عذرا قانصو: قلب كفررمان الثائر من 40 عاماً!


2019-11-29    |   

عذرا قانصو: قلب كفررمان الثائر من 40 عاماً!

أركن سيارتي وأتوجّ نحو خيمة الثورة المنصوبة عند دوار كفررمان، لألتقي عذرا قانصو، فتحضرني وأنا أهمّ بالسؤال عنها، كلمات قصيدة “جفرا” للشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة: “من لم يعرف جفرا فليدفن رأسه”، لتشابه الاسمين في اللفظ، ولذاكرة هذه البلاد الساهية عن تضحيات نسائها. ثوانٍ، وتطل عذرا برأسها، تبتسم وتدعوني للجلوس قربها، أضع عدتي أمامي، فتعلو وجهها على الفور حمرة خجل طفولية، تحاول إخفاءها، ولكنها لا تفلح! فمنذ اندلاع ثورة 17 تشرين الأول، تلاحقها عدسات المصوّرين وأسئلة الصحافيين، وهي لا تزداد إلّا ارتباكاَ وخجلاَ.

من البيت الشيوعي الذي ضمّ أول “ديوانية” في مواجهة دارة آل الزين – أحد البيوت السياسية الجنوبية – والذي خرجت منه أول صرخة ضد الإقطاع في بلدة كفررمان، خرجت عذرا ابنة التسع سنوات إلى “الشارع”، لأول مرة في حياتها، لتشارك في انتفاضة مزارعي التبغ ضد إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي” في النبطية سنة 1973، ومن هنا بدأت الحكاية ولم تنتهِ بعد.

بذهن متّقد وذاكرة حاضرة، تعيد عذرا سرد تفاصيل ذلك اليوم الذي شكل نواة وعيها الثوري. فتقول: “بيت جدي كان مقراً عفوياً غير رسمي للحزب الشيوعي في كفررمان، وفي ديوانيته اجتمع المزارعون، وقرروا تحرير المعتقلين في مبنى الريجي. في اليوم التالي خرجت التظاهرة من الديوانية باتجاه مبنى “الريجي”، كنت يومها في المدرسة، وحين بدأت أصوات المتظاهرين تصل إلى مسامعنا، أغلقنا كتبنا ودفاترنا، حملنا حقائبنا، وانضممنا إليهم. كنا أطفالاً، صحيح، ولكن حدسنا أوحى إلينا أننا ذاهبون إلى مكان يبدأ منه التغيير، فصدقناه، ومنذ ذلك اليوم، وأنا أؤمن أنّ الطلاب هم حجر الأساس لأي تغيير”.

كان عدد معتقلي “الريجي” ثاني أيام انتفاضة التبغ، قد وصل إلى 80 معتقلاً، وأعلنوا يومها الإضراب عن الطعام، حتى تحقيق المطالب، فعمّ الغضب مدينة النبطية وقراها، وخرج الناس إلى الشوراع، ناس من كل الفئات والأعمار، نساء ورجال وأطفال، حملوا أرواحهم على كفوفهم وغضبهم في حناجرهم، والجيش والقوى الأمنية في مواجهتهم. تضيف عذرا عن ذلك اليوم: “طلعنا من المدرسة وتواجهنا مع الجيش، ونزل علينا الرصاص مثل زخ المطر، استشهد منا متظاهران. ونحن الأطفال، حين بدأ العنف، هربنا واختبأنا في البيوت المجاورة للريجي”.

تفتخر عذرا أنها شاركت في تلك التظاهرة وفي تظاهرات كثيرة بعدها، منها، قبل أن تبلغ سن الرشد، وكانت أمها تشجعها إلى المشاركة. تبتسم لذكرى أمها وتقول: “كنا محظوظين، لأن أهلنا كانوا متفهمين لحماستنا، بل كانوا متحمّسين أكثر منا، أمي كانت تخرج قبلي إلى التظاهرات والاعتصامات، ورغم أنها أميّة، كانت صاحبة وعي متقدم بكل القضايا الثقافية والوطنية. نحن كنا نتثقف من خلال الأحزاب، ولكنّ أمهاتنا لم ينتمين إلى حزب، لم يتلقين دروساً في الوطنية، كنّ سائرات بفطرتهن على الخط الوطني، كان حبهن للوطن متقدماً على حبهن لنا، كنّ قويات والوطن كان ضعيفاً وفي حاجة إليهنّ وإلينا. لذلك، لم يخفن أن يخسرننا”.

