءت متقاربة، حيث بدا واضحاً تأكيد قضاة العيّنة أنّ المزايا الأساسية التي يجب على القاضي التمتّع بها، من وجهة نظرهم، تُعاني بالدرجة نفسها من خللٍ في مدى توفُّرها أو الالتزام بها. وهذا الأمر إنّما يؤشّر إلى أنّ قضاة العيّنة يميلون إلى السلبيّة في تقييمهم لمدى التزام الجسم القضائي بما يرونه أكثر الأخلاقيّات أو المزايا القضائية أهمّيّة.

ويتأكّد ذلك على الأقلّ في ما يخصّ المزايا الحاصلة على أعلى ترتيب في كلّ من السؤالين 6 و7: وهي تباعاً “التجرّد والحياد ومعاملة المتقاضين بشكل متساوٍ” و”الصدق والنزاهة” و”الاستقلاليّة إزاء أيّ تدخّل من السلطات العامّة وأيّ تدخّل خارجي في وظيفته القضائية”، حسبما يظهر في الجدول أدناه.

المزايا التي يُفترض بذل عناية أكبر ضماناً للالتزام بهاالمزايا الواجب التمتّع بهاالمزيّة
عدد الإجابات التي أوردت المزيّة خياراً أوّلاًعدد الإجابات التي أوردت المزيّة خياراًعدد الإجابات التي أوردت المزيّة خياراً أوّلاًعدد الإجابات التي أوردت المزيّة خياراً
8316186195التجرّد والحياد ومعاملة المتقاضين بشكل متساوٍ
4115960195الصدق والنزاهة
2115725191الاستقلاليّة إزاء أيّ تدخّل من السلطات العامّة وأيّ تدخّل خارجي في وظيفته القضائية
21554186الاستقلاليّة الداخلية إزاء أيّ تدخّل من المؤسّسات القضائية أو المسؤولين القضائيين أو من سائر الزملاء
615311189الجدارة
81577191احترام القانون
31532185الالتزام بحماية الحقوق والحرّيّات
01522189القدرة على اتّخاذ القرارات
21520181القدرة على تجاوز الأحكام المسبقة
11550193احترام المتقاضين
01500187القدرة على الاستماع
01491188القدرة على التواصل والانفتاح
01520182الإلمام بظروف المجتمع وحاجاته
01500183القدرة على القيام بالمهامّ الموكلة إليه
01490186احترام العاملين الآخرين في مجال القانون
01570191احترام السرّ المهني
01510183الرغبة بالتأهيل الذاتي أو تطوير معلوماته
01500183احترام اللياقات الضرورية لممارسة مهامّه في حياته المهنية
01500183احترام اللياقات الضرورية لممارسة مهامّه في حياته الشخصية
01561188الالتزام بالدفاع عن استقلاليّة القضاء

ويمكن استخلاص ما يلي خلال التدقيق أكثر في الإجابات:

  • فيما بلغ مجموع قضاة العيّنة الذين حدّدوا خيارهم الأوّل في جوابهم عن السؤال السادس 199، فإنّ 146 منهم (أي ما نسبته 73%) كان خيارهم الأوّل تمتّع القاضي بإحدى المزايا الذاتية، وهي تحديداً الالتزام بـ”التجرّد والحياد ومعاملة المتقاضين بشكل متساوٍ” (86) و”الصدق والنزاهة” (60). وذهبت غالبيّة الذين حدّدوا الخيار الأوّل في إجاباتهم عن السؤال السابع (124 من أصل 167؛ 74%) في الاتّجاه نفسه حيث رأوا أنّ هذه المزايا الذاتية المهمّة هي التي تستوجب بذل عناية أكبر لضمان الالتزام بها.

ويُستدَلّ من ذلك على أنّ عوامل الخلل الرئيسية على صعيد الأخلاقيّات القضائية تنبع، من منظور قضاة العيّنة، من أشخاصهم. ويفرض التعبير عن هذه القناعة تضمين المدوّنة عدداً كبيراً من القواعد الأخلاقية التفصيلية سعياً إلى تعزيز التجرّد والحياد والنزاهة لدى القضاة. وترتبط قيم الصدق والنزاهة والتجرّد والحياد بمسألة الاستقلاليّة الذاتية للقاضي التي منحها قضاة العيّنة المقام الأوّل بالنسبة إلى الاستقلالية الخارجية أو الداخلية.

  • واحتلّت اعتبارات الاستقلاليّة الخارجية (الاستقلاليّة إزاء أيّ تدخّل من السلطات العامّة وأيّ تدخّل خارجي في الوظيفة القضائية) المرتبة الثانية. فقد حدّدها 25 قاضياً (13% من قضاة العيّنة الذين حدّدوا خياراً أوّلاً) خياراً أوّلاً لهم في إجاباتهم عن السؤال السادس حول المزايا التي يُفترض توفّرها لدى القاضي، وحدّدها 21 منهم خياراً أوّلاً في شأن المزايا التي يُفترض إيلاؤها عناية أكبر لضمان الالتزام بها (13% من هؤلاء). تؤشّر هذه الأرقام إلى إبداء قضاة العيّنة اهتماماً بإشكالات الاستقلاليّة الذاتية أكبر من اهتمامهم بإشكالات الاستقلاليّة الخارجية، من دون أن يعني ذلك بالضرورة اقتناعهم بتوفّر مزيّة الاستقلاليّة الخارجية لدى القضاء التونسي حالياً.

بالإضافة إلى ذلك، يُظهر التدقيق في الإجابات اهتماماً بالاستقلاليّة الخارجية أكبر من اهتمامهم بالاستقلاليّة الداخلية (الاستقلاليّة الداخلية إزاء أيّ تدخّل من المؤسّسات القضائية أو المسؤولين القضائيين أو من سائر الزملاء). فقد اختار عدد قليل من القضاة توفّر هذه الاستقلاليّة ضمن أهمّ مزايا القاضي (4؛ 2%) أو ضمن المزايا التي تتطلّب بذل العناية لضمان تحقيقها (2؛ 1% تقريباً). وفيما تؤشّر هذه الأرقام إلى استمرار القلق إزاء التدخّلات الخارجية فإنّها تؤشّر في الآن نفسه إلى ارتياح نسبي – أو على الأقلّ – إلى تراجع القلق إزاء تدخّلات الهرميّة القضائية. ومن الممكن أن نقرأ هذا المؤشّر على ضوء الإصلاحات القضائية الأخيرة، وبخاصّة لجهة تمكين القضاة من انتخاب ممثّليهم في المجلس الأعلى للقضاء.

  • في المرتبة الثالثة، برزت إشكاليّة الجدارة. فقد اعتبرها عدد من قضاة العيّنة المزيّة الأهمّ الواجب توفّرها لدى القاضي (11؛ 6%)، بينما اعتبرها عدد متقارب المزيّة التي تستدعي بذل أكبر قدر من العناية لتحقيقها (6؛ 4%). وتعكس هذه الأرقام رغبة قضائية في تعزيز المكاسب العلمية والمعرفية للقضاة، على نحو يجعلهم أكثر قدرة على أداء وظيفتهم. وهذا ما تؤكّده الإجابات عن السؤال 26 الذي نسهب في التعليق عليه أدناه.
  • في المرتبة الرابعة، برزت الاعتبارات المتّصلة بالوظيفة القضائية فاعتبرت مجموعة من القضاة أنّ “احترام القانون” هو المزيّة الأهمّ (وقد بلغ عددهم 7، أي ما نسبته 4%)، وأنّ هذه المزيّة تستوجب بذل العناية الأكبر لتحقيقها (وقد بلغ عددهم 8، أي ما نسبته 5%). ووضع قاضيان فقط “الالتزام بحماية الحقوق والحرّيّات” في رأس قائمة المزايا القضائية، وقد اعتبر 3 قضاة (2%) أنّ هذه المزيّة تستوجب بذل العناية الأكبر لتحقيقها. وعليه، وفيما بقي تصوّر الدستور للوظيفة القضائية الجديدة (وهي حماية الحقوق والحرّيّات) متراجعاً لدى قضاة العيّنة، يُسجَّل في المقابل تمسُّك فئة قليلة منهم بأولويّة الوظيفة القضائية التقليدية، التي تحبس القاضي في وظيفة خادم القانون أو فمه. ويطرح هذان التوجّهان فرضيّة عدم تحوّل إشكاليّة الوظيفة القضائية إلى إشكاليّة عامّة لدى القضاة. وهذا ما سنعود إليه في الفصل السادس أدناه.

الفصل الثالث:

حين تُقاس فضائل القاضي بمعايير واقعية

هنا، طرحنا عدداً من الأسئلة حول تصوّرات قضاة العيّنة عن أخلاقيّاتهم المهنية. وقد عبّرت إجاباتهم إلى حدّ كبير عن تصوّرات تنسجم، من وجهة نظرهم (أو نظر غالبيّتهم)، مع ما تفترضه الوظيفة القضائية من سلوكيّات، علماً أنّ بعض هذه التصوّرات لم تحظَ بإجماعهم بل شهدَتْ انْقساماً واضحاً في ما بينهم. وفيما أمكن التساؤل والجدل حول مدى انسجام بعض التصوّرات التي عبّروا عنها مع نبالة الوظيفة القضائية، يبقى أنّها تتميّز بواقعيّتها وربطها بما هو معقول، مع خلوّها من أيّ مبالغة أو إسراف في ادّعاء البطولة أو القداسة أو التجرّد التامّ. وهي تقطع من هذه الزاوية مع التصوّر المتخيَّل للقاضي المثالي الذي غالباً ما يكون بفعل مثاليّته مُجرّداً من أيّ قدرة على التأثير على واقع العمل القضائي المحفوف بالصعوبات والتحدّيات. وهذا ما نتبيّنه من مجموعة إجابات اتّصلت بمدى التزام القاضي بعمله أو تجرّده أو متطلّباته المالية أو قدرته على التصدّي للتدخّلات أو، أيضاً، المسافة التي يتعيّن عليه المحافظة عليها في علاقته مع الآخرين.

  • بذل الجهد بصورة معقولة بعيداً عن ادّعاءات التفاني ونكران الذات

وردتْ أسئلة عدّة في الاستمارة من شأن إجاباتها أن تمنحنا إضاءات حول تصوّرات القضاة للجهد الذي يتعيّن عليهم بذله في إطار عملهم القضائي. وقد بيّنت هذه الإجابات ما اتّفقوا أو اختلفوا عليه، فضلاً عن نسبة اتّفاقهم أو اختلافهم في شأنه.

إصدار الأحكام في تواريخها

تمحور السؤال الأوّل في هذا المجال حول مدى وجوب احترام القاضي تواريخ إصدار الأحكام المقرَّرة منهم أو في القانون. وهنا طرحنا عدداً من الفرضيّات طالبين من القضاة تحديد ما إذا كانوا موافقين تماماً أو إلى حدّ ما أو غير موافقين تماماً أو إلى حدّ ما. وقد وافق 76% من قضاة العيّنة تماماً أو إلى حدّ ما على الطرح القائل بأنّ هذا الواجب غير مطلَق إنّما يُلتَزَم به “قدر الإمكان”. وفيما قطع القضاة بذلك مع منطق التفاني في العمل بما يتعدّى إمكانات الإنسان العادي، فإنّهم في المقابل وافقوا على إحاطة عدم الاستجابة لهذا الموجب بمجموعة من الضوابط السلوكية: فقد وافق 66% من قضاة العيّنة تماماً أو إلى حدّ ما على وجوب أن يكون أيّ تأجيل في إصدار الأحكام معلَّلاً ومعلَناً وأن يراعي مبدأ إصدارها ضمن آجال معقولة. كما وافق 90% منهم تماماً أو إلى حدّ ما على أنّ “واجب الاجتهاد والحياد الظاهري (يتطلّب) من القاضي أن يصدر أحكامه في آجال معقولة ومع احترام التسلسل الزمني المقرَّر الذي يقطع الطريق أمام أيّ شكّ بأيّة محسوبيّة في إنجاز الملفّات” ولم يعارض ذلك إلّا 6%.

التفرّغ التامّ للنشاطات القضائية؟

من الأسئلة المهمّة في هذا الإطار أيضاً، سؤالنا عن مدى تفرّغ القضاة لوظائفهم القضائية وجواز قيامهم بأيّ نشاط آخر (غير قضائي) قد يشغلهم عنها أو يؤثّر على إنتاجيّتهم في أدائها أو يجعلهم أكثر اعتماداً على هذا النشاط لكسب العيش من اعتمادهم عليها. ومن البيّن أنّ الإجابات قطعت هنا أيضاً مع منطق التفاني والتفرّغ التامّ للنشاطات القضائية في اتّجاه الاعتراف بما قد يكون للقاضي من اهتمامات فنّية أو علمية معيّنة أو أيّ اهتمامات مشروعة أخرى تخوّله القيام بنشاطات غير قضائية وتحصيل مداخيل إضافية، إنّما ضمن ضوابط تفرضها أولويّة وظيفته القضائية ومقتضياتها.

وعليه، وافقت غالبيّة العيّنة على طروحات عدّة بشأن ماهيّة الأعمال غير القضائية الجائز القيام بها وردت في الاستمارة:

الطرح الأوّل الذي وافقت عليه غالبيّة ملموسة من القضاة يعتبر أنّ على القاضي أن يحصر التزاماته المهنية غير القضائية بنشاطات من شأنها توسيع آفاقه والسماح له بالاطّلاع على مشاكل المجتمع بشكل مكمِّل للمعارف التي يستمدّها من ممارسة مهامّه القضائية (وقد وافق على ذلك تماماً أو إلى حدّ ما 46% فيما لم يوافق على ذلك تماماً أو إلى حدّ ما 12% وبلغت نسبة عدم الإجابة 43%). ويؤشّر هذا الطرح إلى ربط مشروعيّة النشاط غير القضائي بما قد يرتّبه من آثار إيجابية على العمل القضائي نفسه.

إلى ذلك، وافقت غالبيّة معتبَرة من قضاة العيّنة على طرح ثانٍ نصّ على “أنّه على القاضي أن يحصر الوقت المكرَّس لالتزاماته غير القضائية بشكل لا يمسّ واجب الحرص على ممارسة مهامّه خصوصاً لجهة احترام الآجال لإصدار الأحكام” (وقد وافق على ذلك تماماً أو إلى حدّ ما 48% فيما لم يوافق على ذلك تماماً أو إلى حدّ ما 9% وبلغت نسبة عدم الإجابة 43%).

كما نجد موافقة واضحة على طرح ثالث نصّ على أنّه “على القاضي الامتناع عن القيام بأيّ نشاط يمسّ باستقلاليّته وحياديّته وبمبدأ المساواة مع زملائه الآخرين” (وقد وافق على ذلك تماماً أو إلى حدّ ما 48% فيما لم يوافق على ذلك تماماً أو إلى حدّ ما 8% وبلغت نسبة عدم الإجابة 44%).

وتؤشّر نسب الموافقة وعدم الموافقة على توجّس أقلّيّة مُعتبَرة من القضاة إزاء القيود التي قد تفرضها القواعد الأخلاقية على القيام بنشاطات غير قضائية. ونجد مؤشّراً واضحاً على أسباب هذا التوجّس في إجابات القضاة على مدى موافقتهم على “أنّه لا يجب أن تتخطّى العائدات الناتجة عن هذه النشاطات غير القضائية مجموع ما يحصّله القاضي من وظيفته القضائية”. فهنا، لم ينحصر التوجّس في أقلّيّة بل توسّع لتصبح عدم الموافقة على الطرح غالبة بنسبة 30% مقابل الموافقة عليه بنسبة 21%، علماً أنّ عدم الإجابة ارتفعت هنا لتصل إلى 49%. ويعزّز اعتراض القضاة الكثيف على هذا الطرح بالذات فرضيّة أن يكون توجّسهم ناجماً ليس عن توقهم إلى القيام بنشاطات أخرى بل بالدرجة الأولى عن عدم رضاهم بمستوى رواتبهم الحالية وحاجتهم ورغبتهم في زيادة مدخولهم من خلال القيام بنشاطات أخرى مشروعة. وهو توجّس قد يقوى أو يضعف على ضوء تطوّر هذه الرواتب وقيمتها الشرائية. ويُلحظ أنّ هذه الحاجة لم تحُلْ دون موافقة غالبيّة كبيرة من القضاة على وجوب رفض أيّ خدمات مجانية أو هدايا، سواء ارتبطت بمهامّهم القضائية أو كان من شأنها التأثير على حيادهم واستقلاليّتهم في نظر مراقِب متّزن. ويؤشّر هذا الأمر إلى أنّ تصوّر القضاة لأنفسهم ينمّ عن تمسّكهم بالاستقلاليّة المالية، وأنّهم يقاربون حفظ حقّهم بتحصيل مداخيل إضافية من نشاطات غير قضائية على أنّه ضرورة لتعزيز هذه الاستقلاليّة في ظلّ تدنّي الرواتب الحالية، أكثر ممّا هو عامل يهدّد بإضعافها.

  • البطولة والشجاعة

هنا أيضاً تُظهر إجابات القضاة عن الأسئلة المطروحة نزعة لمقاربة أخلاقيّاتهم بصورة واقعية خالية من المبالغة والإسراف في ادّعاء البطولة.

ولعلّ الإجابات الأكثر دلالة في هذا الخصوص هي إجابات القضاة بشأن التصرّف المناسب للقاضي ردّاً على التدخّل في عمله، سواء حصل هذا التدخّل من خارج القضاء أو من داخله. وقد طرحْنا هنا على القضاة فرضيّات عدّة منها أن يعبّر القاضي “عن استيائه من هذا التدخّل مع صدّ الشخص المتدخِّل” أو أن يعبّر “عن استيائه من هذا التدخّل مع تبيان أسباب اعتبار التدخّل غير مقبول” أو أن يستمع “بتهذيب من دون الالتزام بأيّ أمر” أو أن “يتنحّى إذا بدا له بشكل معقول أنّه لن يستطيع درء التدخّل دون تعريض نفسه أو الغير إلى خطر شديد جدّاً” أو أن “يعمد إلى كشف التدخّل بطريقة أو بأخرى” أو أن “يطلب حضور الأطراف وإطْلاعهم أنّه لم يعُدْ يتمتّع بالصفاء اللازم لمتابعة القضيّة”.

وتتميّز هذه الطروحات من زوايا عدّة أبرزها درجة المواجهة التي تفترضها. فـ “الاستماع بتهذيب من دون الالتزام بأيّ أمر” يشكّل خياراً ديبلوماسياً يأمل منه القاضي عموماً اتّقاء المواجهة. في المقابل، يشكّل التعبير عن الاستياء مع شرح أسبابه أو مع صدّ الشخص المذكور أشكالاً من المواجهة الفورية بدرجات مختلفة، حيث أنّ الأوّل يأخذ طابعاً توجيهياً وإن كان حازماً، فيما يأخذ الثاني طابعاً تصادمياً. وتزداد حدّة المواجهة مع اتّخاذ مواقف لاحقة لفعل التدخّل (كشف عن التدخّل أو استدعاء الفرقاء لإعلامهم بحصوله)، بما يعكس نيّة القاضي ترتيب نتائج قانونية لهذا التدخّل وتحويله إلى قضيّة، وهو فعل غالباً ما يأتي تبعاً لتخطيط وتصميم مسبقَيْن وتهيّؤ لما يتطلّبه من تصدٍّ ومواقف. وفيما يمكن اعتبار “التنحّي اتّقاءً للخطر الشديد” هروباً من المواجهة من باب التقيّة فإنّه على العكس من ذلك قد يتحوّل إلى مواجهة بيّنة في حال تعليله أو أتى تبعاً لأفعال مختلفة من التصدّي.

و لدى التدقيق في الإجابات لاحظنا ما يلي:

  • اعتمدت إجابات كثيرة خيارات متنوّعة ولم تكتفِ بخيار واحد، وبخاصّة عند حصول التدخّل من خارج القضاء. فقد بلغ عدد الإجابات التي اختارت طرحاً واحداً حصراً 106 و152 عند حصول التدخّل من خارج القضاء أو من داخل القضاء تباعاً، بينما لم تتعدَّ نسبة التوجّه الغالب في الإجابات التي تضمّنتْ خياراً واحداً 16% (وهي نسبة الإجابات الحصرية بصدّ المتدخِّل في حال حصول تدخّل من خارج القضاء) أو 32% (وهي نسبة الإجابات الحصرية بالاستماع بتهذيب في حال حصول التدخّل من داخل القضاء) من مجموع الإجابات. وهذا الأمر إنّما يؤشر إلى ميل لاعتماد سلوكيّات مختلفة على ضوء هويّة الجهة المتدخِّلة أو وفق خطورة الحالة، من دون التسليم بوجود طريقة واحدة مناسِبة للتعامل مع فعل التدخّل. ويعكس هذا الأمر قناعة لدى القضاة بوجوب التعامل بواقعيّة ومرونة وربّما تدرّج مع الوضع الاجتماعي والسياسي والقضائي من دون التمسّك بسلوكيّات صارمة ومثالية ويضعنا بالتالي على مسافة من القاضي المتخيَّل الذي يتصدّى بصرامة وقسوة لأيّ تدخّل في عمله سواء جاء من خارج القضاء أو داخله.
  • ذهبت غالبيّة الإجابات إلى اختيار أحد سلوكيّات المواجهة، أو أكثر، خياراً مناسباً، سواء انحصرت الإجابات في هذه السلوكيّات وحدها أو تضمّنت إلى جانبها سلوكيّات التعامل الديبلوماسي، وسواء حصل هذا التدخّل من خارج القضاء أو من داخله. فيظهر لدى التدقيق في تفاصيل الإجابات في حال حصول التدخّل من خارج القضاء أنّ 205 إجابات اختارت على الأقلّ أحد سلوكيّات المواجهة مقابل اختيار عدم المواجهة (الاستماع بتهذيب أو التنحّي من دون مواجهة حصراً) في 36 إجابة فقط. ويبقى الاتّجاه نحو المواجهة غالباً حتّى في حال حصول التدخّل من داخل القضاء، وإن بدرجة أقلّ حيث اختارت 144 إجابة أحد سلوكيّات المواجهة مقابل اختيار 101 إجابة فقط عدم المواجهة.
  • مع أهمّيّة الملاحظة المشار إليها أعلاه، من اللافت عند التدقيق في الإجابات أنّ الميل إلى المواجهة بدا أكثر وضوحاً في حال حصول التدخّل من خارج القضاء، ممّا هو عليه في حال حصوله من داخله. ونستشفّ هذا الأمر من معطيات عدّة أبرزها المقارنة بين عدد الإجابات التي اختارت “الاستماع بتهذيب من دون الالتزام بأيّ أمر” خياراً حصرياً أو ضمن أحد الخيارات المناسبة في كلتا الحالتين. ففيما بلغ عدد هذه الإجابات في حال التدخّل من خارج القضاء تباعاً 21 و61 (أي ما يقارب 25% من الإجابات فقط)، بلغ عددها في حالات التدخّل من داخل القضاء تباعاً 82 و128 (أي ما تزيد نسبته عن 50% من الإجابات).

وعليه، يبقى نَفَس المواجهة لدى العيّنة غالباً وإن دلّتْ الاستمارة على مراعاة واضحة لاعتبارات الحفاظ على روابط الزمالة والمَيْل إلى التعاطي مع تدخّلات القضاة بطريقة ديبلوماسية بعيداً عن التصادم.

  • بدا الميل للتعامل الفوري مع التدخّل من دون متابعة لاحقة واضحاً أيضاً، وهو ميل يزداد وضوحا عند حصول تدخّل من داخل القضاء. فكأنّما القضاة يؤثِرون التعامل مع التدخّل بالطريقة التي يرونها مناسبة، سواء بصورة تصادمية أو غير تصادمية، من دون أن يؤدّي إلى أيّ نتائج قد تتحوّل إلى موضوع نزاع وتعقيد في الإجراءات. ونستشفّ هذا الأمر من بلوغ مجموع الإجابات التي اكتفت باختيار تصرّف فوري أو أكثر (التعبير عن الاستياء و/أو الاستماع بتهذيب) ردّاً على التدخّل 131 و183 وفق حصوله من خارج أو من داخل القضاء، في حين بلغ مجموع الإجابات التي ضمّنت خياراتها متابعة لاحقة 110 و62 في هاتين الحالتين. ومن الأدلّة الجليّة على غلبة الميل للتعامل الفوري مع التدخّلات هو قلّة عدد الإجابات التي اختارت طلب حضور أطراف النزاع والتي بلغ مجموعها 21 و14 فقط تبعاً لحصول التدخّل من خارج القضاء أو من داخله.
  • أخيراً، تجدر الإشارة إلى أنّ خيار التنحّي يرِد عموماً في أغلب الإجابات إلى جانب أحد خيارات المواجهة. فمن أصل 75 إجابة حفظت خيار التنحّي في حال حصول تدخّل من خارج القضاء، يؤكّد التدقيق في تفاصيل الاستمارات أنّ 60 منها تضمّنت إلى جانب التنحّي أحد خيارات المواجهة، مقابل 7 منها أوردت التنحّي خياراً حصرياً و8 أوردت خيار التنحّي إلى جانب الخيار الديبلوماسي بالاستماع بتهذيب من دون أيّ خيار آخر. ونلحظ الغالبيّة نفسها (أي ورود خيار التنحّي إلى جانب أحد خيارات المواجهة) في حال حصول التدخّل من داخل القضاء وإن بدرجة أقلّ، حيث تضمّنت 23 استمارة أحد خيارات المواجهة إلى جانب التنحّي، مقابل 2 منها أوردت التنحّي خياراً حصرياً و17 أوردت خيار التنحّي إلى جانب خيار الاستماع بتهذيب من دون أيّ خيار آخر. وهذا الأمر إنّما يؤشّر إلى قناعة لدى معظم القضاة بأنّ التنحّي هو شكل من أشكال المواجهة، أكثر ممّا هو هروب من المسؤوليّة أو من الخطر. ويتأكّد التوجّه الغالب في هذا الخصوص في سؤال آخر حول مدى موافقة القضاة على وجوب إفصاح القاضي عن أسباب تنحّيه. ففيما أجاب 37% من القضاة أنّهم موافقون تماماً أو إلى حدّ ما مع هذا الطرح، أجاب 29% منهم أنّهم غير موافقين تماماً أو إلى حدّ ما معه.

ختاماً في هذا الخصوص، تجدر الإشارة إلى أنّ معظم قضاة العيّنة وافقوا على وجوب التضامن مع أيّ قاضٍ في حال تعرّضه لاعتداء غير مبرَّر وغير متناسب (97% أي 247 من أصل 254 علماً أنّ قاضياً واحداً عارض ذلك). وعند سؤالهم عن كيفيّة التعبير عن هذا التضامن مقترِحين عليهم أربعة أشكال له (اللجوء جماعياً إلى المجلس الأعلى للقضاء أو القيام بنشاطات من خلال الجمعيّات والهياكل المهنية أو إقامة دعاوى جماعية أو إقامة نشاطات جماعية في الفضاء العامّ)، آثرت غالبيّة القضاة هنا أيضاً أن يتمّ التضامن بطرق مختلفة من دون الاكتفاء بطريق واحد. ففيما رأت غالبيّتهم ضرورة في اللجوء إلى المجلس الأعلى للقضاء أو إلى الهياكل القضائية (90%)، فإنّ أقلّيّة من القضاة حصرتْ واجب التعبير عن التضامن باللجوء إلى أحد هذه المراجع دون سواه (17% بالنسبة إلى مجلس القضاء الأعلى و16% بالنسبة إلى الهياكل المهنية). وهذا الأمر إن دلّ على شيء دلّ على أمرين متلازمين: الأوّل، أنّ ثمّة ثقة مقبولة بهذه المراجع؛ والثاني، أنّ ثمّة قناعة لدى القضاة بضرورة تنويع آليّات التضامن من دون الاكتفاء بإحداها أو المراهنة عليها وذلك من باب تعزيز أثرها في حماية القضاة حيال الاعتداءات. في المقابل، يُسجَّل أنّ نسبة موافقة قضاة العيّنة على إقامة دعاوى قضائية جماعية أو نشاطات جماعية في الفضاء العامّ بلغت 44% و23%، وهي نسبة تبقى معتبَرة وإن أقلّ من نسبة اللجوء إلى الهيئات الممثِّلة للقضاة.

ويتبدّى من كلّ هذه الإجابات أنّ غالبيّة القضاة تعي أنّ شجاعة القاضي وحدها لا تكفي لمواجهة الصعوبات القضائية، وأنّ لا بدّ من التعامل بصورة واقعية مع هذه الصعوبات، سواء من خلال اعتماد أساليب مواجهة مختلفة وفق كلّ ظرف أو من خلال مأسسة التضامن القضائي في اتّجاه تعزيز قدرة القضاء على الدفاع عن استقلاليّته.

  • التجرّد والحياديّة

في هذا الخصوص، أتتْ الإجابات لتؤكّد قطع القضاة التونسيين مع التصوّر المتخيَّل للقاضي المثالي الذي غالباً ما يُظهره صامتاً منعزلاً ومتجرّداً من أيّ آراء أو روابط أو ميول فكرية. ويتبدّى من الإجابات فهم قضائي لمبدأَيْ التجرّد والحياد بصورة أكثر واقعيّة تُخرِج القاضي من محبسه المذكور في اتّجاه تحديد الضوابط التي تفرضها عليه وظيفته بحدود الضرورة من دون أيّ مبالغة. وقد تطرّقت هذه الأسئلة إلى ثلاثة أمور أساسية تمنحنا كيفيّة مقاربتها إضاءات مهمّة في هذا الخصوص: يتّصل الأوّل بإمكانيّة ارتباط القاضي بالتزامات عامّة واجتماعية؛ ويتّصل الثاني بحرّيّة التعبير وما قد تحتمله من حدود؛ ويتّصل الثالث بمشاركة القاضي في الحياة العامّة وعلاقاته الاجتماعية بشكل عامّ.

التزامات عامّة واجتماعية

كان السؤال الأوّل في هذا الإطار: “إلى أيّ مدى يمكن أن يكون للقاضي التزامات عامّة واجتماعية؟” وقد طُلب من القضاة اختيار إحدى الفرضيّات المطروحة التي يوافقون عليها. وقد انحصرت الفرضيّات في ثلاث تتباين فيما بينها من حيث مدى الحرّيّة المتاحة بالنسبة إلى كلّ منها. ففيما كانت الفرضيّة الأولى فرضيّة وسطية قوامها أنّ بإمكان القاضي “الالتزام بأيّ نشاط عامّ باستثناء النشاطات التي تهدف إلى الفوز في انتخابات سياسية عامّة”، اقترحنا فرضيّتين أخريين تمثّلان الحدّ الأقصى للحرّيّة (قوامه أنّ بإمكان القاضي التمتّع بكلّ الحقوق العامّة كأيّ مواطن وتالياً الانخراط في أيّ نشاط عامّ بدون أيّ قيد) وحدّها الأدنى (قوامه أنّ القاضي “يمكنه الالتزام حصراً بنشاطات مرتبطة بالقضاء”).

ومن اللافت هنا أنّ غالبيّة القضاة اتّجهوا نحو اعتماد الفرضيّة الوسطية، وذلك بحدود 59% منهم. وقد انقسم سائر القضاة بين مؤيّدين للحدّ الأقصى والحدّ الأدنى، علماً أنّ مؤيّدي الحدّ الأقصى (23%) بلغوا ما يقارب ضعف مؤيّدي الحدّ الأدنى (12%). وهذا الأمر إنّما يؤكّد تمسّك القضاة بحرّيّتهم المكتسَبة منذ 2011 وتمتّعهم بجميع الحقوق أسوةً بسائر المواطنين وبخاصّة بما يتّصل بالحرّيّات التي لا تولّد ممارستُها، من حيث المبدأ، أيّ ارتياب مشروع بحياديّتهم.

حرّية التعبير

اتّصل السؤال الثاني في هذا الإطار بحرّيّة التعبير. ففيما سلّمت الاستمارة بحرّيّة التعبير للقضاة تمحور السؤال حول حدودها. وقد قدّمت الاستمارة لهذه الغاية ثلاثة طروحات أُعطيَ القضاة إمكانيّة الموافقة على بعضها أو جميعها. تمثّل الطرح الأوّل بأنّ “على القاضي أن يمتنع عن إطلاق أيّ تصريح غير مسنَد على حجج، أو يعكس أفكاراً مسبقة أو ينمّ عن خفّة في إبداء الآراء، في حال كان من شأن هذه التصريحات أن تؤثّر على حقوق أو اعتبار الغير” وهو الطرح الذي ربّما يبدو الأكثر دقة في رسم الحدود المعقولة لحرّيّة التعبير. أمّا الطرحان الآخران فقد اختلفا عنه من حيث درجة الصرامة في الأسلوب التي يتطلّبانها. ففيما نصّ الطرح الثاني على أنّ “في كلّ الحالات، للقضاة الحقّ في الفكاهة والنكتة” (وهو طرح يمكّن القضاة من اعتماد أسلوب أقلّ صرامة)، نصّ الطرح الثالث على أنّ “على القاضي أن يبرهن عن حرص ومسؤوليّة” وهو طرح يُستشَفّ منه وجوب اعتماد صرامة أكبر.

وبدا جلياً من الإجابات أنّ رغم تسليم القضاة بحرّيّة التعبير أبدى معظمهم ميلاً إلى وجوب اعتماد الرصانة في الأسلوب والتحليل. ففيما أيّد 81% من القضاة الطرح الأوّل حاز الطرح الثالث (الحرص والمسؤوليّة في التعبير) نسبة عالية جدّاً أيضاً (57%)، مقابل تأييد أقلّيّة نسبية (ولكن معتبَرة) للطرح الثاني (17%). ولربّما أمكن تفسير تراجع التأييد للطرح الثاني بتوجّس القضاة من سوء استخدام أسلوب النكتة والفكاهة على نحو يقارب الإسفاف ويعزّز حجج القوى المناوئة لحرّيّة القضاة المكتسَبة حديثاً. وهنا أيضاً بدا تصوّر القضاة لحرّيّتهم بالتعبير وحدودها وليد واقعهم أكثر ممّا هو إسقاط لتصوّرات مثالية في اتّجاه أو آخر.

الروابط الاجتماعية

في هذا السياق، وافقت الغالبيّة الكبرى من الإجابات على وجوب امتناع القاضي عن إنشاء أو متابعة علاقة قد تبرّر أو تسهّل في نظر مراقب متّزن ممارسةً جرميةً وعلى وجوب تجنّبه إقامة علاقات عامّة مع السياسيين أو أصحاب النفوذ في عالم المال والتجارة. في المقابل، أعربت غالبيّة القضاة عن عدم الموافقة على الطرح الذي ورد في الاستمارة لجهة وجوب تجنّب القاضي “أيّة مشاركة في المناسبات الاجتماعيّة غير المبرّرة بالروابط العائلية أو الصداقة المتينة”، وقد وصلت الغالبيّة الرافضة لهذا الطرح إلى 61% من الإجابات مقابل موافقة 39%. ونستشفّ من هذه الإجابات قبولاً لدى القضاة بتقييد حرّيّتهم في بناء علاقات مع محترفي الإجرام أو أصحاب النفوذ حفظاً لمظهر استقلاليّتهم، مقابل رفضهم لأيّ تقييد لهذه الحرّيّة خارج هذه الحالات.

الفصل الرابع:

الانتقال من نظام الأخلاقيّات الفردية إلى نظام الأخلاقيّات الجماعية

“القاضي هو جزءٌ من كلّ، وأخلاقيّاته تتكوّن على أساس وظيفته التي يشترك فيها مع جميع القضاة. ومن هنا أهمّيّة الانتقال من مفهوم الأخلاقيّات الفردية إلى مفهوم الأخلاقيّات التي تختزل روح مجموع القضاة وديناميّات الجسم الذي ينتمون إليه، والتي تهدف بالأساس إلى تعزيز ثقة المتقاضين بالجسم القضائي والوظيفة القضائية”. هذا ما ورد في تصوّرنا التجديدي للأخلاقيّات القضائية في المنطقة العربية. وقد أضفْنا إلى ذلك: “من دون التقليل من أهمّيّة سعيه (أي القاضي) إلى إنماء شخصيّته وإنجاح مساره المهني، فإنّ على القاضي أن يعمل ما بوسعه لإتمام واجباته تجاه الجسم القضائي وتعزيز الثقة فيه، وأيضاً لتوجيه زملائه وتنبيههم ودعمهم عند الحاجة لضمان التزامهم بهذه الواجبات أيضا. بكلمة هو مسؤول أمامهم بقدر ما هو معنيّ وما هم مسؤولون أمامه في كلّ ما يتّصل بالأخلاقيّات القضائية. فمن شأن تصرّفات أيّ منهم أن تؤثّر في أداء الجسم القضائي وثقة المواطنين به ككلّ. وهذه المقولة تصحّ سواء اتّصل الأمر بنشاط القاضي المهني أو سلوكيّاته. وبالطبع، يُفترض أن يتعزّز شعور المسؤوليّة لدى المسؤولين القضائيين والجمعويين، بحكم الوظائف المناطة بهم”.

في هذا السياق، سندقّق معاً في إجابات قضاة العيّنة عن الأسئلة التي تضمّنتها الاستمارة سواء بهدف تحديد الأخلاقيّات القضائية بوصفها مسؤوليّة مشتركة بين القضاة، أو الأخلاقيّات الخاصّة بالمسؤولين في المؤسّسات والهياكل القضائية.

  • الأخلاقيّات القضائية بوصفها مسؤوليّة مشتركة

وردت في الاستمارة أسئلةٌ مهمّة يُستدَلّ منها على مقاربة القضاة لأخلاقيّاتهم، وتحديداً في ما إذا كانت تشكّل شأناً عامّاً يتشاركون فيه. ومن أهمّ الأسئلة التي تضمّنتها الاستمارة في هذا الخصوص، الأسئلة المطروحة حول مدى وجوب تدخّل القاضي في حال عاين خرقاً لقاعدة أخلاقية من قبل زميل له ومبرّراتهم لتبرير واجب التدخّل أو عدمه. ومن أهمّ ما كشفته إجابات هذه الأسئلة:

غالبيّة كبرى تسلّم بموجب تدخّل القاضي عند حصول خرق من قبل زميل له

اعتبرت غالبيّة وازنة من قضاة العيّنة أنّ الأخلاقيّات القضائية إنّما تشكل شأناً عامّاً بالمعنى الذي ذكرناه أعلاه. وهذا ما نستخلصه ليس فقط من غالبيّة القضاة الذين سلّموا بوجوب تدخّل القاضي في حال عاين خرقاً لقاعدة أخلاقية من قبل زميل له، ولكن أيضاً من التبريرات التي أدلى بها القضاة لمواقفهم بالتسليم بهذا الموجب أو رفضه. وهذا ما يتحصّل تفصيلياً من الإجابات الآتية:

  • بلغ عدد القضاة الذين سلّموا بالموجب 171 (67% من قضاة العيّنة)، فيما جاءت إجابات 80 قاضياً فقط سلبية في هذا الخصوص.
  • انقسم الذين رفضوا التسليم بهذا الموجب في تبرير موقفهم، وقد أعطَوا مبرِّراً أو أكثر لموقفهم بعدم التدخّل. ففي حين برّر 50 منهم فقط موقفهم بكون الأخلاقيّات شأناً خاصّاً اكتفى الآخرون (وعددهم 30) بتبرير موقفهم بالخوف من تبعات التدخّل (سوء فهم التدخّل من سائر الزملاء أو خوف من القاضي المعنيّ نفسه). ما يعني أنّ هذه الفئة الثانية ذهبت في اتّجاه رفض الموجب ليس لأسباب مبدئية بل لأسباب براغماتية تتّصل بالخوف من تبعاته.
  • في المقابل، برّرت غالبيّة الذين سلّموا بهذا الموجب موقفها بشكل واضح بأنّ الأخلاقيّات شأن عامّ (158)، بينما حصرت قلّة منهم (11 قاضياً؛ 6% من مجموع مؤيّدي التدخّل) تسليمها بموجب التدخّل بالحالات التي يكون فيها للقاضي المتدخِّل مصلحة مباشِرة.
  • في المحصّلة، يتبدّى أنّ مجموع القضاة الذين سلّموا بمبدئيّة موجب التدخّل لكون الأخلاقيّات شأناً عامّاً مشتركاً للقضاة هو أكثر من الذين سلّموا بتوجُّبه في ظروف القضاء التونسي وما ترشح عنه من هواجس أو مخاوف. فإلى الـ171 قاضياً الذين سلّموا بالموجب، يضاف الـ30 قاضياً الذين برّروا رفضهم التسليم به بصورة براغماتية وليس مبدئية (30) ويُحسم في المقابل الذين برّروا تسليمهم به بوجود مصلحة مباشرة للتدخّل (11). وعليه، يمكن القول إنّ عدد قضاة العيّنة الذين يرَون أنّ التدخّل مبرَّرٌ من حيث المبدأ يصبح 190، أي ما يمثّل 75% منهم.

ختاماً، نشير إلى أنّ التأييد الواسع لموجب تدخّل القاضي عند حصول خرق لقاعدة أخلاقية من قبل زميل له، يشهد تراجعاً عند السؤال عن طبيعة الخروقات التي تستدعي التدخّل. فهنا يتبدّى انخفاض نسبة الذين يؤيّدون التدخّل في جميع الحالات 19% من مجموع قضاة العيّنة، وأنّ غالبيّة وازنة من القضاة (68%) أعلنوا أنّ موجب التدخّل يجب أن ينحصر في الحالات التي ترشح عن خطورة معيّنة.

لماذا موجب تدخّل القاضي عند حصول خرق من زميل له؟ وكيف؟

عند التدقيق في إجابات قضاة العيّنة عن السؤال المتّصل بمبرّرات موجب تدخّل القاضي عند حصول خرق من زميل له لقاعدة أخلاقية، نلحظ أنّها أتت منسجمة مع مقاربة القضاة للهدف من صياغة مدوّنة للأخلاقيّات القضائية، التي أشرنا إليها سابقاً، لجهة تغليب “تأمين ثقة الجمهور بالقضاء”. فقد بدا القضاة المؤيّدون للتدخّل وكأنّهم يحبّذون “تجنيب الجسم القضائي أيّة نتائج وخيمة لهذا التصرّف عليه، والحفاظ بهذه الطريقة على صورة العدالة” (123 من أصل 171، ومنها 72 خياراً أوّلاً) و”إطلاق حوار مع القاضي المُخِلّ لحثّه على تغيير موقفه” (109 من أصل 171 ومنها 45 خياراً أوّلاً). ومن البيّن أنّ الهدف الأوّل يتّصل بالمحافظة على ثقة العامّة في القضاء، فيما يهدف الثاني إلى ترميم البيت الداخلي للقضاة من خلال عدول القاضي المخلّ عن المسّ بروحيّته المشتركة. ويزيد وضوح هذا الجواب عند معاينة قلّة الإجابات التي برّرت التدخّل بحماية مصالح خاصّة، سواء تمثّلت في حماية مصلحة القاضي المخلّ من تبعة إخلاله أو في حماية القاضي المتدخِّل ممّا قد يسبّبه له هذا الإخلال بشكل مباشر، حيث لم يحظَ هذان الهدفان مجتمعَيْن على أكثر من 37 إجابة اعتبرتهما خياراً أوّلاً.

وعلى الرغم من التأييد الواسع لموجب التدخّل، المشار إليه أعلاه، آثرت غالبيّة القضاة المؤيّدين لهذا التدخّل أن يحصل من قاضٍ إلى قاضٍ من دون الحاجة إلى إطلاع السلطات القضائية على الخرق الحاصل، حيث انحصر مؤيّدو إطلاع هذه السلطات على الخرق بنسبة 32% منهم (82 قاضياً). ومن اللافت أنّ نزوع القضاة عن إعلام السلطات القضائية إنّما ارتبط وفق الإجابات بالدرجة الأولى بتجنّب ثقافة الوشاية والمحافظة على التضامن داخل القضاء (127 اعتبروه السبب الأوّل لرفضهم إطلاع السلطات، أي ما يمثّل 97% من القضاة الذين ذكروا أولويّاتهم عند الإجابة عن هذا السؤال). واللافت أيضاً أنّ عند سؤال القضاة الذين صرّحوا بميلهم لإعلام السلطات بشأن الخروقات، فإنّ غالبيّتهم تمنّوا ألّا ينتهي إعلام السلطات إلى معاقبة القاضي (78%) علماً أنّ أقلّ من 3% منهم اختاروا المعاقبة هدفاً أوّلاً لإعلام السلطات. ويتأكّد ذلك من خلال ارتفاع الإجابات التي رأت، على العكس من ذلك تماماً، أنّ الهدف الأوّل لإعلام السلطات بالتصرّف المخلّ هو “أن يؤدّي إلى إعلام القاضي المعنيّ بحقيقة الوضع في اتّجاه دفعه إلى وقفِهِ من تلقاء نفسه (45) و”حماية نفسي والجسم القضائي بشكل عامّ من نتائج هذا التصرّف” (34)، أي ما مجموعه 79 إجابة من مجموع إجابات القضاة الذين أعلنوا قبولهم مبدأ إعلام السلطات، أي ما يمثّل شبه إجماع الذين أجابوا عن هذا السؤال.

وعليه، يتبدّى أنّ مقاربة القضاة لموجب التدخّل عند إخلال زميل بواجباته الأخلاقية تتّسم بدرجات ثلاث، أدناها درجة التدخّل على صعيد الزمالة بين القضاة (63%)، وأوسطها الدرجة الثانية وهي تتمّ على صعيد اللجوء إلى السلطات (32%)، وأعلاها الدرجة الثالثة التي تؤيّدها أقلّيّة من قضاة العيّنة وتميل إلى استخدام سلاح السلطات للمعاقبة (7%). ومن المهمّ هنا الإشارة إلى أنّ عدم إعلام السلطات أو عدم تأييد المعاقبة يتأتّى عن نزوع عن تحويل القواعد الأخلاقية إلى وسيلة للتأديب أكثر ممّا يتأتّى عن حذر من السلطات نفسها. وهذا ما نستشفّه بوضوح كلّي من إجابة قضاة العيّنة حول أسباب نزوعهم عن إعلام السّلطات حيث أجابت قلّة منهم أنّهم يرفضون ذلك لعدم ثقتهم بالسلطات القضائية (24 فقط علماً أنّ 4 منهم فقط اعتبروه السبب الأوّل). هذا علماً أنّ هذه الأقلّيّة تضمحلّ أكثر حين نسأل عن إمكانيّة إعلام الرأي العامّ بهذا الخرق (وافق 8 قضاة من أصل 254 على وجوب إطلاع الرأي العامّ في حال حصل تدخّل داخلي في عمل القاضي). وهذا ما يتوافق مع إجابة قضاة العيّنة عن سؤال آخر اتّصل بإمكانيّة جعل بعض قواعد المدوّنة أساساً للملاحقة التأديبية، حيث أجاب عدد وازن منهم بعدم موافقتهم على ذلك طالبين أن تشمل المدوّنة قواعد توجيهية فقط (39%)، ولم يستثنوا من ذلك غير الحالات التي تتّسم بدرجة معيّنة من الخطورة (22%)، أو التي تنصّ عليها القوانين صراحة وبشكل دقيق (31%). ويُستنتَج من ذلك موقف عامّ حذر من قضاة العيّنة إزاء تأديب القضاة على خلفيّة خرقهم موجباتهم الأخلاقية مع تفضيل واضح منهم لاعتماد التشاور والتناصح بين الزملاء لتعزيز احترام الأخلاقيّات القضائية.

وتتأكّد النتائج المذكورة أعلاه مع الإجابات عن سؤال آخر ورد في الاستمارة في موضع آخر، وهو السؤال الذي اتّصل بتصرّف القاضي عند حصول التدخّل في عمله من قبل زميل له، وهو خرق محدّد للأخلاقيّات القضائية. وتكمن أهمّيّة هذا السؤال في أنّه يخوّلنا التدقيق في مدى انسجام الإجابات عنه مع الإجابات عن السؤال السابق حول واجب القاضي في التدخّل عند حصول خرق من زميل، علماً أنّ الخرق يتّسم هنا بالخطورة وهو يحصل سرّاً ويكون فيه القاضي الآخر ليس مجرّد شاهد بل معنيًّا بشكل مباشر. وبالتدقيق في الإجابات، يتبدّى أنّها انقسمت على النحو الآتي: إجابات ذهبت في اتّجاه صدّ التدخّل أو التعبير عن الاستياء حياله (وقد بلغت 144 من أصل 254 أي ما يمثّل 57%) وإجابات ذهبت على العكس من ذلك إلى تغليب تصرّف سلبي وهي تشمل الاستماع بتهذيب والتنحّي من دون إعلان سببه (وقد بلغت 101 من أصل 254 أي ما يمثّل 40%). وتبدو هذه النسب بشكل عامّ متوافقة مع الإجابات أعلاه حيث اعتبر 31% من قضاة العيّنة أنّهم يرفضون التدخّل بزميل لهم عاينوا قيامه بأيّ خرق.

أدلّة أخرى على مقاربة الأخلاقيّات بوصفها مسؤوليّة مشتركة

بالإضافة إلى ما تقدّم، نستشفّ من إجابات القضاة عن أسئلة أخرى توجُّهَهُم إلى مقاربة الأخلاقيّات بوصفها مسؤوليّة مشتركة.

من أبرز هذه الإجابات تلك المتّصلة بالهدف من المدوّنة. فقد اختارتْ غالبيّتهم أهدافاً يُستشفّ منها أنّهم يعتبرون الالتزام بالقواعد الأخلاقية مسؤوليّة جماعية إمّا لما له من تأثير على الجسم القضائي برمّته وإمّا لما تمثّله هذه القواعد من روحيّة مشتركة. وهذا ما نستشفّه من أعداد قضاة العيّنة الذين حدّدوا من ضمن أهداف المدوّنة “تأمين ثقة الجمهور بالقضاء” (145 من قضاة العيّنة علماً أنّ 73 منهم صنّفوه في رأس قائمة الأهداف) أو “توثيق قواعد أخلاقية نابعة عن روح الجسم القضائي وممثّلة له، ضماناً لحسن نفاذها” (139 من قضاة العيّنة علماً أنّ 45 منهم صنّفوه في رأس قائمة الأهداف). وعليه، يكون مجموع القضاة الذين صنّفوا أحد هذين الهدفين في رأس قائمة الأهداف 118 قاضياً أي ما يمثّل 46% من مجموع العيّنة و54% من القضاة الذين عبّروا عن خياراتهم الأولى.

ونستشفّ التوجّه نفسه من إعلان عدد كبير من قضاة العيّنة نيّتهم المشاركة في مناقشة مدوّنة الأخلاقيّات القضائية فردياً وجماعياً، بصورة قَبْلية وبَعْدية. وما يزيد هذه الأرقام دلالة أنّ القضاة أبدوا حماسة أقلّ للمشاركة في المسائل الأخرى المتّصلة بالشؤون القضائية، حيث لم تزِد نسبة القضاة الذين وافقوا تماماً على أنّ من أهمّ واجبات القضاة المضطلعين بمسؤوليّة قضائية (رؤساء الغرف والمحاكم) احترام “أسمى القواعد الديمقراطية” في اتّخاذ قراراتهم عن 30%. وهذا الأمر إنّما يؤشّر إلى إرادة القضاة المشاركة بشكل خاصّ في صياغة المدوّنة، مقابل قبول واسع منهم أن يتفرّد ممثّلوهم في إدارة سائر الشؤون القضائية.

  • النشاط القضائي، نشاط مشترك

النشاط القضائي نشاط مشترك بمعنى أنّ عمل كلّ قاضٍ يتكامل مع أعمال القضاة الآخرين وأيّ خلل في عمل قاض واحد يؤثّر على حماسة زملائه وبالتالي على أداء الجسم القضائي أمام الجمهور. في هذا المجال أيضاً تضمّنت الاستمارة عدداً من الأسئلة التي تسمح لنا باستخلاص فرضيّات مهمّة حول مدى مقاربة القضاة لهذه المسألة، أهمّها:

الالتزام بالمُهل القانونية في إصدار الأحكام

أبدت الغالبيّة الكبرى من قضاة العيّنة حرصاً على ضرورة احترام المهل القانونية وإصدار الأحكام في الأوقات المحدَّدة قدر الممكن (76% موافق تماماً أو إلى حدّ ما علماً أنّ 22% لم يجيبوا) ووجوب إعلان وتعليل أيّ تأجيل (66% موافق تماماً أو إلى حدّ ما علماً أنّ 28% لم يجيبوا). ويؤشّر هذا الأمر إلى اعتبار القضاة أداء واجباتهم من ضمن الأخلاقيّات القضائية التي تضمن حسن سير المرفق القضائي.

إشكاليّة التنحّي

تضمّنت الاستمارة سؤالاً آخر مفيداً في هذا الخصوص. هذا السؤال الذي وُجّه للقضاة رمى إلى معرفة رأيهم في شأن كيفيّة تنحّيهم عن الملفّات العالقة أمامهم، وتحديداً في مدى موافقتهم على وجوب أن يكون التنحّي مبرَّراً وعلنياً وغير اعتباطي. ونلحظ أنّ العبارة المقترَحة تضمّنت شروطاً عدّة للتنحّي يُستشفّ منها وجوب حصوله بصورة جدّ شفّافة، بمعنى أنّ أيّ موافقة عليها تعكس قناعة بالمسؤوليّة المشتركة الناتجة عن انتماء القاضي إلى الجسم القضائي طالما أنّ أيّ تخلٍّ منه عن أيّ من مهامّه يؤدّي إلى تحميلها عملياً لقاضٍ آخر. وفي حين مالت غالبيّة إجابات قضاة العيّنة إلى الموافقة إمّا تماماً (20%) أو إلى حدّ ما (16%) على هذا الطرح، نلحظ أنّ أقلّيّة وازنة منهم (29%) لم توافق عليه، علماً أنّ 25% منهم غير موافق تماماً.

وفي حين يبيّن هذا الأمر وجود حسّ عالٍ بالمسؤوليّة المشتركة لدى غالبيّة القضاة بمعنى أنّها تعتبر عدم جواز التنحّي لأسباب ذاتية بحتة، فإنّه لا يمكن في المقابل أن نستخلص من ممانعة الآخرين بالضرورة غياب هذا الحسّ لديهم أو تغليب اعتباراتهم الذاتية على الاعتبارات الموضوعية، لاحتمال أن يكون دافعهم إلى ذلك هو الخوف من تبعات الإعلان أو الإفصاح عن أسباب التنحّي أو القناعة بوجوب عدم نشر الغسيل الوسخ في الخارج وبخاصّة في حال حصل التنحّي نتيجة ضغوط من داخل القضاء.

وللتمحيص في حقيقة مبرّرات هؤلاء القضاة لإبقاء أسباب التنحّي غير علنية، يمكن الاسترشاد بإجاباتهم عن سؤالين آخرين وردا في الاستمارة بشأن التصرّفات التي قد يلجأون إليها في حال حصول تدخّل خارجي أو داخلي في ملفّاتهم، وبخاصّة مدى إمكانيّة تنحّيهم إذا بدا لهم بشكل معقول أنّهم لن يستطيعوا درء التدخّل دون تعريض أنفسهم أو غيرهم إلى خطر شديد جدّاً. وقد جاءت إجاباتهم هنا لافتة ومعبّرة بما يعنينا في هذا الخصوص، علماً أنّها تباينت وفق طبيعة التدخّل وبخاصّة في حال كان داخلياً أو خارجياً. ففي حال حصول تدخّل خارجي، انقسم القضاة الذين أعلنوا عن إمكانيّة التنحّي وعددهم 75 (أي ما يمثّل 30%)، بين 15 (أي ما يمثّل 6%) أعربوا عن ميلهم إلى التنحّي السلبي (أي من دون أن يترافق مع أيّ إفصاح) مقابل 60 أعربوا عن ميلهم إلى التنحّي الإيجابي (أي الذي يترافق مع ردّ فعل أو إفصاح أو تعبير عن استياء). أمّا في حال حصول تدخّل داخلي أي من قبل قاض آخر، فقد تراجع عدد الإجابات التي اعتبرت التنحّي مناسباً من 75 إلى 42 إجابة أي ما يمثّل 17%، كما تقلّص في المقابل الفارق بين عدد القضاة الذين اختاروا التنحّي السلبي في هذه الحالة (19 من أصل 254 أي ما يمثّل 7%) والقضاة الذين أرفقوه بفعل إيجابي مضادّ (23 من أصل 254 أي ما يمثّل 9%). تشير هذه الأرقام  إلى ميل قضاة العيّنة للتنحّي من دون الإفصاح عن سببه هو أعلى عند حصول تدخّل داخلي (19) منه عند حصول تدخّل خارجي (15)، وهو التدخّل الذي يكون إجمالاً أكثر خطورة. وعليه، أمكن تقديم الفرضيّة الآتية وقوامها أنّ عدم الإفصاح يرتبط بمراعاة الزمالة أو عدم إرادة نشر الغسيل الوسخ خارج القضاء أكثر ممّا ترتبط بالخوف.

الالتزام بتطوير المعارف الذاتية

في الاتّجاه نفسه، نجد حماسة لدى غالبيّة القضاة في الإجابة عن السؤال المتّصل بكيفيّة تطوير معارفهم الذاتية، علماً أنّه تُرك لقضاة العيّنة حرّيّة إعطاء أكثر من إجابة عن هذا السؤال وأن يرتّبوا خياراتهم وفق أولويّاتهم. وقد جاءت الإجابات وفق الجدول الآتي:

الطرحعدد الإجابات التي أوردت الطرح خياراًعدد الإجابات التي أوردت الطرح خياراً أوّلاً
عبر المطالعة (كتب حقوقية، أوضاع محيطه الاجتماعي) بناء على مبادرة شخصية17379
عبر المشاركة بمؤتمرات بناء على مبادرة شخصية؛ تنظّمها جامعات أو هيئات خارج الإطار القضائي15022
عبر البحث العلمي أو من خلال المؤسّسات التعليمية بناء على مبادرة شخصية16637
عبر المشاركة في مؤتمرات أو ندوات تنظّمها الجمعيّات أو الهياكل القضائية17525
عبر المشاركة في مؤتمرات أو ندوات من واجب الجهات القضائية المختصّة تنظيمها15729
عبر المشاركة بحدّ أدنى إلزامي من الأيّام التأهيلية كلّ سنة، من ضمن فهرس مقترح من المؤسّسات القضائية13720
مختلِف302

ونلحظ أنّ 214 منهم قد حدّدوا الخيار المفضّل لديهم لتطوير معارفهم الذاتية.

أبرز ما نلحظه في هذا الخصوص:

أوّلاً، أنّ مجمل الخيارات المطروحة حازت على غالبيّة إجابات القضاة بنسب تراوحت بين 54% و68% من مجموع قضاة العيّنة. ونستشفّ من ذلك موافقتهم على ضرورة التزام القاضي بتطوير معارفه بطريقة دائمة، في أيّ من الوسائل المذكورة أعلاه وسواء تحقّق ذلك بفضل المبادرة الشخصية لكلّ قاض أو بتنظيم من المؤسّسات والجمعيّات القضائية.

ثانياً، أنّ الخيارات الثلاثة التي حازت على العدد الأكبر من الإجابات (166 إلى 175) هي الخيارات التي يرشح عنها دور فاعل من قبل القضاة سواء من خلال بذل جهد خاصّ بهم لاكتساب المعرفة أو من خلال الاشتراك مع زملاء في تنظيم الندوات والمؤتمرات في إطار الجمعيّات أو الهياكل القضائية أو من خلال المطالعة أو البحث العلمي. هذا مع العلم أنّ عدد القضاة الذين صنّفوا أحد هذه الخيارات خياراً أوّلاً بلغ 141 قاضياً. في المقابل، تراجع عدد الإجابات بالنسبة إلى الخيارات الأخرى التي يؤدّي فيها القاضي دور المتلقّي كما هو الأمر حين يحضر مؤتمرات تنظّمها المؤسّسات القضائية أو الجامعات سواء بإرادته أو إلزامياً. يشير هذا الأمر إلى مقاربة القضاة هذا الالتزام على أنّه التزام يستدعي انخراطاً خاصّاً منهم.

ثالثاً، أنّ قضاة العيّنة قاربوا هذا الالتزام على أنّه قاعدة أخلاقية تلازم الوظيفة القضائية، فيما بدوا أقلّ حماسة حيال فرضه من قبل الهرميّة القضائية بصورة معنوية أو إلزامية. وعليه، وفيما حظيت وسائل اكتساب المعرفة بمعزل عن الهرميّة القضائية على 163 من الخيارات الأولى أي ما نسبته 64%، لم يحظَ خيار وسائل اكتساب المعرفة بفعل هذه الهرميّة إلّا على 49 من الخيارات الأولى أي ما نسبته 19%. ومن اللافت أنّ الخيار الذي حظي على أقلّ عدد من الإجابات هو الخيار الذي يفترض إلزام القضاة بحدّ أدنى من الأيّام التأهيلية كلّ سنة، من ضمن فهرس مقترح من المؤسّسات القضائية حيث لم يعتبره خياراً أوّلاً إلّا 20 قاضياً. ويتلاقى هذا الأمر مع رفض القضاة بأن تُستخدم المدوّنة سبيلاً للإكراه أو التأديب كما تبيّن عند النظر في إجاباتهم بشأن الأهداف المرجوّة منها.

رابعاً، أنّ الخيار الذي حظي بأكبر عدد من الإجابات (175) هو خيار الاشتراك بندوات ومؤتمرات تنظّمها الجمعيّات والهياكل القضائية. ويعبّر هذا الأمر يعبّر بشكل واضح عن توجّه القضاة إلى اعتبار هذا الالتزام التزاماً يتشاركون فيه مع زملائهم في الجسم القضائي بهدف تعزيز مستوى الأداء القضائي. وعليه، تكون مجموعة وازنة من القضاة قد تخطّت مفهوم المسؤوليّة الفردية الذي يرتّب على كلّ قاض واجب تطوير معارفه بنفسه وعلى حدة، لتتبنّى نظام الأخلاقيّات الجماعية الذي يكون فيه كلّ قاض ساهراً على جدارة الجسم القضائي برمّته من خلال المشاركة في نشاطات جماعية تنظَّم في إطار عامّ، يغتني فيها القاضي من خبرة زملائه ويُغنيها. إلّا أنّ حماسة القضاة إلى اكتساب المعرفة بشكل جماعي على هذا الوجه لا تعني أبداً تقليلهم من أهمّيّة الجهود الفردية في اكتساب المعرفة وفق ما يتبيّن من الجدول أعلاه، وبخاصّة بما يتصل بجهود المطالعة والبحث العلمي.

  • المسؤوليّة الخاصّة بالمسؤولين في المؤسّسات والهياكل القضائية

عند سؤال قضاة العيّنة “هل يجب أن تتضمن مدوّنة الأخلاقيّات القضائية نصوصاً خاصّة للقضاة الذين يضطلعون بمسؤوليات قضائية (رئيس غرفة أم رئيس محكمة)، أجابت غالبيّة قضاة العيّنة بالإيجاب (152).

ولدى سؤال القضاة المؤيّدين لوجود قواعد خاصّة بهؤلاء، برّرت غالبيّتهم موقفها بالنظر إلى “المثال الذي يجب أن يشكّلوه لباقي القضاة” (63% موافق تماماً يضاف إليهم 8% موافق إلى حدّ ما مقابل 5% فقط غير موافق). في المقابل، فقد برّرت نسبة أقلّ هذا الموقف بالنظر “للأثر الأكبر لتصرّفاتهم على المجتمع” (39% موافق تماماً يضاف إليهم 18% موافق إلى حدّ ما مقابل 6% فقط غير موافق وغير موافق تماماً). نستنتج من ذلك تصوّراً غالباً لدى قضاة العيّنة بما يفترض بالمسؤولين القضائيين أن يكونوا، وتحديداً تصوّراً غالباً بأن يؤدّي هؤلاء دور المثال الأعلى للقضاة. ويؤشّر هذا الأمر إلى أنّ القضاة قاربوا هذا السؤال من زاوية مدى تمتّع المسؤولين القضائيين بمقامات معيّنة أو بمزايا خاصّة (بما يعكس غلبة المقاربات التقليدية للهرمية القضائية) أكثر ممّا قاربوه من زاوية الوظائف المناطة بهم وما قد تستدعيه من موجبات خاصّة. ويتعزّز هذا الأمر من خلال امتناع نسبة عالية من قضاة العيّنة الذين أيّدوا وضع قواعد خاصّة بالمسؤولين القضائيين عن الإجابة عن الأسئلة المتّصلة بماهيّة هذه القواعد والتي تراوحت بين 39% 46% منهم.

وبالتدقيق في آراء القضاة الذين أجابوا على هذه الأسئلة، نرى أنّهم وافقوا في غالبيّتهم على مجمل الطروحات التي قدّمناها في الاستمارة. ومن أهمّ القواعد التي تجدر الإشارة إليها والتي حظِيَتْ بأعلى نسبة موافقة بين هؤلاء القضاة “تأمين احترام المساواة في المعاملة بين القضاة والمتقاضين في كلّ القرارات المتّخذة”. فقد حصل هذا الطرح على تأييد 54% من مجموع القضاة الذين أيّدوا وضع قواعد خاصّة بالمسؤولين القضائيين (مقابل 7% رفض و39% لا جواب). وفي المقابل، يُلحظ انخفاض نسبة الموافقين على طرح آخر (مراعاة أسمى قواعد الديمقراطية والحوكمة) مقابل ارتفاع نسبة المعارضين له (30% موافق تماماً و14% موافق إلى حدّ ما مقابل 12% معارض تماماً أو إلى حدّ ما و45% لا جواب). وينمّ تراجع التأييد لهذا الطرح عن تسليم لدى أقلّيّة وازنة بمشروعية المسؤولين القضائيين لاتّخاذ القرارات المتّصلة بتنظيم القضاء (وتالياً الثقة بهم) أو على الأقلّ عن حذر إزاء التشاركيّة في اتّخاذ القرارات أو تململ منها.

من ناحية أخرى، سألنا قضاة العيّنة الذين رفضوا تضمين المدوّنة قواعد خاصّة بالمسؤولين القضائيين عن مبرّرات هذا الرفض، وقد طرحنا عليهم لهذه الغاية طرحين هما “إنّ مبدأ المساواة بين القضاة يمنع التمييز بحسب المهمّة أو المركز” و”إنّ القواعد الأخلاقية عامّة كفاية”، طالبين منهم إبداء مدى موافقتهم عليهما. وفيما حظي هذان الطرحان بموافقة غالبيّة قضاة العيّنة، سُجّل في المقابل ارتفاع نسبي لنسبة عدم الموافقة. فقد حظي الطرح الأوّل بموافقة 57% من هؤلاء القضاة تماماً أو إلى حدّ ما فيما عارضه 29% منهم تماماً أو إلى حدّ ما. في المقابل، حظي الطرح الثاني بموافقة 53% من هؤلاء القضاة تماماً أو إلى حدّ ما فيما عارضه 34% منهم.

ومن أبرز ما نستشفّه من هذه الإجابات:

أوّلاً، تظهر النسبة المرتفعة لرفض التمييز بين القضاة (29%) حساسية وازنة إزاء تمتيع المسؤولين بأيّ مقام خاصّ، وهو موقف يناقض تماماً الموقف الذي عبّر عنه القضاة المؤيّدون لوضع قواعد خاصّة بالمسؤولين القضائيين لجهة أهمّيّة تأدية هؤلاء مهمّة المثال الأعلى. ومن شأن هذا الأمر أن يشكّل مؤشّراً إلى تفاوت في نظرات القضاة إلى الهرميّة القضائية الذي يمكن ردّه إلى التفاوت بين أجيال القضاة وتحديداً بين قضاة ما قبل 2011 وقضاة ما بعدها.

ثانياً، يستدعي ارتفاع الأقلّيّة الرافضة لهذين الطرحين التساؤل حول أسباب هؤلاء لرفض تخصيص المسؤولين القضائيين بقواعد خاصّة، الأمر الذي يعزّز فرضيّة أن يكون الرفض لدى هؤلاء مبدئياً في عمقه أكثر ممّا هو مرتبط بسبب معيّن.

ختاماً، تجدر الإشارة إلى أنّ غالبيّة قضاة العيّنة أبدوا في مواضع عدّة من الاستمارة ثقتهم في رؤسائهم. وهذا ما نستشفّه تحديداً من منحهم دوراً أساسياً في تطبيق مدوّنة الأخلاقيّات: أوّلاً، عند اختيار أغلبيّة قضاة العيّنة مجلس القضاء الأعلى مرجعيّةً لاستيضاح الواجبات الأخلاقية في حال وجود شكّ أو التباس (128 من أصل 254 أي ما يمثّل 50%). ثانياً، عند اختيار غالبيّتهم اللجوء الجماعي إلى المجلس في حال تعرّض قاضٍ لاعتداء غير مبرَّر (153 من أصل 247 أي ما يمثّل 62%). ثالثاً، عند إعطاء غالبيّة قضاة العيّنة مجلس القضاء الأعلى أو رئيس المحكمة التي ينتمي إليها القاضي الصلاحيّة في تلقّي شكاوى القضاة في حال حصول تدخّل خارجي أو داخلي في عمله (تباعاً 145 و166 في حال حصول تدخّل خارجي و109 و179 في حال حصول تدخّل داخلي).

الفصل الخامس: الحرّيّة والاستقلاليّة

تتضمّن غالبيّة المدوّنات القضائية فصولاً خاصّة باستقلاليّة القاضي وحياديّته. وتحدّد هذه المدوّنات عموماً الهامش الذي تتركه لحرّيّة القاضي بالتعبير والتجمّع ضمن الفصل الخاصّ بموجب التحفّظ أو بواجب اللياقة devoir de convenance، علماً أنّ معظم المدوّنات المعتمَدة في المنطقة العربية تضيّق على هاتين الحرّيّتين، بحيث أصبح موجب التحفّظ هو المبدأ والتمتّع بهاتين الحرّيّتين هو الاستثناء. وعدا عن أنّ هذه المدوّنات حرمت القضاة من حرّيّات دستورية، فإنّها عكست حذراً شديداً وموقفاً سلبياً إزاء حرّيّة القضاة، بحيث صوّرتها على أنّها تضرّ عموماً بالعمل القضائي مع حجب الإيجابيّات التي قد تنتج عنها كما السلبيّات التي تنتج عن قمعها. وهي بذلك استعادتْ النّظرة التقليدية لمواصفات القاضي الذي يتعيّن عليه أن يعمل بعزلة وصمت تامَّيْن.

وقد اكتسبتْ إشكاليّة حرّيّة القضاة في تونس أهمّيّة خاصّة بعد جانفي 2011، حيث استخدم القضاة حرّيّتَيْ التعبير والتجمّع بشكل واسع، وفي محطّات أخذ العديد منها طابعاً نضالياً يهدف إلى تحقيق استقلاليّة القضاة وبخاصّة في سياق صياغة الدستور ومشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء. وقد تجلّى ذلك في ممارسة القضاة الواسعة لحرّيّة التجمّع من خلال إعادة إحياء الهيئة الشرعية لجمعيّة القضاة التونسيين غداة الثورة التي سرعان ما تحوّلت إلى إحدى القوى الثورية البارزة في المشهد التونسي. كما تمّ تأسيس نقابة للقضاة التونسيين واتّحاد القضاة الإداريين فضلاً عن جمعيّات واتّحادات قضائية أخرى. وإلى جانب ذلك، شهدتْ حرّيّة التعبير للقضاة توسّعاً كبيراً من خلال انخراط العديد منهم في وسائل التواصل الاجتماعي.

وقد ضُمِّن التصوّر التجديدي للأخلاقيّات القضائية تساؤلات عدّة حول كيفيّة مقاربة حرّيّتَيْ القضاة في التجمّع والتعبير، سواء لجهة وظيفتها في حماية استقلال القضاء أو لجهة حدودها التي يتعيّن على القضاة الالتزام بها. وقد خلص التصوّر التجديدي إلى وضع المعادلة القائمة على أنّ الاستقلاليّة تبقى منقوصة وهشّة من دون الاعتراف بحرّيّة القاضي، وأنّ تمتّع القاضي بحرّيّته لا تحدّه إلّا مقتضيات الاستقلاليّة. وعليه، وفق هذا التصوّر، يصبح استقلالُ القاضي غايةَ حرّيّتِه وقيدَها في آن.

انطلاقاً من هذا التصوّر،ت ضُمّنت الاستمارة عدداً من الأسئلة التي هدفت إلى معرفة مواقف القضاة من الجدليّة القائمة بين حرّيّتهم واستقلاليّتهم، سنعمد هنا إلى تحليل إجابات هذه الأسئلة.

  • استقلاليّة من دون حرّيّة؟

في هذا الصدد، سنتناول الإجابات التي نستشفّ منها موقفاً لقضاة العيّنة بشأن مدى تمسّكهم بحرّيّة التعبير والتجمّع، ومدى تعويلهم عليهما في الدفاع عن استقلاليّتهم.

أوّل ما نجده في هذا المضمار هو إجاباتهم عن السؤال الأوّل، حول الهدف من وضع وثيقة الأخلاقيّات القضائية، حيث عُرض على القضاة اختيار أكثر من هدف مع إمكانيّة ترتيب أولويّة خياراتهم. ومن اللافت أنّ عدداً وازناً من قضاة العيّنة (143 من أصل 254) اختار “التأكيد على حقوق وحرّيّات القضاة، بالتوازي مع واجباتهم” هدفاً للمدوّنة، علماً أنّ 37 منهم اختاروا هذا الهدف خياراً أوّلاً (أي ما يمثّل 17% من مجموع الذين حدّدوا خيارهم الأوّل). وعليه، تشير الإجابات عن هذا السؤال إلى اهتمام كبير من القضاة بتضمين المدوّنة ما يضمن حرّيّاتهم. وفي الاتّجاه نفسه، نُسجّل إجابات القضاة عن السؤال المتّصل بدرجة التفصيل الواجب اعتمادها في صياغة المدوّنة، حيث رأى 30% وجوب “اعتماد الدقّة بالنسبة إلى الأمور المتّصلة بالحرّيّات أو بالإجابة على التحدّيات الأساسية”.

وإلى جانب إعلان قضاة العيّنة تمسّكهم بحرّيّتهم، تضمّنت الاستمارة أسئلة ذات دلالة على مقاربتهم لوظيفتها في حماية استقلاليّتهم. ومن أبرز الأسئلة في هذا الإطار، الأسئلة التي تمحورتْ من جهة حول مدى وجوب تضامن القضاة مع زملائهم الذين قد يتعرّضون لاعتداء غير مبرَّر أو غير متناسب، ومن جهة أخرى حول كيفيّة تصدّي القاضي للتدخّل المباشر في عمله. وقد ترافقت هذه الأسئلة مع طروحات عدّة حول وسائل التضامن أو التصدّي (ومنها ما يفترض التمتّع بحرّيّة جماعية أو فردية)، طُلب من القضاة إبداء آرائهم بشأنها.

ومن أبرز ما نستشفّه من الإجابات عن هذه الأسئلة:

  • إجماع قضاة العيّنة على وجوب تضامنهم مع أيّ زميل لهم قد يكون تعرّض لاعتداء غير مبرَّر أو غير متناسب (247 نعم و1 كلا و6 من دون إجابة).
  • موافقة معظم القضاة على وجوب التعبير عن تضامنهم من خلال وسائل غير مؤسّساتية، سواء من خلال القيام بنشاطات من خلال الجمعيّات والهياكل المهنية أو من خلال القيام بنشاطات جماعية عامّة في الوسائل الإعلامية أو الأماكن العامّة حيث بلغ مجموع هؤلاء 163 (66%). ويُلحظ هنا أنّ القضاة أبدوا ميلاً أكبر للقيام بنشاطات تضامنية من خلال الجمعيّات والهياكل المهنية (151 من أصل الـ247 الذين أيّدوا التضامن أي 61% من مجموع قضاة العيّنة، علماً أنّ 39 منهم أي 16% من هؤلاء اعتبروه الردّ المناسب الوحيد) من الميل إلى القيام بنشاطات جماعية عامّة في الوسائل الإعلامية أو الأماكن العامّة (56 من أصل 247 أي 23% من مجموع قضاة العيّنة، علماً أنّ 6 منهم فقط اختاروا هذه الوسيلة وسيلةً حصرية للتعبير عن تضامنهم). ويؤشّر هذا الأمر إلى بروز أقلّيّة وازنة للتحرّكات في الفضاء العامّ، وإن بقيت الغالبيّة ميّالة إلى التحرّك المؤطَّر في جمعيّات أو هياكل قضائية.

يُضاف إلى ذلك أنّ تعويل القضاة على حرّيّة التجمّع وتأسيس جمعيّات لضمان استقلاليّتهم في مواجهة الاعتداءات والتدخّلات لا ينفي، وفق ما يظهر من الإجابات عن الأسئلة، تعويلهم على الحماية المؤسّساتية وبخاصّة المتمثّلة بالمجلس الأعلى للقضاء. وهذا ما نستشفّه من أنّ القسم الأكبر من هؤلاء (97 أي 39% من مجموع قضاة العيّنة) رأى ضرورة في أن يقترن الردّ من خلال الجمعيّات بوسائل أخرى أهمّها اللجوء جماعياً إلى مجلس القضاء الأعلى أي إلى الحماية المؤسّساتية.

وطرحنا في آخر الاستمارة أسئلة مشابهة بعض الشيء، لكنّها لا تتعلّق بموجب التضامن في صدّ الاعتداء على قاض بل بالوسائل التي قد يلجأ إليها القاضي للدفاع عن نفسه في حال تعرُّضه لتدخّل. ولدى التدقيق في الإجابات، أمكن تسجيل ما يلي:

  • أوّلاً، تراجع ملحوظ في اختيار قضاة العيّنة اللجوء إلى أطر غير مؤسّساتية (تحديداً الجمعيّات المهنية والرأي العامّ) في معرض صدّهم تدخّلاً خارجياً في عملهم. فلم يتجاوز عدد القضاة الذين اختاروا إحدى هذه الوسائل 82 قاضياً (32% من مجموع قضاة العيّنة) علماً أنّ القسم الأكبر من هؤلاء (69 قاضياً؛ 27% من مجموع هؤلاء) قد أبقوا ضمن وسائل الدفاع عن النفس إمكانيّة اللجوء إلى الأطر المؤسّساتية إلى جانب غير المؤسّساتية، سواء اتّصل الأمر بإطلاع رئيس المحكمة التي ينتمي إليها القاضي و/أو مجلس القضاء الأعلى و/أو النيابة العامّة. مقابل هذا التراجع، نلحظ ارتفاعاً في عدد القضاة الذين اختاروا اللجوء إلى الوسائل المؤسّساتية في هذه الحالات حيث بلغ مجموعهم 225 قاضياً (89%). وعليه، يظهر فارق واضح بين إجابات القضاة عن هذا السؤال وإجاباتهم عن السؤال المتّصل بكيفيّة تضامنهم مع زميل معتدى عليه، حيث أعلن 66% عن استعدادهم للجوء إلى الأطر غير المؤسّساتية مقابل 72% أعلنوا استعدادهم للجوء إلى الأطر المؤسّساتية.
  • ثانياً، عند التدقيق في إجابات القضاة حول الوسائل المستخدَمة لصدّ التدخّل الداخلي، أمكن تسجيل الاتّجاه نفسه لديهم، حيث تراجع أيضاً عدد القضاة الذين اختاروا اللجوء إلى الوسائل غير المؤسّساتية ليصبح 57 قاضياً (22% من مجموع قضاة العيّنة). وهنا أيضاً لحظنا ارتفاعاً في عدد القضاة الذين أعلنوا استعدادهم للجوء إلى الأطر المؤسّساتية حيث بلغ عددهم 217 أي ما نسبته 85%.
  • ثالثاً، عند التدقيق في إجابات قضاة العيّنة الذين أعلنوا استعدادهم اللجوء إلى الوسائل غير المؤسّساتية لصدّ تدخّل خارجي أو تدخّل داخلي، نلحظ أنّ قلّة قليلة منهم اختارت اللجوء إلى الرأي العامّ (16 لصدّ التدخّل الخارجي و8 لصدّ التدخّل الداخلي). وهذا الأمر إنّما يشير إلى استمرار حذرهم إزاء ممارسة حرّيّة التعبير في الفضاء العامّ بصفتهم أفراد لصدّ التدخّل في أعمالهم.

وبالعودة إلى السؤال الذي طرحناه أعلاه، حول مدى تعويل القضاة على حرّيّة التجمّع والتعبير للدفاع عن استقلالهم، أمكننا الإجابة بأنّ تعويلهم على حرّيّة التجمّع يزيد بقدر ما تزيد المخاطر على استقلالهم، حيث بلغت نسبة التعويل على هذه الحرّيّة 66%، في حال “الاعتداء على قاض” فيما انخفضت إلى 32% في حال حصول تدخّل خارجي في عمل القاضي، لتنخفض أيضاً إلى 22% في حال حصول تدخّل داخلي في عمله. وتجد هذه الأرقام ما يبرّرها في توجّه القضاة للاقتصاد في اختيار وسائل للدفاع عن أنفسهم أو عن زملائهم وفق خطورة التهديد الذي يحدق بهم من منطلق اختيار الوسيلة التي تبدو الأكثر تناسباً مع كلّ مسألة. في المقابل، يسجَّل أنّ تعويل القضاة على وسائل التحرّك أو التعبير في الفضاء العامّ يبقى محصوراً بأقلّية منهم.

  • حدود الحرّيّة:

وُضعت أسئلة الاستمارة على أساس أنّ الحرّيّة حقٌّ دستوري معترَف به للقاضي شأنه شأن جميع المواطنين. وتضمّنت أسئلة تمكّننا من معرفة موقف قضاة العيّنة من الحدّ من حرّيّتهم هذه.

في هذا السياق، طرحنا عليهم السؤال التالي: “إنّ حرّيّة التعبير للقضاة حقّ معترَف به. هل ثمّة حدود برأيكم لممارسة هذه الحرّيّة؟” وكان بإمكانهم اختيار طرحٍ أو أكثر من الطروحات التالية: “على القاضي أن يمتنع عن إطلاق أيّ تصريح غير مسنَد على حجج، أو يعكس أفكاراً مسبقة أو ينمّ عن خفّة في إبداء الآراء، في حال كان من شأن هذه التصريحات أن تؤثّر على حقوق أو اعتبار الغير”، “في كلّ الحالات للقضاة الحقّ في الفكاهة والنكتة”، و”على القاضي أن يبرهن عن حرص ومسؤوليّة”. وعليه، يُفهَم أنّ القضاة أُعطوا الخيار بين تصوّرات مختلفة عن حرّيّة التعبير التي يتمتّع بها القاضي.

فالطرح الأوّل يعكس تصوّراً لقاضٍ يُفترض به أن يكون دقيقاً ومنطقياً في ما يصرّح به، إنّما في الحالات التي قد تؤثّر على حقوق أو اعتبار الغير فقط وليس في المطلق. فوفق هذا الطرح يكون للقاضي أن يطرح فرضيّات أو يدلي بتصريحات غير رصينة، طالما أنّها لا تؤثّر على حقوق أو اعتبار الغير. كما له أن يدلي بتصريحات تؤثّر على حقوق أو اعتبار الغير طالما أنّ هذه التصريحات مسنَدة ورصينة. وهو طرح يختلف إلى حدّ ما عن الطرح الثالث الذي يفترض أن يلتزم القاضي في كلّ تصريحاته الحرص والمسؤوليّة، بمعنى أن يكون دقيقاً ومنطقياً في مجمل الأمور التي يخوض فيها حتّى لو لم تؤثّر بالضرورة على حقوق أو اعتبار الغير. أمّا الطرح الثاني الذي يتّصل بحقّ القاضي بالفكاهة والنكتة فيفترض تصوّرَ تمتّعِ القاضي بدرجة أعلى من الخفّة في التعبير، تتجاوز ما يعكسه الطرحان الآخران. بمعنى أنّ هذا السؤال وضع أمام القضاة ثلاثة تصوّرات تعكس درجات مختلفة من الصرامة أو الخفّة لدى القاضي في ممارسة حرّيّة التعبير. والدافع الأساسي في التركيز على هذا الجانب من شخصيّة القاضي هو فهم موقف القضاة التونسيين من مفاهيم تقليدية رائجة تقوم على هيبة القضاء ووقاره. ففي حين من المُسلَّم به وفق معايير استقلال القضاء أنّ على القاضي أن يكون متحفّظاً في كلّ ما قد يسبّب ضرراً غير مبرَّر للآخرين بما يؤثّر على استقلاله أو تجرّده الظاهرَيْن، يبقى الجدل بشأن مدى حرّيّة القاضي في ما لا يتناقض مع ذلك مقبولاً من منظور هذه المعايير.

وقد جاءت الإجابات عن هذه الأسئلة معبِّرة جدّاً.

  • لاحظنا حماسة لدى قضاة العيّنة للإجابة عن هذا السؤال، حيث امتنع 4 منهم فقط عن الإجابة. وهي حماسة نستشفّ منها اهتماماً كبيراً لدى هؤلاء بالمسائل المتعلّقة بحرّيّتهم وحدودها.
  • وسلّم مجمل القضاة بوجوب امتناعهم عن أيّ قول قد يسيء من دون مبرِّر إلى حقوق الغير (بما يمسّ بتجرّدهم واستقلالهم)، بدليل أنّ الغالبيّة الكبرى (247 قاضياً أي ما يمثّل 97%) اختاروا أحد الطرحين الأوّل أو الثالث أو كليهما معاً.
  • في المقابل، انقسم القضاة حول درجة الوقار التي ينبغي أن يحافظ عليها القاضي أو الخفّة التي يُفترض أن يتمتّع بها. ففي حين اختار 37 قاضياً (15%) الطرح الثالث (أن يبرهن القاضي عن حرص ومسؤوليّة) حصراً، بما يؤشّر إلى تمسّكهم بتصور تقليدي للقاضي، أيّد 44 قاضياً (17%) الطرح الثاني (في كلّ الحالات للقضاة الحقّ في الفكاهة والنكتة) بما يؤشّر إلى قبولهم بدرجة عالية من الحرّيّة للقاضي. بمعنى أنّ الأكثر تمسّكاً بالوقار بدوا أقلّ عدداً بقليل من الأكثر انفتاحاً على الحرّيّة. في المقابل، اختارت الغالبيّة العظمى (205 قاضياً أي ما يمثّل 81%) الطرح الأوّل بما يعكسه من موقف وسطي بين الفئتين المذكورتين أعلاه.

أخيراً، تجدر الإشارة إلى أنّ هذه النتائج تتقارب مع إجابات قضاة العيّنة حول مدى إمكانيّة قيامهم بنشاطات اجتماعية خارج النطاق القضائي. ففي هذا الخصوص أيضاً، جاءت غالبيّة قضاة العيّنة لتؤكّد أنّ الحرّيّة هي المبدأ والاستقلاليّة هي القيد الوحيد عليها. فمن جهة، عند سؤالهم عن مدى إمكانيّة أن يكون للقاضي التزامات عامّة، مالت الغالبيّة المطلقة إلى الاعتراف بالحرّيّة كمبدأ مع تقييدها بعدم الانخراط بنشاطات تهدف إلى الفوز في انتخابات سياسية عامّة (149 قاضياً؛ 59%). في المقابل، لم يحصل الجواب الذي يحصر نشاط القاضي في وظيفته القضائية إلّا على موافقة 30 قاضياً (12%). كما أنّ الذين أيّدوا إمكانيّة القاضي بالانخراط في أيّ نشاط عامّ دون أيّ قيد لم تتجاوز الـ59 قاضياً (23%).

كما يُسجَّل أنّ قضاة العيّنة أيّدوا حرّيّة القاضي في المشاركة في الحياة العامّة وإقامة علاقات اجتماعية، شرط الامتناع عن القيام بأيّ نشاط يمسّ باستقلاليّته وحياده أو بالمساواة مع زملائه (85% من القضاة الذين أجابوا عن هذا السؤال). كما أيّدوا امتناع القاضي عن إقامة علاقات عامّة مع السياسيين أو أصحاب النفوذ في عالم المال والتجارة (88% من القضاة الذين أجابوا عن هذا السؤال).

الفصل السادس:

كيف يقارب القضاة وظيفتهم ودورهم القضائي؟

أو أيّ ولاء لقيم المجتمع الديمقراطي؟

يتناول هذا القسم الغاية من الوظيفة القضائية. ويحصرها التصوّرُ التقليدي لوظيفة القاضي في خدمة القانون، بالمعنى الضيّق للكلمة أي التشريع، غير أنّ الدستور التونسي الجديد جاء ليكرّس وظيفة تقدّمية للقاضي يكون فيها حامياً لأسس المجتمع الديمقراطي، أي حقوق وحرّيّات الشعب. بالتالي، يُفهم من الدستور أنّه أناط بالقاضي مهمّة تفسير القوانين وتطبيقها على النحو الذي يجعلها الأكثر انسجاماً مع الحقوق والحرّيّات المكرَّسة في الدستور كما في أيّ نظام ديمقراطي. ومن هذا المنظور، يتولّى القاضي دور “عقلنة” القوانين لتصبح أكثر ملاءمة لمبادئ الديمقراطية، وفي مقدّمتها الحرّيّة والمساواة. وقد تتمّ هذه العقلنة من خلال تأويل القوانين أو من خلال التوسّع في تطبيق الاتّفاقيات الدولية مثلاً. وهذا التصوّر الدستوري لدور القضاء إنّما يشكّل مدعاة للنظر في مدى انسجام تصوّر قضاة العيّنة لدورهم معه. فهل يعدّ القاضي التونسي نفسَه اليوم حامياً للحقوق والحرّيّات بالدرجة الأولى، أم أنّه لا يزال متأثّراً أو مقتنعاً بالتصوّر الكلاسيكي للقاضي الذي يحبسه في تطبيق القوانين من دون أن يكون له أيّ دور في تقييم مدى عدالتها أو تناسبها مع قيم مجتمع ديمقراطي؟

نجد، عند التدقيق في الاستمارة، أنّ عدداً من الأسئلة قارب ماهيّة الوظيفة القضائية وتصوّر القضاة لها وإن بصورة غير مباشرة.

ومن أهمّ الأسئلة التي تمنحنا إضاءة في هذا الخصوص، السؤالان حول المزايا الأساسية التي يجب على القاضي أن يتمتّع بها للقيام بمهامّه وحول المزايا التي يقتضي إيلاؤها عناية أكبر لتجاوز العوائق القائمة ضماناً للالتزام بها. وقد اقترحنا على القضاة 20 مزيّة في كلا السؤالين طالبين منهم ترتيب أولويّاتهم بشأنها. وقد جاءتْ الإجابات عن هذين السؤالين متقاربة، بما يعني أنّ قضاة العيّنة رأوا أنّ المزايا الأهمّ هي نفسها التي يطرح توفّرها تحدّيات كبيرة في واقع القضاء التونسي.

أبرز ما نلحظه، أنّ المواصفات الخاصّة بالقاضي وأهمّها “التجرّد والحياد ومعاملة المتقاضين بشكل متساوٍ” و”الصدق والنزاهة” أو “الجدارة” حظيت مجتمِعةً بالمرتبة الأولى من خيارات قضاة العيّنة ردّاً على كلا السؤالين (157 و130 تباعاً). يشير هذا الأمر إلى أنّ تكريس هذه المزايا البديهية لأيّ قاضٍ لا تزال أمراً تقف عقبات عدّة أمام تحقيقه، علماً أنّ هذه العقبات تكمن أصلاً في شخص القاضي وليس في أيّ من العوامل الخارجة عنه والمؤثّرة في أدائه. هذا الاهتمام الكبير من قضاة العيّنة بإيلاء الأولويّة للمزايا المرتبطة بشخص القاضي لا نجد ما يوازيه في ما يتّصل بالمزايا المرتبطة بماهيّة وظيفته سواء اتّصلت بالوظيفة التقليدية (احترام القانون) أو بالوظيفة المكرَّسة دستورياً (الالتزام بحماية الحقوق والحرّيّات). وعليه، لم يختَرْ إلّا عددٌ قليلٌ من القضاة “احترام القانون” أو “الالتزام بحماية الحقوق والحرّيّات” خياراً أوّلاً، وهو عددٌ لم يتجاوز في كلتا الحالتين عدد أصابع اليدين. وعليه، أمكن أن نستخلص من إجابات القضاة أمرين أساسيين:

الأوّل، أنّ الهاجس الأساسي للقضاة اتّصل بالمواصفات الأساسية الواجب توفّرها لديهم، بما يعكس اقتناعاً منهم بأولويّة ضمان هذه المواصفات داخل الجسم القضائي بمعزل عن ماهيّة الوظيفة القضائية التي بدت مسألة غير منتجة في المرحلة الراهنة.

الثاني، وهو ينتج عمّا تقدّم ويرتبط به: أنّ قلّة من القضاة عرّفوا أنفسهم أو حدّدوا هويّتهم انطلاقاً من وظيفتهم القضائية، سواء كانت تقليدية أم تجديدية. بمعنى أنّهم يبقون في منطقة رمادية بما يتّصل بماهيّة وظيفتهم: فلا هم يتمسّكون بالتصوّر التقليدي لهذه الوظيفة ولا هم يعتنقون التصوّر التجديدي المكرَّس في الدستور ممّا يبقيهم على مسافة منه. وكأنّهم يصرّحون بأنّ كسب ثقة الناس حالياً يتمّ من خلال التشدّد في مواصفات القاضي وضمان حياديّته وتجرّده وصدقه ونزاهته، أكثر ممّا يتمّ من خلال التزامه بالقانون ولو على حساب الحرّيّات أو من خلال التزامه بالحرّيّات ولو خلافاً لظاهر القانون والتي تبقى مسألة غير ملحّة راهناً أو أقلّه قابلة للتأجيل.

ومع أهمّيّة ما رشح عن السؤالين السابقين، يبقى أنّ الإجابات عن أسئلة أخرى كشفتْ رغم ذلك عن اقتناع قضاة العيّنة بمسؤوليّتهم تجاه المجتمع وضرورة أن يكونوا على بيّنة من مشاكله وحاجاته، وعلى تواصل مع المنظّمات الحقوقية والمتخصّصة. ومن أهمّ الأسئلة المعبّرة في هذا الخصوص:

  • السؤال 1 من الاستمارة بشأن الهدف المنشود من وضع وثيقة للأخلاقيّات القضائية، الذي كنّا تناولناه في مواضع عدّة أعلاه. ففيما طُلب من القضاة اختيار أكثر من إجابة، وترتيب خياراتهم وفق الأولويّة التي يرونها مناسبة، اختار العدد الأكبر من القضاة خياراً أوّلاً “تأمين ثقة الجمهور بالقضاء”، 73 قاضياً من أصل 254، يضاف إليهم 11 قاضياً اختاروا خياراً أوّلاً “توعية وإطلاع الجمهور على حقوق وواجبات القاضي”. بمعنى أنّ جزءاً وازناً من قضاة العيّنة (84 قاضياً أي ما نسبته 33%) اعتبر أنّ الهدف الأوّل من أخلاقيّاتهم هو كسب ثقة الناس وتمكينهم من مساءلة القضاة على أساسها، علماً أنّ غالبيّتهم وافقت على هذا الخيار من ضمن الخيارات المطروحة (145 بالنسبة إلى تأمين ثقة الجمهور؛ 111 بالنسبة إلى توعية وإطلاع الجمهور على حقوق وواجبات القضاة). ويشكّل هذا القبول الواسع لهذه الأهداف مؤشّراً إلى تهيّؤ القضاة للقبول بتصوّرات تجديدية لوظيفتهم في حال كانت شرطاً لكسب ثقة الجمهور بهم أو كان من شأنها تعزيز هذه الثقة.

ويتعزّز قولنا هذا على ضوء إعلان غالبيّة قضاة العيّنة (126 قاضياً أي ما يمثّل 50% منهم 23 حدّدوه خياراً أوّلاً) موقفاً مرناً من أخلاقيّاتهم بفعل اختيارهم “إتاحة المجال أمام القضاة لتعميق التفكير في أدوارهم” ضمن أهداف وضع وثيقة الأخلاقيّات القضائية.

  • السؤال 5 عن كيفيّة إشراك المجتمع المدني في إعداد مدوّنة الأخلاقيّات القضائية. وقد آثرت أكثريّة القضاة في إجاباتها إشراك الأشخاص والمنظّمات غير الحكومية المتخصّصة (135 قاضياً أي ما يمثّل 53% من مجموع قضاة العيّنة ومنهم 83 اختاروا هذا الطرح حصراً).
  • السؤال 26 بشأن كيفيّة تطوير القضاة لمعارفهم. وقد عبّر قضاة العيّنة في إجاباتهم عن هذا السؤال عن انفتاحهم على المجتمع من خلال تفضيل واضح لآليّات تطوير المعارف من خلال اللجوء إلى موارد أو مؤسّسات من خارج الموارد أو المؤسّسات القضائية، فضلاً عن تطلّعهم إلى اكتساب معارف أكثر حول مشاكل المجتمع وحاجاته. وتأكيداً على ذلك، نسجّل أنّ الخيار الأوّل للقضاة تمثّل أوّلاً في اللجوء إلى “المطالعة (كتب حقوقية، أوضاع محيطه[م] الاجتماعي)” (79 خياراً أوّلاً؛ 31% من قضاة العيّنة وهي أعلى نسبة)، وقد أعقبه البحث العلمي والمؤسّسات التعليمية (37 خياراً أوّلاً؛ 15% من هؤلاء)، تضاف إليها المؤتمرات المنظّمة من قبل جامعات أو هيئات خارج الإطار القضائي (22 خياراً أوّلاً؛ 9% من هؤلاء). بمعنى أنّ قرابة 54% من قضاة العيّنة اختاروا إطاراً اجتماعياً من خارج الأطر القضائية خياراً أوّلاً لتطوير معارفهم، بما يبقيهم على بيّنة من تطوّر أوضاع المجتمع وحاجاته وتالياً أكثر قدرة على تفسير القانون أو تطبيقه بما يتلاءم مع هذه الأوضاع والحاجات ويبعدهم عن نموذج القاضي خادم القانون ويقرّبهم من نموذج القاضي الرائد القادر على تطوير القانون من منطلق ولائه لمجتمعه.
  • السؤال 27 الذي تمحور حول مدى إمكانيّة أن يكون للقاضي التزامات عامّة واجتماعية. وقد عبّرت هنا أيضاً إجابات غالبيّة قضاة العيّنة عن تمسّكهم بحرّيّة الانخراط في قضايا مجتمعهم كسائر المواطنين. فقد بلغ مجموع الذين أيّدوا حقّ القاضي بـ”الالتزام بأيّ نشاط عامّ باستثناء النشاطات التي تهدف إلى الفوز في انتخابات سياسية عامّة” أو “التمتّع بكلّ الحقوق العامّة كأيّ مواطن؛ (…) والانخراط في أيّ نشاط عامّ دون أيّ قيد” 208 (82% منهم). وبذلك يكون قضاة العيّنة قد أعلنوا تمسّكهم بكامل حرّيّتهم للقيام بنشاطات اجتماعية أو حقوقية، بما فيها مناصرة قضايا اجتماعية معيّنة، قد تهدف إلى تعديل قانون أو إلغائه. ويؤمَل من توجّه كهذا أن يعزّز هو الآخر النموذج التجديدي للوظيفة القضائية.
  • السؤال 29 الذي دُعي فيه القضاة إلى إبداء مدى موافقتهم على أنّ “على القاضي أن يحصر التزاماته المهنية غير القضائية بنشاطات من شأنها توسيع آفاقه، والسماح له بالاطّلاع على مشاكل المجتمع بشكل مكمّل للمعارف التي يستمدّها من ممارسة مهامّه القضائية”. وقد وافقت نسبة 46% تماماً أو إلى حدّ ما على هذا الطرح مقابل 12% لم يوافقوا عليه و43% لم يعطوا أيّ إجابة. ومن شأن هذه النتيجة أن تبيّن مدى اقتناع القضاة بأهمّيّة الاطّلاع على مشاكل المجتمع بهدف تطوير أدائهم القضائي.

نشرت هذه المقالة في العدد 20 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

قضاء تونس في زمن الياسمين

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، مجلة ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس ، المهن القانونية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني