وافق البرلمان المصري في 09-02-2019 من حيث المبدأ على مشروع قانون جديد ينظم أماكن وساحات انتظار السيارات بمختلف المحافظات وقام بإحالته إلى مجلس الدولة لمراجعته[1]. حسب التصريحات المتعددة، يأتي هذا التشريع في إطار محاولات مجلس النواب المصري في وضع حلول تشريعية لظاهرة تكدس السيارات في شوارع المدن والمحافظات، وكذلك للقضاء على الفوضى التي يسببها مُنادو السيارات غير الرسميين بشكل يومي. وأخيراً يحاول القانون الاستفادة من هذا النشاط الاقتصادي غير الرسمي والذي ينمو بصورة سريعة ضمن مبادرة تعظيم موارد الوحدات المحلية[2]. وفى هذا الصدد، صرح رئيس لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب أن القانون لم يأتِ لتنظيم وتقنين ما يطلق عليهم "سايسي السيارات" أو مُنادي السيارات وهم الأشخاص الذين يسيطرون دون سند قانوني على الأماكن المخصصة لانتظار السيارات بالشوارع العمومية والفرعية بالمدينة ويوفرونها لأصحاب السيارات بمقابل مادي، إنما جاء التشريع ليُنظم حسن استغلال الشوارع وفقاً لمعايير ترتبط بطبيعة ونوع هذه الشوارع من حيث الحجم والبنية الاجتماعية والاقتصادية وكثافة السيارات، وطبيعة المحال العامة والعقارات القائمة والمحيطة بها[3]. ولكن من خلال قراءة نصوص القانون نجد أن السلطة التشريعية قد أغفلت عند كتابة نصوص هذا التشريع العديد من النقاط الهامة المتعلقة بآليات تنفيذه بما يضمن تقديم حل عملي لمشكلة التكدس في شوارع الجمهورية. نحن نحاول من خلال هذا المقال إلقاء الضوء على بعض تلك النقاط التي نعتقد أنها جوهرية لتحقيق أهداف القانون. كما نستعرض ما إذا كان التشريع جاء يحقق مصالح جميع الأطراف المخاطبين به من عدمه.
افتقار القانون الجديد لآليات التنفيذ على أرض الواقع
لقد جاء القانون المكوّن من عشر مواد يهدف بشكل مباشر إلى تنظيم إمكانية تأجير الأماكن المخصصة لانتظار السيارات بكافة الشوارع تحت إشراف الوحدات المحلية من خلال طرحها كحق استغلال للشركات أو الأفراد الحاصلين على التراخيص اللازمة لمزاولة النشاط مدة لا تجاوز العشر سنوات، بشرط أن تقوم هذه الشركات أو الأفراد بتحصيل الرسوم المٌقررة للإنتظار والمحددة بمعرفة الوحدات المحلية بكل محافظة[4]. واكتفى المُشرع في المادة الثالثة من القانون الجديد بالنص على أن أي تعاقد لاستغلال أماكن انتظار السيارات سوف يتم وفقاً لأحكام قانون تنظيم التعاقدات التي تبرمها الجهات العامة[5]، وهو الخاص بتنظيم ومتابعة تنفيذ كافة التعاقدات التي تبرمها أي جهة عامة أو حكومية بكافة أشكالها سواء كانت شراء أو استئجارا أو تعاقدات ترخيصا بالإنتفاع أو استغلال العقارات أو المشروعات[6]. من ناحية أخرى، نص القانون على تشكيل وإنشاء لجنة داخل ديوان كل محافظة وأجهزة الأحياء تابعة لهيئة المجتمعات العمرانية، والتي تختص وفقاً لنص المادة الثالثة من مشروع القانون بعدد من المهام في سبيل تحقيق الإستفادة القصوى من أماكن الإنتظار مثل: تحديد أماكن وأوقات الإنتظار، منح تراخيص مزاولة النشاط، تحديد مقابل الإنتظار بحسب المستوى الإقتصادي لكل مكان، وكذلك وضع كراسات شروط استغلال أماكن الإنتظار وتحديد الضوابط الواجب توافرها في القائمين على هذا النشاط سواء كانت شركات أو أشخاصا. لكن في المقابل لم يحدد القانون على وجه الدقة ما هي الخطوات العملية والآليات التنفيذية التي سوف تتخذها هذه اللجنة للبدء في تنفيذ أهدافها على أرض الواقع دون التطرق لأزمة التكدس المروري الموجودة بالفعل في الشوارع المصرية.
فمن الجدير بالذكر أن كافة تصريحات أعضاء البرلمان المصري والقائمين على كتابة هذا التشريع جاءت تشير إلى أن القانون يُعد بمثابة خطوة إيجابية نحو إيجاد حلول عملية لإشكالية الفوضى والتكدس المروري التي يواجها المواطنين يومياً. لكن من خلال قراءة باقي نصوص القانون نجد أن المُشرع لم يلفظ أو يتطرق إلى أي حال لوضع حلول تشريعية وبديهية لأسباب هذا التكدس، والتي منها على سبيل المثال: عدم توفر أماكن انتظار كافية مقارنة بعدد السيارات الموجودة في شوارع المدن. حيث إن أزمة المرور لا تتمحور فقط حول إعادة تنظيم أماكن الإنتظار بالشوارع وإسنادها لشركات القطاع الخاص لإدارتها بل تمتد إلى النقص الكبير في وجود "جراجات" متعددة الطوابق بكل حي يستوعب هذا الكم الزائد من السيارات. هذا بالإضافة إلى سوء التخطيط العمراني لقرابة النصف قرن الذي أدى إلى تفاقم أزمة تكدس السيارات بمرور الوقت بالتزامن مع زيادة عدد السكان. فعلي سبيل المثال، كان أولى على البرلمان المصري إيجاد حلول تشريعية لإزالة التعديات العمرانية التي يرتكبها المواطنون في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية بالمخالفة لكل من قانون التخطيط العمراني الصادر عام 1982 وقانون البناء المُوحد الصادر عام 2008[7]. حيث ينظم كلا من القانونين شروط ومواصفات البناء والتي تُلزم المواطنين بتوفير "جراجات" لإيواء السيارات يتناسب عددها ومساحتها مع غرض المبنى[8]، وتوفير فراغات عمرانية بين البنيات يتخللها مساحة من الأشجار وتحظر بشكل قطعي الترخيص بتغير أماكن "الجراجات" لاستعمالها في غير الغرض المخصص له في ترخيص البناء. ولكن في ظل فساد وغياب دور المحليات ورؤساء الأحياء في الرقابة على مواصفات البناء حيث جرت العادة على دفع الرشاوي لمسؤولي الرقابة مقابل استغلال هذه المساحات كمحال عامة بدل من أماكن انتظار بالمخالفة للقانون[9]. وهو الأمر الذي كان أحد الأسباب الرئيسية لتفاقم مشكلة التكدس وتعطيل المصالح العامة بمرور الوقت. لذلك من خلال ما أوضحناه، نحن نرى أن قانون تنظيم أماكن انتظار المركبات لم يأتِ لوضع حلول قانونية للمشاكل سالفة الذكر، إنما على العكس فقد جاء القانون يجرد الحكومة المصرية والوحدات المحلية من تحمل مسؤولية الأزمات الموجودة بالشارع المصري عن طريق إسنادها للشركات الخاصة دون الإكتراث بمصالح كافة الأطراف المخاطبين بهذا القانون وعلى رأسهم مُنادي السيارات.
ماذا عن السايس؟
لقد جاء مشروع قانون تنظيم أماكن انتظار السيارات يعمل بشكل مباشر على تهميش آلاف من مُنادي السيارات الموجودين حالياً في الشوارع ويعملون على كسب رزقهم اليومي من خلال توفير أماكن لمركبات المواطنين، وذلك لكي تحل الشركات الخاصة مكان مُنادي السيارات في الشوارع بمجرد البدء في تنفيذ أحكام القانون. فظهرت سياسات التهميش في كلاً من تصريحات المسؤولين والفلسفة التشريعية للقانون الجديد.
فمن ناحية، ألقى أعضاء اللجنة المحلية بالبرلمان اللوم على مُنادي السيارات في أسباب التكدس المروري وانتشار الفوضى والبلطجة وفرض الإتاوات على المواطنين[10] متجاهلين أن أسباب ظهور مُنادي السيارات في الحياة اليومية للمواطنين هو الغياب التام لأجهزة الدولة المعنية بالمرور وعدم وضع حلول جذرية للمشاكل الرئيسية سالفة الذكر.
من ناحية أخرى، انعكست تلك السياسات على الفلسفة التشريعية لمشروع القانون والتي جاءت نصوصه لا تحقق مصالح سايسي السيارات ومراعاة نشأتهم الاجتماعية وحالتهم الإقتصادية التي دفعتهم للعمل بالشوارع. فعلى سبيل المثال لم يخص القانون بالذكر إعداد جداول حصر بأسماء وأعداد العاملين بهذا النشاط حتى يكون لهم الأولوية في استخراج رخصة مزاولة النشاط مع بدء العمل بالنظام الجديد، أو إلزام الشركات الخاصة التي من المتوقع أن تعمل بهذا النشاط بتعين بعض من مُنادي السيارات الموجودين حالياً بالشوارع، حتى يتثنى لهذه الفئة المهمشة توفير مصدر دخل لعائلاتهم ويُمكن في الوقت نفسه الأجهزة التنفيذية من فرض الرقابة عليهم بموجب القانون. لكن القانون لم يفرق بين شروط منح الرخصة للشركات ومنحها للأشخاص الطبيعيين حيث نصت المادة الأولى من مشروع القانون صراحة على عدم جواز مزاولة نشاط تنظيم المركبات بدون الحصول على رخصة سواء للشركات أو الأفراد[11]، دون تحديد ما إذا كان النظام الجديد سوف يوفر للشركات والأفراد مكينات الدفع الفوري بالشوارع لتحصيل رسوم الإنتظار مثلما هو الحال في الكثير من بلدان العالم، أم سوف يكون هناك أشخاص يرتدون زيا محددا ومتواجدين بالشوارع على مدار اليوم لتنظيم الانتظار وتحصيل الرسوم كما هو الأمر حالياً.
من جانب آخر قد تقرر فرض رسوم مبلغ 2000 جنية لاستخراج رخصة مزاولة المهنة وهي رسوم باهظة لن يقدر الكثير من مُنادي السيارات على دفعها[12]. هذا بالإضافة إلى مجموعة من الشروط التي ينبغي توافرها في الأشخاص الراغبين في الحصول على رخصة مزاولة؛ بعض هذه الشروط وإن كانت في ظاهرها تتسم بالموضوعية، إلا أن بالنسبة للكثير من مُنادي السيارات قد تكون شبه مستحيل تحقيقها مثل: شرط إيجاده القراءة والكتابة وألا يكون لديه سابقة جنائية. حيث إن الكثير من منادي السيارات هم أصحاب سجلات جنائية الذين اتجهوا للعمل بالشوارع لعدم توفير فرص عمل كمصدر رزق لأصحاب السوابق أو من لم يحالفهم الحظ للالتحاق بالمدارس لسوء أحوال أسرهم الاقتصادية. وهو ما يعني أنه بمجرد تنفيذ أحكام القانون الجديد لن يقدر سايسي السيارات الحاليين منافسة الشركات التي تتطلع للعمل بهذا القطاع، وعليهم في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية منعدمة أن يجدوا لأنفسهم وأسرهم مصادر دخل مختلفة أو عودتهم إلى السجن مرة أخرى.
وأخيراً، تضمن مشروع القانون منظومة عقابية رادعة لا تتناسب مع طبيعة مزاولة النشاط حيث نص القانون على عقوبة لمدة ستة شهور وغرامة عشرة ألاف جنية كل من مارس نشاط تنظيم السيارات بدون ترخيص أو في الأماكن غير المحددة، كما يعاقب بذات العقوبة صاحب الإدارة الفعلية بالشركات[13]. لذا من خلال ما أوضحناه يكون القانون قد جاء يهدف بشكل مباشر تأجير الشوارع للشركات لزيادة موارد المحليات المالية دون الاكتراث لحل مشاكل تكدس المرور أو توفير مصدر دخل بديل لمُنادي السيارات.
خاتمة
في الواقع هناك العديد من التساؤلات التي لا يجيب عنها هذا التشريع، ففي الوقت الذي ينظر فيه رجال السلطة التشريعية وأعضاء الحكومة المصرية إلى القانون باعتباره حلا تشريعيا نهائيا لمشكلة السايس وأزمة التكدس ويعود على الخزانة العامة بالنفع، نحن نرى أن قانون تنظيم أماكن انتظار المركبات الجديد يعجز عن تحقيق مصالح الفئات الأكثر ضعفاً في سلسلة المخاطبين به وهم سايسي السيارات. فبالرغم من أن القانون يمثل بالنسبة للكثير من المواطنين خطوة إيجابية نحو تحسين أحوال شوارع المدن ووضع منادي السيارات تحت أنظار السلطات لمنع أي تطاولات على المواطنين أو فرض إتاوات.
لكن هذا الشعور الإيجابي المُنافي للحقيقة نابع من تصريحات أعضاء البرلمان المٌضللة للمواطنين. خاصة وأن القانون في جوهره يستبدل فئة قليلة وضعيفة من المواطنين ممثلي الاقتصاد غير الرسمي، بالشركات التي سوف تدير عائداً مالياً لخزانة الدولة وتسدد الضرائب. ومما لا شك فيه أن هذا القانون يعتبر جزءا هاما من السياسات الاقتصادية التقشفية التي تنتهجها الحكومة المصرية منذً أكثر من سبع سنوات، والتي بدورها تقوم على تحقيق أكبر قدر ممكن من العوائد المالية لخزانة الدولة دون النظر إلى معاناة المواطنين اقتصادياً واجتماعياُ حتى وإن كانوا مُنادي السيارات. لذا فأننا نرى أن هذا القانون الذي يستهدف الربح في المقام الأول دون الاكتراث بحل المشكلات الأساسية لأزمة المرور لن يساعد في حل أزمة الفوضى والتكدس المروري إنما سوف يساعد على تفاقمها على المدى البعيد.
[1] محمد الشرقاوي، أحمد السجينى، إحالة مشروع قانون السايس إلى مجلس الدولة، اليوم السابع، 09-2-2020.
[2] محمد الشرقاوي، اللواء حسن البرديسي: قانون السايس يحصل أموال مهدرة للدولة، اليوم السابع، 12-02-2019.
[3] محمود حسين، محلية البرلمان: مشروع قانون تنظيم انتظار السيارات لن يقنن إتاوة السايس، اليوم السابع، 11-02-2019.
[4] ياسمين فواز، النص الكامل لقانون السايس عقب موافقة البرلمان عليه، جريد المال، 09-2-2020.
[5] راجع القانون رقم 182 لسنة 2018 بشأن تنظيم التعاقدات التي تبرمها الجهات العامة.
[6] راجع نص المادة 7 من القانون رقم 182 لسنة 2018 بشأن تنظيم التعاقدات التي تبرمها الجهات العامة.
[7] راجع كلاً من قانون التخطيط العمراني رقم 3 لسنة 1982، وقانون البناء المُوحد رقم 119 لسنة 2008.
[8] راجع نص المادة 25 من قرار وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية رقم 600 لسنة 1982 بشأن إصدار اللائحة التنفيذية لقانون التخطيط العمراني الصادر بالقانون رقم 3 لسنة 1982، وكذلك راجع المادة 48 من القانون رقم 119 لسنة 2008 بشأن إصدار قانون البناء المُوحد
[9] راجع المادة 48 و49 و50 من القانون رقم 119 لسنة 2008 بشأن إصدار قانون البناء.
[10] محمود حسين، البرلمان يتصدى لفوضى السايس.. قانون جديد يحظر العمل بدون ترخيص.. لجنة تحدد الضوابط: السن 21 سنة وعدم تعاطي المخدرات شرط منح الرخصة وعقوبة رادعة حال المخالفة.. طرح استغلال ساحات الانتظار لشركات أو أفرد لمدة معينه، اليوم السابع، 11-02-2020.
[11] ياسمين فواز، النص الكامل لقانون السايس عقب موافقة البرلمان عليه، جريد المال، 09-2-2020.
[12] ياسمين فواز، النص الكامل لقانون السايس عقب موافقة البرلمان عليه، جريد المال، 09-2-2020.
[13] نورا فخري، البرلمان يوافق على جزاء إداري للسايس حال تحصيل مبالغ مالية تجاوزت القيمة المحددة، اليوم السابع، 09-02-2020