لم تغب عذرا مذ كانت في التاسعة من عمرها حتى اليوم، عن أي تظاهرة مطلبية، في أي منطقة على طول الوطن وعرضه. وفي السنوات الأخيرة، مع انطلاق اعتصامات وتظاهرات هيئة التنسيق النقابية، ما بين عامي 2012 و2015، شاركت في 23 مظاهرة و50 اعتصاماً، كونها أستاذة في التعليم الثانوي. ولم تغب سوى عن تظاهرة واحدة فقط في 13 آذار 2013 يوم وفاة والدتها، حينما سار المعلّمون والمعلّمات نحو القصر الجمهوري. يختنق صوتها فجأة، وتغالب دموعاً تكاد تطفر من عينيها، فتطرق رأسها قليلاً، ثم تتابع: “أمي انظلمت مرتين في الحياة، مرة لأني لم أكتب عنها وأبرز دورها النضالي، ومرة أخرى، حين عجزت عن حمايتها من السرطان الذي فتك بروحها وجسدها”.

هنا، تسكت عذرا عن الكلام المباح، تأخذ نفساً عميقاً، ثم تنبّهني: “لم يكن نضالي منصبّاً على القضايا التي تخصّني فقط، فكل قضية تهم اللبنانيين تهمّني. فإسقاط النظام الطائفي أولوية بالنسبة لي، كذلك معالجة ملف النفايات، لذلك شاركت في كل تظاهرات الحراك المدني أيضاً، وكنت فيه متحدثة دائمة باسم المنطقة. ولذلك أشارك في السياسة أيضاً، ففي كل انتخابات نيابية أو بلدية، أنتخب اللائحة المضادة للسلطة، رغم معرفتي المسبقة أنها لن تفوز، ولكن لأنّي على يقين أنّ هذه السلطة لا يمكنها أن تفي بوعودها، ولأني لم أعد أصدّقها، أصرّ كل موسم على انتخاب نقيضها”.

أيام الاحتلال الإسرائيلي حظيت عذرا بنصيبها من المقاومة والصمود والتضحية، شأنها شأن أهل كفررمان. بعد انسحاب العدو جزئياً وتمركزه على تلال كفررمان، تذكر عذرا: “تهجّرنا من بيتنا في الحي الشرقي، لوقوعه تحت مواقع الاحتلال مباشرة، وسكنا في حي الريجي، كنا مصرّين على عدم ترك كفررمان حتى في أكثر لياليها الحالكة، لذلك لم تتخلف أمي يوماً عن الذهاب إلى حيّنا، حيث كانت تزرع وتسقي وتعتني بالشجر والحقول. مرة أغار جنود العدو على حيّنا، وخطفوها وحبسوها في حمام البيت، فتواصلنا مع الصليب الأحمر اللبناني، الذي تمكّن من تحريرها بعد ساعات طويلة، علماً أننا غامرنا بعدها، ورجعنا قبل التحرير إلى حيّنا، لأسباب تتعلق بالإيجار، عشنا وحدنا 6 أشهر تحت الخطر، كان كل صباح بالنسبة لنا ولادة جديدة”.

يشبه وجه عذرا، وجوه أمهات هذه البلاد، أسمر بلون السنابل وتجاعيده مثل تضاريس الحقول، أما حركة الرأس فتأتي تبعاً لانفعالاتها مع الحديث. تحركّه يميناً وشمالاً فتهتز خصلات شعرها كما تتراقص وريقات شجرة بفعل النسيم. وحين يهب نسيم بارد على الخيمة، تجمد في مكانها، وتتضرع ألّا تمطر اليوم – فدعاء الأمهات مستجاب – لأن الخيمة على موعد مع ندوة ثقافية عصراً ونشاط فنّي ليلاً. وعلى وقع احتمالات تبدّل الطقس، تعيد تموضعها على الكرسي قبالتي، وتتوجه إليّ مجدداً: “دخلت الحزب الشيوعي بالوراثة، لذلك لا أذكر متى انتسبت رسمياً إليه، ولكنّي في مطلع شبابي أدركت أنني شيوعية، وأنني منتسبة إلى التعليم الرسمي وإلى كشاف التربية الوطنية، يعني انتميت إلى ثلاث جبهات في الوقت نفسه عززت وطنيتي وحمّلتني مسؤوليات ثقافية وتربوية وإنسانية. أخذت من الحزب التنوير، ومن الكشافة روح المبادرة، أما التعليم الرسمي فهو قضيتي الأساسية، لأنه بيت المواطن اللبناني، ومصنعه الحضاري التنويري ومساره الطبيعي نحو المواطنة الحقيقية، وأتمنى أن يستعيد عافيته، لأن التعليم الخاص فرّخ التربية على الطائفية وأوصل البلد إلى هذا الانقسام العمودي الذي نراه”.

الحديث عن المدرسة الرسمية وتجربتها كأستاذة لمادة التاريخ في التعليم الثانوي، متعة بالنسبة إلى عذرا. فهذه التجربة هي التي دفعتها إلى المشاركة في ثورة 17 تشرين منذ يومها الأول. ولكن ما هي العناصر المشتركة بين التعليم الرسمي والثورة؟ تشرح عذرا: “طلاب التعليم الرسمي هم غالباً من الطبقة الفقيرة والمتوسطة، لذلك، تشكل عواطفهم تربة خصبة لبذار الثورة. هذا لا يعني أن طلاب المدارس الخاصة غير مهتمين بالثورة، بل على العكس، هذه الثورة جعلت اللبنانيين طبقة اجتماعية واحدة ضد الطبقة السياسية البرجوازية. ولكن في المدرسة الرسمية هناك هامش أكبر من الحرية، لدى الطلاب والمعلمين، إضافة إلى الوضع الاجتماعي الذي أشرت إليه. هذه الأيام، أستطيع أن أقول إن رسالتي في التعليم وصلت، وذلك حين أرى طلابي مشاركين في الثورة، متمتعين بوعي وطني كبير، ووعي سياسي أكبر، مصممين على عدم تكرار تجربة شباب الحرب الأهلية، أو أن يكونوا أداة في يد أي زعيم”.

وعن كفررمان في زمن الثورة، تقول عذرا: “مهمتي اليوم مساندة الثورة، بكل ما أوتيت من حب ووعي وتجارب، حتى لا تذهب إلى مكان غير وطني. سلاحنا اليوم هو الوعي ومعرفة إدارة مشروعنا الوطني الجديد، كما يجب في الاقتصاد والسياسة والفن”، أسألها مستغربة: “في الفن؟”، فتجيب: “إيه، الفن، الفرح مطلب من المطالب الوطنية، والدبكة والرقص والغناء عملية انصهار اجتماعي”. وعن مشاركة النساء، تشير إلى أنها ضد هذا التمييز، لأنها “بنت حزب علماني يؤمن بالإنسان”، مع التأكيد أن خيمة الدوار ستطلق حواراً عما قريب عن القوانيين التمييزية بين المرأة والرجل في لبنان.

خيمة الدوار “مهرجان دائم” كما تصفها عذرا: “وهي ثورة على التحجّر والتصلب والجمود والسائد، والأيام المكرورة والملل والتشابه والتناسخ في الأفكار والأشكال والألوان، التي خطفت وجه كفررمان والمنطقة أيضا. كل يوم، يزور الخيمة فنانون ملتزمون يقدمون أحلى ما في حناجرهم، وتستضيف خبراء في الاقتصاد والقانون والسياسة والحقوق، ومفكرين ومثقفين عابرين لطوائفهم ومناطقهم وزواريبها وزواياها، وكلهم يساهمون في تنوير عقول الشباب، وحثهم على انتزاع حقوقهم والمشاركة في إنقاذ الوطن، من الفساد والفشل السياسي والاقتصادي”.

منذ 44 يوماً، تتفرغ عذرا بعدما ينهي دوام عملها الرسمي لخدمة الثورة. تأتي عند الثالثة عصراً إلى الخيمة عند الدوار، وتظل تحرسها حتى يؤوب آخر الثوار. كل يوم تحمل في جعبتها مفاجأة جديدة، فكرة نشاط من هنا، أو كلمة لها مفعول المهدئ من هناك. تجهز الخيمة لتستقبل الثوار وترحّب بالزوار، ثم تفتح أبواب الحوار ونوافذه كلها، وتشرّعها على الرأي الآخر واحترام المختلف وتقريب البعيد واجتذاب المخالف، وتجلس بهدوء مثل صاحبة منزل أنهت للتو ترتيب بيتها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني