في حق السكن ودستورية قانون الإيجارات في لبنان


2014-06-03    |   

في حق السكن ودستورية قانون الإيجارات في لبنان

يبدو أن مسيرة قانون الإيجارات الطويلة والعسيرة في إطار المؤسسات اللبنانية قد شارفت على نهايتها. فبعد التصويت على القانون في مجلس النواب، ارتأى رئيس الجمهورية عدم رده الى المجلس، ما يسمح بدخوله حيّز التطبيق بعد ستة أشهر من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية[1]. إلا أن هذا القانون سيشهد فصلاً أخيراً قبل إبصاره النور، أو عودته الى أدراج مجلس النواب. إذ إن رئيس الجمهورية وعشرة من نواب المجلس قد قدموا، كل من جهته، طعناً بقانون الإيجارات أمام المجلس الدستوري لإبطال القانون برمّته أو ببعض مواده.

يستند الطعنان الى مخالفة القانون لعدة مواد ومبادئ مكرّسة في الدستور اللبناني، في مقدمتها المساواة بين المواطنين وحقهم بالتقاضي على درجتين. بالإضافة الى هذين السندين، يبرز سند ثالث وهو “الحق بالسكن”، إذ إن المشككين بدستورية قانون الإيجارات يؤكدون على كونه يحرم المستأجر من “حقه بالسكن” المحمي دستورياً[2]. سنركز ملاحظاتنا ضمن النقاش حول دستورية قانون الإيجارات على حق السكن، وذلك لعدة أسباب. أولاً، أن حق السكن وافد جديد على الخطاب القانوني والسياسي اللبناني، فقبل الضجة التي أثارها قانون الإيجارات لم يستحوذ هذا الحق، على حد علمنا، على اهتمام يُذكر. لذلك تستوجب حداثة عهد حق السكن الاطلاع على ماهيته. ثانياً، يكتسي هذا الحق، بغض النظر عن حداثة عهده أو قدمه، أهمية كبيرة في مضمونه ودلالاته، ما يجعل دراسته جديرة بالاهتمام.

الحق بالسكن هو حق كل شخص بمسكن لائق ومستقل تؤمّنه الدولة. يمكننا تحديد هذا التعريف العام عبر اللجوء الى المادة الأولى من القانون الفرنسي الصادر في 31 أيار 1990 التي تكرّس حق السكن عبر التعريف التالي: “كل شخص أو عائلة تعاني من صعوبات جمة، بسبب عدم كفاية مواردها أو سبل عيشها، لها الحق بمساعدة الدولة ضمن الشروط المحددة في هذا القانون، للاستحصال على مسكن لائق ومستقل أو للبقاء في هذا المسكن”[3]. إن حداثة عهد الحق بالسكن لا تقتصر على الإطار القانوني اللبناني، فهذا الحق لم يظهر في التشريعات الغربية إلا ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي. وجسد هذا الحق منذ تكريسه توجّهاً اجتماعياً في التشريع. فالحقوق الكلاسيكية، وفي مقدمتها حقوق الملكية والديون، تهدف الى تشجيع الحركة التجارية، والاستثمار وتبادل الأموال، فتنظر الى المواطن لا كفردٍ في المجتمع له احتياجاته الخاصة بل كتاجرٍ ومستثمر في نظام تبادلٍ رأسمالي. يندرج حق السكن ضمن منطق مختلف، فهو لا يهدف الى إفادة عميل اقتصادي بغض النظر عن صفاته الشخصية، بل يتوجه الى مواطن محدد آخذاً بعين الاعتبار معاناته اليومية وتطلعاته الخاصة. إن “شخصنة” الحقوق على أساس اعتبارات اجتماعية تشكل أبرز خصائص حق السكن.

في ما يخص قانون الإيجارات، يعتبر الطاعنون بدستوريته أن الدستور اللبناني يكرّس هذا الحق وأن قانون الإيجارات يحرم المستأجرين منه، فيجب بالتالي إبطاله. ويثير الطعن أسئلة على مستويين مختلفين. الأول يتعلق بمدى تكريس الدستور اللبناني لحق السكن، والثاني بمدى احترام قانون الإيجارات لهذا الحق.

