لم تكن مصر طوال تاريخها دولة علمانية – أى دولة تتبنى فصل الدين عن هيكل الدولة-، فمنذ عهد الفراعنة لعب الدين دوراً محورياً فى حياة المصريين، وفى كيان الدولة المصرية ذاتها. ومنذ دخول الإسلام مصر، بدأت تتشكل هويتها على أساس الدين، حتى صارت الهوية الدينية لمصر جزءا لايتجزأ من هويتها الوطنية. وقد أكدت الدساتير المصرية الحديثة هذه الحقيقة، وبعد ثورة 25 يناير 2011، استغلت التيارات الاسلامية الهوية الدينية للوصول إلى الحكم، وسعت الى استبدال هوية دينية خالصة بالهويةالوطنية للمصريين،تحت
مسميات عدة، لعل أظهرها كان "أخونة الدولة" وحماية المجتمع للدين والقيم الأخلاقية للأسرة المصرية، وغير ذلك من التعبيرات التى حفلت بها السنة التي شهدت الحكم الاخواني لمصر. وعلى الرغم من انتهاء الحكم الإسلامى، ستظل الهوية الدينية الوسطية جزءا من هوية الشعب المصري الذي هو أهم ركن فى الدولة. ومن أجل ذلك، يكون من الضرورى عند تناول هوية الدولة المصرية فى دستور مصر الثورة أن نبدأ بالهوية الدينية للشعب، ثم بالهوية الوطنية للدولة.
الهوية الدينية للشعب:
في دستور 2014، كما فى الدستور السابق، تم التأكيد على الهوية الإسلامية للدولة فى المادة الثانية من الدستورين، التي صارت جزءا من التراث الدستورى المصرى الحديث: الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. وقد كان من الأفضل في تقديرنا أن لا ينص الدستور على دين للدولة، وهى شخص معنوي، ويكتفى بالنص على دين غالبية سكان الدولة، كأن يكون النص: الإسلام دين غالبية سكان الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع.
لكن تم إلغاء المادة 219 من دستور 2012، والتى كانت تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة». فهذه المادة، التى كانت من الإبداعات التى تغنى بها السلفيون، بما تضمنته من تفسير لمبادئ الشريعة الإسلامية، كان من شأنها خلق إشكالات دينية يكتنفها الغموض، وتفسح المجال للاختلاف وللمتاجرة بالدين، كما كان من شأنها أيضا أن تؤدى إلى الجمود الفقهى وغلق باب الاجتهاد، وتضارب التشريعات وفقًا للاجتهادات الفقهية المعاصرة فى مسائل مستقرة ومتفق عليها، مثل المواطنة والجنسية والنظام الانتخابى والنظام العقابى بالتعازير التى لا تدرأ بالشبهة كالحدود. أما دستور 2014، فقد حسم تفسير المبادئ الشرعية بما انتهت إليه أحكام المحكمة الدستورية العليا من أنها الأحكام الواردة فى نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وهو ما يجنب مصر الولوج فى فتنة تشريعية ومجتمعية كبرى.
– ألغى دستور 2014 من المادة 4 من دستور 2012 الفقرة الخاصة بجعل «هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف» مرجعية دستورية فى الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية. فمع وجود هذه الفقرة كان من المتصور نشوء ما يعرف بولاية الفقيه، التي تصف الاجتهاد الفقهى، الذي هو عمل من نتاج الفكر البشرى لاقدسية ولا معصومية له،بأنه من الشريعة الإسلامية الواجبة الاتباع فى كل زمان ومكان، وهو مايجعله سيفًا مشهورا فى وجه المجتهدين الآخرين، كما أنها كانت سترتب فى الوقت ذاته إزدواجية المرجعية الدستورية بين الأزهر والمحكمة الدستورية العليا المختصة أصلا بالرقابة على دستورية القوانين، فضلًا عن سحب السلطة التشريعية من مجلس النواب، وجعلها فى الحقيقة بيد هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف. وقد صحح دستور 2014 صفة الأزهر الشريف بأنه «هيئة إسلامية علمية مستقلة»، بعد أن كان في دستور 2012 المعطل: «هيئة إسلامية مستقلة جامعة». فهذا النص الأخير كان يصف الأزهر بالإسلام المطلق الجامع لكل مقاصده، والحق أن الأزهر يختص بالجانب العلمي في الإسلام. غير أنه توجد ملاحظة على نص المادة الخاصة بالأزهر الشريف، حيث ذكر أن الأزهر: "هو المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية" (م7)، وكلمة أساسى هنا تعنى وجود مرجعيات أخرى ثانوية قد يرجع إليها، مثل المرجعية السلفية، ومرجعية خطاب السلفية الجهادية، أو خطاب تنظيم القاعدة أو غيرها من خطابات الجماعات الإسلامية المتشددة، لهذا كان الأجدر حذف كلمة «الأساسي» من دستور 2014، لكي تصاغ الجملة على النحو التالى: وهو المرجع فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية.
– حظر دستور 2014 الاستغلال السياسي للدين، فنص صراحة في مادته (74) على أنه: «لا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى، أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل». أما دستور 2012 المعطل، فكان يفتح الباب أمام الأحزاب الدينية، التى تزعم مرجعيتها الدينية وبرامجها الشرعية، حيث كانت المادة (6) منه تقتصر فى نصها على أنه: "لا يجوز قيام حزب سياسي على أساس التفرقة بين المواطنين"، وهو نص لا يحظر الأحزاب الدينية صراحة أو دلالة. وبعد أن تم إقرار الدستور الجديد، يكون على الأحزاب الدينية القائمة توفيق أوضاعها، ما لم يكن بقاؤها كما هى هو مقابل دعمها لخارطة الطريق ،والتنازل عن بعض المواد الخلافية فى دستور 2012 المعطل، وعدم انحيازها للنظام السابق على ثورة 30 يونيه وقد كانت جزءا منه.
– قرر دستور 2012 المعطل صيانة حرية الاعتقاد، وهو ماكان ينسحب على غير الأديان السماوية المعترف بها فى الدولة، فقد نصت المادة (43) منه على أن: «حرية الاعتقاد مصونة»، لكن حرية ممارسة الشعائرالدينية وإقامة دور العبادة التى تكفلها الدولة هى التى قيدت بالأديان السماوية. أما دستور 2014، فقد اكتفى باستبدال وصف "مطلقة" ب"مصونة"، وذلك في مادته 64، ونصها"حرية الاعتقاد مطلقة". والإطلاق يعنى عدم تدخل الدولة بأى صورة في معتقدات الناس. وبذلك، أطلق دستور 2014 الأمر فيما يتعلق بحرية الإعتقاد التى لا تتقيد بأى قيد، أيا كان معتقد الإنسان. أما حرية الممارسة العلنية للشعائر الدينية وإقامة دور العبادة، فى إطار الأديان السماوية المعترف بها من الدولة، فقد صارت حقا ينظمه القانون، من دون أن تتمتع بكفالة دستورية. الا أن قراءة هذه المادة لا بد أن يأخذ أيضا بعين الاعتبار نص المادة 93 من الدستور ذاته التي تلزم الدولة بالاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التى تكفل حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية لكل إنسان من دون تمييز.
– ألغيت المادة 44 من دستور2012 المعطل، والتي كانت تنص على أن: «تحظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة». وكانت هذه المادة بمثابة قنبلة موقوتة، يمكن أن يفجرها أي من مثيري الفتنة، الذي يرى فى هذه المادة نقطة ضعف المجتمع فى عاطفته الدينية، فيستغلها عند اللزوم، فضلاً عن أنها جزء من مبادىء الشريعة الإسلامية التى هى المصدر الرئيسى للتشريع، ومن ثم فلا حاجة لها. أما دستور 2014 فقد نص فى مادته (53) على أن: «التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون»، وهذا كاف لمنع أى إساءة لدين أو لرسول أو لنبى أو لصاحب مذهب أو دعوة إصلاحية اجتماعية أو سياسية لا تناقض قيم المجتمع العليا وهوية شعبه الدينية، متى كان من شأنها المساس بمشاعر مجموعة من المواطنين أو المقيمين.
– بالنسبة لغير المسلمين: الهوية الدينية للدولة المصرية ليست إسلامية فقط. ففي مصر عاش المصريون مع إخوانهم من غير المسلمين منذ الفتح الإسلامى لمصر. لذلك أكد دستور 2014، كما دستور 2012 ، على حق غير المسلمين فى تحكيم شرائعهم الخاصة فى مسائل الأحوال الشخصية التى لها وثيق ارتباط بالمعتقد الدينى. فنصت المادة 3 من الدستور الجديد على ما يلى: "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسى للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشؤونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية". كما ورد النص فى الأحكام الانتقالية لدستور 2014 على التزام مجلس النواب القادم، فى أول دور انعقاد له بعد العمل بالدستور، بإصدار قانون لتنظيم بناء وترميم الكنائس، بما يكفل حرية ممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية (م 235)، وهو مالم يكن منصوصا عليه فى دستور٢٠١٢.وما كان من المتصور أن ينص على ذلك فى دستور وضعته جمعية تأسيسية، سيطرت عليها أغلبية ساحقة من تيار الإسلام السياسي المتشدد. بيد أن النص الجديد أغفل دور العبادة لغير المسيحيين من اليهود، وكنا نفضل أن يكون القانون الذي يصدره البرلمان شاملا لدور العبادة كلها بقواعد موحدة تسوى بينها فى أحكام البناء والترميم.
– أكد دستور 2014 على المساواة بين المواطنين باعتبارها من أهم مبادئ الشريعة الإسلامية، فنصت المادة (53) على أن "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الإجتماعى، أو الإنتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأى سبب آخر".وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء علي كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.
وكان دستور 2012 يكفل أيضا فى المادة (33) المساواة التامة بين المواطنين، لكنه لم يكن يفصل أسباب التمييز المنهى عنه. ونهج دستور 2012 كان أفضل، لأنه كان ينهى عن التمييز لأي سبب كان غير ما ورد ذكره صراحة فى النص الدستورى على سبيل المثال لا الحصر، مثل الحالة الصحية.
الهوية الوطنية للدولة:
– نصت المادة الأولى من دستور 2014 على عدم جواز النزول عن أى جزء من إقليم الدولة أيا كان المركز الرسمى للمتنازل. فالدولة المصرية "موحدة لاتقبل التجزئة، ولاينزل عن شئ منها". وكانت المادة الأولى من دستور 2012لاتتضمن الشق الثانى من النص، وهو ماأثار الجدل حول نوايا نظام حكم الإخوان بالنسبة لأجزاء من إقليم الدولة المصرية،مثل حلايب وشلاتين وسيناء.
– تم اعتماد المادة 222 من دستور2014 بدلا عن المادة 220 من دستور 2012 المعطل، والتي كانت تنص على أن "مدينة القاهرة عاصمة الدولة ويجوز نقل العاصمة إلى مكان آخر بقانون"، وذلك ليطمئن المصريون على عاصمة وطنهم، بعد أن حسم الدستور الجديد عاصمة الجمهورية بأنها «مدينة القاهرة».
– حددت المادة 223 من الدستور ألوان العلم وشكله بأنه: «مكون من ثلاثة ألوان هى الأسود والأبيض والأحمر، وبه نسر مأخوذ عن «نسر صلاح الدين» باللون الأصفر الذهبى»، ولم يخول المشرع العادى تحديده، على نحو ما جاء بدستور 2012 فى المادة 221 التى نصت على أن يحدد القانون علم الدولة، وشعارها، وأوسمتها، وشاراتها، وخاتمها، ونشيدها الوطني. وما ذهب إليه دستور2012 كان أفضل، لأن هذه التفصيلات، وإن كانت أساسية للدولة، إلا أنها تدخل في نطاق القانون. لذلك نصت ذات المادة من الدستور الجديد على أن يحدد القانون شعار الجمهورية وأوسمتها وشاراتها وخاتمها ونشيدها الوطني، وهي أمور لا تقل أهمية عن ألوان العلم وشكله.ربما كان دستور الإخوان قد ترك تحديد العلم للقانون، ليسهل استبدال شعارهم بالنسر.
– نصت المادة 223 فقرة أخيرة من دستور 2014على أن "إهانة العلم المصري جريمة يعاقب عليها القانون". وهو نص لم يرد له نظير بدستور 2012 ، وهو الأفضل متى كان القانون هو الذى يحدد الجريمة وعقوبتها.
– قطع دستور 2014 فى ديباجته – التى هى جزء منه – وصف الحكومة بأنها «مدنية»، لينهى موطنا لإثارة الفتن المجتمعية بالتخويف من الحكومة العسكرية أو الحكومة الدينية.وقد كان الأفضل أن توصف الدولة ذاتها فى صلب الدستور بأنها مدنية، اتساقا مع الروح العامة للدستور، لكنها التوافقات والمواءمات والشيء مقابل الشيء.
– نص دستور 2014 فى المادة (236) على أن "تكفل الدولة وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية، والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة، وذلك بمشاركة أهلها فى مشروعات التنمية وفى أولوية الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلي، خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون، وتعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلى مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون".
ونرى خطورة فى هذا النص المستحدث الذى يقرر خصوصية للمناطق الحدودية، بما يعد إقرارا بمشكلة لطالما أحاطت بها أياد خارجية، ربما تستغل من أعداء الوطن والمتآمرين عليه مستقبلاً، فالمفترض أن مشكلة سكان النوبة لا تزيد أهمية على مشكلة تمليك أهل سيناء لأراضيها، ولا على مشاكل الذين تنتزع الحكومة أراضيهم وتصادر بيوتهم ومزارعهم من أجل المنفعة العامة، ولا تختلف كثيرا عن أولئك الذين دمرت السيول بيوتهم ومزارعهم وتجارتهم وتم نقلهم لمواقع أخرى بعيدة عن السيول.ونعتقد أن لجنة الخمسين قد جانبها الصواب فى ذلك، وكان يكفى توجيه الحكومة بزيادة الاهتمام بها وبغيرها من المناطق الفقيرة والأشد فقرا والمهمشة.
وهكذا نجد دستور 2014 أكثر وضوحا فى تحديد الهوية المصرية، التي تغلب المواطنة والتسامح، بدلا من التشدد والجمود. والدستور إن كان ينص على الهوية الدينية للمواطنين، وهي واقع لا يمكن إنكاره، فهو يسوى بينهم في حرية الاعتقاد، ولا يغلب الهوية الدينية على مدنية الدولة، فالدين لله والوطن يجب أن يسع الجميع، ولايفرق بينهم فى الحقوق والواجبات والحريات العامة.