في ما يتعلق بتكريس الدستور لحق السكن، إن قراءة سريعة للمواد الدستورية قد تدفعنا الى الإجابة بالنفي. الدستور لا يحتوي على أي مادة تضمن للمواطنين صراحة حقاً كهذا. لكن هذا الاعتبار لا يكفي لرفض إسباغ حق السكن باللون الدستوري. فمضمون النصوص شيء وتفسير هذا المضمون شيء آخر. على سبيل المثال، أقر المجلس الدستوري الفرنسي كون تحقيق حق السكن “يتمتع بالقيمة الدستورية” دون أن ينص الدستور الفرنسي صراحة على احترام هذا الحق[4]. في ما يتعلق بالدستور اللبناني، يقدم الطاعنون بدستورية قانون الإيجارات حججاً جديرة بأقصى الاهتمام لإثبات طابع حق السكن الدستوري. بالدرجة الأولى، إن المواثيق الدولية، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي توجب مقدمة الدستور (الفقرة ب) احترامها تؤمن هذا الحق. فتنصّ المادّة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق “كل شخص في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهية له ولأسرته، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن… وله الحق في ما يأمن به الفوائد في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه”. فيما تنص المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على وجوب إقرار “الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته يفي من الغذاء والكساء والمأوى… وتتعهد الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة لإنفاذ هذا الحق”. بالدرجة الثانية، وهنا تكمن أهمية الطعن الأساسية، يرتكز الطاعنون على نصوص من مقدمة الدستور لإسناد حججهم. على رأس هذه النصوص ترد الفقرتان (ج) و(ط) من المقدمة. تؤكد الأولى على كون “لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية…” أما الثانية فتذكّر بأن “أرض لبنان واحدة لكل اللبنانيين. فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع به في ظل سيادة القانون. فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين”. إن لمطالبة المجلس الدستوري بالاستناد الى هذه النصوص بغية إبطال قانون الإيجارات أهمية ودلالات كبيرة. من جهة، ينبغي التنويه بالتذكير بتمتع احترام “العدالة الاجتماعية” بقيمة دستورية. فإذا كان الدستور اللبناني قد نص صراحة على كون “النظام الاقتصادي حراً يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة”، (الفقرة (و) من مقدمة الدستور)، فمن الجدير بالاهتمام التأكيد على إلزامه المشترع بتأمين العدالة الاجتماعية. مقابل حرية التعاقد، التملك وتبادل الأموال، لا بد من التأكيد على موجب احترام مستلزمات السلام الاجتماعي. لسلطان المال والأسواق حدود ترسمها الكرامة الإنسانية. ومن جهة أخرى، يدعو الطعن الى قراءة مثيرة للاهتمام للفقرة (ط) من مقدمة الدستور. هذه الفقرة، كما سبق وذكرنا، تؤكد على حق كل لبناني بالإقامة أينما شاء على الأرض اللبنانية. أضيف هذا النص، كسائر فقرات المقدمة، بعد نهاية الحرب الأهلية، والهدف الأول والواضح منه هو منع الفرز الطائفي للشعب كما يبيّنه مضمون الفقرة التي تمنع في نهايتها “أي فرز للشعب على أساس أي انتماء كان” كما ترفض “التجزئة” و “التقسيم” و”التوطين”. لكن النص يسمح بتخطي معناه الأول: رفض الفرز السكني على أساسٍ طائفي يقابله رفض الفرز على أساس اجتماعي واقتصادي. فالمواطن ينتمي لطائفة معينة، لكنه يشكل أيضاً فرداً من طبقة اجتماعية ويخضع لضرورات حياتية خارجة عن معتقداته الدينية، كالنشاط المهني والموارد المالية. يقدم الطعن للمجلس الدستوري فرصة تاريخية لتكريس نظرة مؤسساتية متجددة للمواطن اللبناني تحاكي أبعد من انتمائه الطائفي، حقيقة حياته اليومية.

نعتقد إذاً أنه يمكن للمجلس الدستوري، عبر قراءة جريئة للمواد الدستورية، تكريس حق السكن كمبدأ يتمتع بقيمة دستورية. يبقى أن نحدد، وهنا يتجلى المستوى الثاني من تحليل الطعن، نتائج تكريس كهذا على قانون الإيجارات. هل يستتبع اعتبار حق السكن حقاً دستورياً إبطال قانون الإيجارات لمخالفته الدستور؟ يرد الطاعنون بقانون الإيجارات بالإيجاب، إذ يعتبرون أن الزيادة الطارئة على الإيجارات عبر تحرير العقود المنصوص عليه في القانون يجعل إبقاء المستأجرين في بيوتهم مستحيلاً، كما يصعب الى حد بعيد عثورهم على مساكن أخرى بالصفات عينها نظراً الى الأسعار المتداولة حالياً في سوق الإيجارات. تستدعي هذه الإجابة ملاحظات عدة. إن زيادة بدلات الإيجار القديمة تهدف الى مساواتها والبدلات الرائجة حالياً. انطلاقاً من ذلك، إن الطعن بهذه الزيادة يشكل في الوقت عينه طعناً ببدلات الإيجار المعتمدة بحق جميع المواطنين. الطلب من المشترع الإبقاء على نسبة الزيادات السابقة في الإيجارات، والمرتبطة بالحد الأدنى للأجور وغلاء المعيشة، في ما يخص الإيجارات القديمة، بينما تخضع عقود الإيجار الأخرى للأسعار الحرة المعتمدة حالياً، لا يستقيم قانوناً. هذا المنطق يتناقض ومبدأ المساواة، إذ إنه يؤدي الى تقسيم المواطنين الى شريحتين هما: مستأجرون قدامى يستفيدون من بدلات زهيدة، ومستأجرون جدد يرزحون تحت بدلات باهظة. المخرج الوحيد في هذا الإطار يكمن بإعادة النظر بكل قوانين الإيجارات لتحديد سقفٍ قانوني للبدلات لا يجوز تجاوزه بغض النظر عن تاريخ إبرام عقد الإيجار. بالإضافة إلى هذا الاعتبار، لا بد من إبداء ملاحظة تتعلق بمضمون حق السكن. لا يعني إقرار هذا الحق إمكانية لجوء أي مواطن لا يستطيع إيجاد مسكن ملائم إلى أجهزة الدولة لتؤمن له سكناً يناسبه، فهذه ليست الوظيفة الأولى للقطاع العام، كما أنه لا يمكن لأية ميزانية في أي دولة من دول العالم تحمّل عبء كهذا على المستويين المالي واللوجيستي.

يشكل حق السكن ضمانة في حالات الحاجة القصوى. ففي فرنسا، حصر قانون 5 آذار 2007 إمكانية الاستفادة من حق السكن ببعض المواطنين دون غيرهم نظراً لضعفهم الصحي، الاجتماعي أو الاقتصادي. استتباعاً لذلك، نرى أنه، إذا كرّس المجلس الدستوري اللبناني حق السكن، يجب على المشترع حصر الإعفاء من الزيادات المترتبة على الإيجارات ببعض المستأجرين القدامى، المهددين بالتشرّد، على أن يتحمل القطاع العام نتائج هذا الإعفاء تجاه المستأجرين أو المالكين.

لكن لإقرار حق السكن نتائج تتخطى قانون الإيجارات. فتكريس المجلس الدستوري لهذا الحق سيحث المشترع على اعتماد مقاربة جديدة عند سن أي قانون يمس بمسكن المواطن. سيكون على النواب النظر الى احتياجات المواطنين وإمكانياتهم عوضاً عن الخضوع الأعمى لإملاءات العرض والطلب. فالسكن ليس مجرد سلعة، هو أيضاً حاجة شخصية وسقف عائلي تشكل حمايته عصب الحياة الاجتماعية.

نشر هذا المقال في العدد | 17 |أيار/مايو/  2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

التضامن المهني، عامل توحيد في زمن الإنقسام؟ 

  للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا


 نشر القانون في الجريدة الرسمية في 8 ايار 2014[1]
[2]اديب زخور، مرافعة محام ضد قانون الايجارات الجديد: هذه هي المخالفات القانونية والدستورية، منشور على موقع المفكرة القانونية الالكتروني www.legal-agenda.com.
[3]Toute personne ou famille éprouvant des difficultés particulières, en raison notamment de l’inadaptationde ses ressources ou de ses conditions d’existence a droit à une aide de la collectivité dans les conditions fixés par la présente loi, pour accéder à un logement décent et indépendant ou s’y maintenir”.
المجلس الدستوري الفرنسي، قرار صادر في 19 كانون الثاني 1995، رقم 95-359:
Le droit au logement est “ un objectif à valeur constitutionnelle”[4]
انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم دستورية ، تشريعات وقوانين ، الحق في السكن ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني