تنشر المفكرة الحلقة الثانية من ملحق العدد 16: بعد صمت لعقود ” كريم عبد السلام ” الصندوق الأسود لواقعة باب سويقة يوثق شهادته: حكاية من الماضي برؤية مستقبلية. وبالامكان الاطلاع على الحلقة الأولى من الملحق.
طوّرت حركة النهضة طيلة مدة حرب الخليج الأولى أدوات استهداف مباشر وقصدي للنظام القائم كرد منها على تدليسه انتخابات 1989 منها ما كان مكشوفاً، ومنها ما تم تحت جنح الظلام.
فعلى صعيد المواجهة المكشوفة، وجّهت القيادة المشاركين في التظاهرات إلى استهداف وسائل نقل الأمن ومقرّاته بالزجاجات الحارقة واقتحام المقرات وحرقها. كشف هذا الأسلوب عن قدرة كبيرة في التحكّم بالشّارع وأشّر إلى إمكانية تنزيل فكرة التغيير بالقوة.
أما على صعيد النشاط الليلي، فقد تمّ تكوين مجموعات كلّفت بكتابة نصوص على الجدران. وأذكر هنا أنّ هذه الخطوة كانت هامة جداً لكونها مسّت كثيراً بكبرياء النظام القائم. فمن جهة، استهدفت النصوص الجدارية، في جانب كبير منها، بن علي مباشرة وكانت في كثير من الحالات تحرص على استفزاز السلطة أكثر من سعيها لرفع شعارات سياسية. ومن جهة ثانية، كان يتم انتقاء المسارات الرئيسية في المدن والجدران المقابلة لمقرات الإدارات السيادية والشوارع والأنهج التي يمر منها كبار المسؤولين، ليتم الكتابة عليها.
كشف نجاح سياسة الاستهداف المباشر في تلك المرحلة عن نجاح الحملة التعبوية التي سبقتها والتي دامت قرابة أربعة أشهر كاملة، وكانت ساحاتها مختلف حلقات النقاش والدروس في المساجد. وعمل القائمون عليها على نشر فكرة الجهاد والتضحية. ومهّد هذا النجاح لإطلاق سياسة “تحرير المبادرة”.
1- تحرير المبادرة
في المرحلة الأولى التي سبقت الإعلان الرسمي عن تحرير المبادرة، طلب كل “عامل” من الخلايا التابعة له، تقديم مقترحات لعمليات نوعية محتملة. لم تكن هناك أيّ ضوابط معلنة لمفهوم العمليات النوعية بما يترك لشباب الخلايا حرية مطلقة في تحديد الوسائل والأهداف. تالياً، أعطت القيادة الضوء الأخضر لعدد من المشاريع. وهنا، كانت تردنا مع بداية كل يوم أخبار استهداف لمقرات حزبية ولأشخاص يصنّفون في خانة “الصبابة” أي المخبرين تحفّزنا وتفرحنا، فيما كانت تزرع الرعب في النظام الذي كان واضحاً ما يعانيه من اضطراب.
كنت في هذا السياق المشحون عاطفياً قد تقدّمت تلبية للنداء بمقترحين حرصت في صياغة تصوّرهما على تحقيق استهداف قصدي مباشر للنظام يؤشر على قدرة نوعية في الفعل ورد الفعل في مواجهة الهجمة الأمنية للنظام على الحركة، وعلى أن يكون له متى نفذ آثار ارتدادية تمسّ قلب النظام على نحو يبرز قدرتنا على الإيلام في موازاة ضعفه.
وهذان التصوّران هما:
أولاً، استهداف الشعبة الترابية للحزب الحاكم في الأسواق. برّرتُ هذا المقترح بالأهمية الرمزية لهذه الشعبة أولاً وبأهمية موقعها ثانياً. ذكرت هنا أنّ هذه الشعبة هي من أوائل الشُّعَب التي أسّسها الحزب الحاكم وكانت دوماً تضمّ بين أعضائها كبار تجّار العاصمة فيما تداول رئاستها كبار الوزراء. وقلت في مذكّرتي أنّ موقعها في وسط أسواق المدينة العتيقة سيجعل استهدافها دليلاً على قوّتنا.
ثانياً، استهداف لجنة التنسيق الحزبي – تونس المدينة في باب سويقة. قلت هنا في تبرير مقترحي أنّ لجنة التنسيق تلك ذات رمزية تاريخية علاوة على كونها مركز قوة وارتكاز للحزب الحاكم. وفصّلت قولي هذا بأن ذكرت أنها تضم في تركيبة مجلسها عدداً هاماً من الوزراء. كما أشرت إلى أهمية بُعدها الجهوي، حيث أن لجنة التنسيق تمثّل “البلدية” في قيادة الحزب، وهي أهم مكوّن جهوي للحزب بحيث ترجع له بالنظر “الجامعات المهنية” لمختلف الوزارات[1] [WU1] وهي جامعات توازي في امتدادها الاتحاد العام التونسي للشغل وهي أهم لجنة تنسيق لما تملك من أرشيف الحزب الحاكم الذي تأسس في مرجع نظرها الترابي.
كان واضحاً هنا أنّي استفدت كثيراً في صياغة مقترحاتي وتبريرها، من تواجدي داخل لجنة التنسيق ومن ترددي الدائم على غرف الأرشيف حيث كان يحلو لي المكوث للمطالعة والفهم والإكتشاف. واليوم أستغرب حماستي لإتلاف كنز وثائقي كنت أعرف أنّه مهم. ربما هو الاندفاع، وربما هي الرغبة في الثأر عموماً. لا أظن أنّ غيري في مثل حالتي وتحت ذات التأثيرات وفي مثل سنّي كان سيفكّر بطريقة غير تفكيري.
2- العنف نظرياً
تلت تقديم المقترحات فترة انتظار لم تطل ووردت بعدها تعليمات مقتضبة من القيادة نصّها “تنفيذ مقترح الشعبة ممن اقترحه”. كانت الأمور في غاية الوضوح: ضعف الهياكل وتوالي الإيقافات والاعتقالات يفرض أن أكون ضمن فريق التنفيذ. كما فرض أن يكون المرحوم مصطفى بن حسين مسؤول القسم[2] أيضاً ضمن مجموعة التنفيذ التي تكوّنت من أربعة عناصر. راقبنا الهدف وتوافقنا على خطة للتنفيذ تضمنت الاستيلاء على الأختام التي في المقر، لما يمكن أن تصلح له عند الحاجة ومن ثمة حرقه.
توجّهنا ليلة 16 جانفي/كانون الثاني 1991 إلى مقر الشعبة. أغلقنا الباب من الخارج: تسللنا إلى الداخل من المنافذ الجانبية. فتشنا المقر. حملنا ما خططنا لحمله ومن ثمة حرقنا المقر وانسحبنا. كنت في صباح اليوم الموالي في مقر لجنة التنسيق بباب سويقة حيث فوجئت بحالة الرعب. كان قياديو الحزب كلّهم حاضرين ويتحدثون عن كومندوس نفذ العملية. يتبادلون الأسئلة حول ماذا كان سيحصل لو إمتد الحريق إلى أسواق النسيج أو إلى المكتبة الوطنية المحاذية للشعبة. لامست في كل حديث سمعته خوفاً كبيراً تسرب إلى صقور الحزب الذين باتوا يتوقّعون الأسوأ. أكّد لي ذلك النجاح الهام للعملية وهو نجاح كان من ثماره ثناء من القيادة التي أعطت الضوء الأخضر لاستهداف لجنة التنسيق.
طلب منّا العامل في مرحلة أولى أن نقدّم تصورات لآليات تنفيذ عملية استهداف لجنة التنسيق. كان هناك طرحان أولهما توجيه تظاهرة إلى المقرّ ومن ثمة استهدافه وحرقه، وثانيهما التخطيط لاقتحام ليلي للمقر نفسه. لم يكن للقيادة دور يذكر في تحديد الاختيارات ويبدو مرد هذا ما باتت تعانيه من ضعف في القدرة على التأطير والتسيير. انحصر النقاش حول السيناريوهات المحتملة في مجموعة ضيّقة منها مصطفى حسين المسؤول المحلّي وأنا وثلاثة أعضاء آخرين[3]. أبدى مصطفى من البداية رفضه لفكرة الاستهداف وبرر ذلك بما قال إنّه شعور باطني بعدم الارتياح. حاول قدر جهده أن يدفعنا إلى العدول عن تنفيذها. وبقدر ما كان هو متحفظاً، بقدر ما كنت أنا مندفعاً. تمسّك، رحمه الله، بداية بسلطته التنظيمية ليحاول فرض موقفه، إلّا أنّي ردّدت أنّ التنظيم تمّ حلّه وأنّ القيادة أيّدت العملية ولا أحد يمكنه التراجع عنها إلّا في إطار شورى بيننا. عرضنا الخلاف على المجموعة وآل التصويت لأن ساندتني أغلبيتهم.
رافقني لاحقاً مصطفى في جولة معاينة للمقر، حيث اقتنع بفكرة عدم إمكانية اعتماد فكرة التظاهرة لكون موقع المقر يسهل تأمينه في صورة حدوث تظاهرات وأكد أنّ الحلّ الوحيد الممكن لتنفيذ المخطط هو المداهمة الليلية، تلك المداهمة التي عاد ليطلب مني العدول عنها بعدما أعلمني أنّ صفتي كمن خطط للعملية تمكّنني من اتخاذ مثل هذا القرار. كان مصطفى الأرفع منّا في مستواه العلمي إذ كان مهندساً في البريد كما كان أكبرنا سناً إذ كان ثلاثينياً. وكان علاوة على كل هذا الأقدم منّا في الإنتماء للحركة ولكنه ومع كل هذا قبِل أن يُدار أمر الخليّة بشكل ديمقراطي وأن يستمر في تنفيذ خطة يرفضها، في تجسيد منه لما اعتقد من قيم رابطة الأخوة ومن التزام بالبيعة.
اتفقنا كفريق تخطيط على أن تتكفل مجموعة مدربة من خارج تونس المدينة يتراوح عدد أفرادها بين 15 و20 بتنفيذ الاقتحام. وردنا من القيادة الجهوية أي العامل أنه لا يمكن توفير إسناد إلا بخمسة أشخاص. رفضنا المقترح لعدم قدرة مجموعة محدودة العدد على تنفيذ المخطط، خصوصاً أن المعطيات تؤكّد أنّ هناك كل ليلة ثلاثة عشر شخصاً يحرسون مقر اللجنة، إثنين منهم على الأقل مسلّحَان. تلقّينا لاحقاً وعداً بتوفير ما يجب من الأفراد. كان المخطط النظري المفصّل يفرض أن ينقسم المداهمون إلى مجموعتين: مجموعة أولى يحمل أفرادها شارات خضراء دورها تأمين الأشخاص الذين في المقر، ومجموعة ثانية يحمل أعضاؤها شارة حمراء تتكفّل بحرق المقر. كما كان مخططاً بأن تتم المداهمة في ثلاث دقائق والانسحاب في دقيقتين بما يضمن انتهاء العملية قبل وصول التعزيزات الأمنية من مركز الأمن القريب (مركز باب سويقة الذي يبعد عن المقر قرابة مائة متر تقريباً) أو من القصبة حيث مقر الحكومة والذي لا يبعد عن المكان كثيراً. كما تم تحديد توقيت التنفيذ ليكون في الساعات الأولى من الصباح بما يعني أن يتزامن مع فترة تبادل المواقع بين أعوان البوليس الذين يعملون ليلاً وفرق العمل الصباحية. خططنا أيضاً لتأمين سلامة الحي من خلال الحرص على قطع توصيل الإنارة الكهربائية عن كل الحي منعاً لتسرب الحريق إلى مساكنه، وتأمين سلامة الفريق المهاجم من خلال تحديد محلّات سكن لمتعاطفين مع الحركة تأوي أعضاءه لوقت وجيز بعدها يتسلّلون بزي رياضي كما لو كانوا شباباً متوجهين للمشاركة في مباريات كرة قدم بين الأحياء. وعلى مستوى التنفيذ، كان الشخص الوحيد المسموح له بأن يمسك أداة إشعال النار هو رئيس الوحدة المهاجمة. وأذكر هنا أننا – أي أعضاء خلية التخطيط – إخترنا واحداً منّا ليضطلع بهذه المهمة[4].
حدد موعد تنفيذ العملية 17 فيفري/شباط 1991 وحدّد زمنه الساعة 4:45 فجراً أي مع خروج المصلّين من المساجد وبداية حركة خفيفة بالمدينة سريعاً ما تنتهي. كنت في الليلة المحددة من بين المناوبين في الإشراف على الميليشيا التي تحرس مقر لجنة التنسيق. وقبل التوجّه إلى هناك وعلى مستوى جامع الزيتونة، التقيت مصطفى الذي ترجّاني بأسلوب فيه كثير من الاستجداء أن أطلب منه إبطال التنفيذ. تمسّكت بوجوب تنفيذ ما خططنا له. ترجّاني مجدداً أن أفكّر في طلبه ثم قال لي: نلتقي قبل اللحظة صفر بـ45 دقيقة للاستماع لقرارك النهائي، فأنت الوحيد الذي يمكنه أن يوقف تنفيذ هذه العملية. مضيت وظل في مكانه من دون حركة.
غير بعيد عن المقر على مستوى نهج فرعي وفي الموعد المحدد، تلاقينا مجدداً. أعاد الطلب. أكدت له أنّ كل المؤشرات تؤكّد نجاح العملية. استشعرت مجدداً تردّده ولكنّي لم أكترث. همس: “أشعر أنها آخر عملية”. مضيت وأنا أحلم بنصر قريب من دون أن أنتبه لوجوب الرد على ما قال. عاد مصطفى لمناداتي. التفتُّ نحوه. سألني: “هل ستذهب إلى مقر لجنة التنسيق؟” وإذ أجبت بالإيجاب، عاد ليكرر: “لا تذهب. من الأفضل ألّا تكون هناك لسلامتك”. قلت له: “لا، من الأفضل أن أكون هناك لتكون لنا فكرة واضحة عن مجريات العملية”. صمت قليلاً ثم قال: “رد بالك على روحك”. كانت الشحنة العاطفية بادية في صوته، في كلماته ولكن لم تكن لي قدرة على الشعور بذلك. أسرعت الخطى في اتجاه اللجنة وودعت مصطفى بعد اتفاق روتيني على أن ألتقيه صباح العملية في تمام الساعة العاشرة صباحاً عند أحد أبواب جامع الزيتونة.
3- العنف دماً
دخلت مسرعاً إلى المقر. توجّهت إلى مكتب الكاتب العام المساعد المناوب. جلست وإياه نتبادل أطراف الحديث الذي لم يكن جدّياً بل ذا طابع هزلي ضاحك. في لحظة التنفيذ، انقطع التيار الكهربائي. علت أصوات التكبير. لولا أنّي تمالكت نفسي، لكنت كبّرت مع المكّبرين. امتدت في تلك الأثناء نحوي يد مجالسي المرتعشة تلامسني وسمعت صوته الخافت يقول لي “آش ثمة آش ثمة”[5].
مسكته من يده بعنف وجذبته إلى الشرفة قلت له هذا أفضل مكان لنفهم ماذا يحدث. غمر الدخان المكان. شاهدت أحد الحراس يخرج من باب المقر مسرعاً والنار تلتهم جسده. اعترضه أحد أصدقائه، حاول تغطيته بمعطفه لكن يبدو أنّ المعطف الصوفي زاد في تعكير حالته. كان المهاجمون وحراس المقر يتدافعون من الباب هرباً ولا يمكن لأيّ كان أن يميّز بينهم. فهمت سريعاً أنّ التنفيذ خالف التخطيط. لم أكن أعرف حينها حدود المخالفة ولا سببها ولكنّي لم أهتم لها طويلاً. فقد كنت أرى فقط كيف أنّ النظام ينهار ونحن ننتصر وذاك أهم من كل التفاصيل.
كنت والكاتب العام المساعد في الطابق الثاني من المبنى الذي كانت تلتهمه النيران. لم يكن بمقدورنا الخروج منه من دون مساعدة الحماية المدنية التي استعملت سلالمها في ذلك. هناك أمام المقر، سمعت بخبر وجود حالات وفاة وتأكدت من واقعة وفاة عمارة السلطاني وهو من قدماء منخرطي حزب الدستور الذين يشاركون في حراسة مقر اللجنة في إطار لجان اليقظة.
بعد ساعة أو أقل، بدأت قيادات الحزب وسامي مسؤولي الدولة يتوافدون. كان عزوز الرباعي[6] والباهي الأدغم[7] أول الواصلين. حضر الدساترة القدم بحماسة كبيرة وغريبة. وغاب الوافدون الجدد عن حزبهم من اليساريين وسامي الموظفين ربما خوفاً. فرضت الصدفة وحدها أن أكون إلى جوار عزوز الرباعي الذي ربّت على كتفي محيياً شجاعتي ثم صرخ بأعلى صوته “دار بنور يلزم تجيبوهم خوانجية هوما الّي عملوها أولاد بنور”. كانت أسرة بنور من أسر المنطقة المعروفة بانتمائها الإسلامي[8].
لم أكترث للاتّهام، وانسحبت بهدوء ومن دون أن يهتم لأمري أحد، في اتجاه موعدي.
4- اللقاء الأخير مع مصطفى
وجدت مصطفى في انتظاري. كان مرتبكاً. سألني قبل كل حديث: “هل صحيح هناك موتى” قلت له ببرود: “نعم يشاع أنهما إثنان أو ثلاثة لكن أنا متأكد من واقعة هلاك واحد فقط وهو عضو بلجان اليقظة لم يقتله “الأولاد”[9] بل التهمته النيران”. دخل مصطفى في حالة هستيريا: “حرام عليكم. قلت لكم عملية خطرة. علاش هكا حرام عليك علاش هكا”[10]. كان يبكي. من دون تحفّظ – إستفاد في ذلك من خلو المكان من كل حركة لكون اللقاء تم يوم أحد أي يوم راحة أسبوعية تخلو فيه أسواق المدينة من كل حركة[11]. مسح مصطفى دموعه ثم قال لي: “رد بالك على روحك. إثنان ممن نفذوا العملية تم إيقافهما، هما من أبناء الحي”. أجبته: “من أبناء الحي لم يكن هذا اتفاقنا”. عن غير اكتراث، قال: “ليس هناك غيرهم. هوما عطاوكم الضوء الأخضر[12] وأنتم أصرّيتم على التنفيذ ربي يسامحكم”. أمسكني من يدي ثم أتمّ حديثه قائلاً: “برى فيسع ورد بالك على روحك عيش وليدي”[13]. كانت لحظة خارج السياق. انهمرت دموعي وانصرف بعد اتفاق على لقاء بيننا من الغد في التوقيت نفسه أمام مسجد صاحب الطابع. على غير العادة، وقفت أنظر إليه، وهو يغيب وسط الأزقّة الخالية، لأعود بعد ذلك من حيث أتيت.
هناك كان الكاتب العام في حالة انهيار فيما كان الصقور يتقدّمهم الأمين العام للحزب عبد الرحيم الزواري يتحركون بحماسة كبيرة. قرر هؤلاء أن يعاد طلاء المقر بالدهان وأن يصلح ما حرق منه ليعقد فيه في تمام الساعة الرابعة من بعد الظهر اجتماع “شعبي”. وبسرعة البرق، حضرت فرق التنفيذ والمعدات.
قبل الرابعة، كانت وفود المتعاطفين من ناشطين سياسيين ونقابيين وحقوقيين تتوافد إلى مقر لجنة التنسيق تعبيراً عن تضامنها. لم يؤثر فيّ المشهد وقدرت أنه مؤشر على انهيار النظام كما لم تؤثر فيّ كلمات الزواري الحماسية بعد ذلك والتي كانت كلها تحريضاً على العنف في مواجهة الظلاميين كما سمّاهم. فقد كنت أقول بيني وبين نفسي أنها رقصة الديك المذبوح.
تابعت ليلتها على غير عادتي باهتمام نشرة أنباء الساعة الثامنة ليلاً على شاشة التلفزة الوطنية التي استهلّها المذيع بقراءة بيان رسمي ورد فيه: “هاجمت مجموعة من الشباب من ذوي الميولات المتطرّفة مقر لجنة التنسيق للتجمّع الدستوري الديمقراطي يوم 17-02-1991 على الساعة الخامسة صباحاً فألقوا القبض على حارس البناية وربطوه على سارية. ثم صبّوا البنزين وأضرموا النار في المكان مما أصاب الحارس بحروق بليغة أدّت لموته[14]“. تلا هذا بث ما قيل أنها شهادات حية عن الاعتداء. ولاحقاً وقبل نهاية نشرة الأخبار، أعلن عن قرار رئيس الجمهورية إقالة وزير الداخلية عبد الحميد بن الشيخ[15] وتعيين عبد الله القلال خلفاً له[16].
في تلك الليلة، لم أنمْ. كانت تنتابني مشاعر مختلطة من الفرح بنجاح العملية والحماسة للمواجهة الممنهجة والنوعية وهو كل ما تدرّبت عليه وما أنتظره بفارغ الصبر. وكنت أنتظر بفارغ الصبر أيضاً لقاء مصطفى لأنقل إليه ارتباكهم وخوفهم وعظيم الأثر الذي خلّفته العملية لكنه لم يحضر. ارتبكت قليلاً وتحوّلت سريعاً لألتقي المسؤول عن التنفيذ لسؤاله وهذا طبعاً فيه خرق للإحتياطات الأمنية[17]. أكّد لي أنّ الخلل على مستوى التنفيذ يعود لثلاثة أسباب: أولاً أنّه وعند سكب البنزين في المقر وعن غير قصد اندلع حريق غير مخطط له، وثانياً أنّ أحد الحراس اختبأ في خزانة ولم يتم التفطّن له فمات حرقاً، وثالثاً أنّ أحد الذين شاركوا في التنفيذ وهو شاب غير مؤطّر بشكل جيد كان حاقداً كثيراً على صبابة الحزب لما ألحقوه بأسرته من أذى فنكّل بأحدهم. كما أعلمني بأنّ الأمن داهم منزل مصطفى وأوقفوه، وأنّ خليّتنا كشفت وبات علينا أن نهرب. عدت إلى مسرح العملية: وجدت جماعة الحزب يتحدثون عن تسريبات من الأبحاث تؤكد أنّ شخصاً يدعى “عبد الكريم”[18] من خطط للإعتداء ولم يربطوا بيني وبينه على اعتبار أنّ اسمي كريم لكنّي عرفت أنّي بتّ مطارداً فانسحبت بسرعة.
- نشرت هذه الحلقة في الملحق الخاص بالعدد 16 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة الملحق اضغطوا على الرابط أدناه:
ملحق العدد 16 من مجلة المفكرة القانونية: حكاية من الماضي برؤية مستقبلية
[1] كان تنظيم التجمّع يقوم على قاعدتين أوّلهما الهياكل الترابية التي تنقسم إلى شعب تتنشر في كل الأحياء والأرياف وجامعات ترابية على مستوى المعتمديات ولجان تنسيق على مستوى الولايات. وثانيهما الهياكل المهنية التي تنقسم إلى شعب خاصة بموظفي كل إدارة وكل مؤسسة عمومية وتتبع كل شعبة الجامعة المهنية الخاصة بها ومقرها بالمقر الرسمي للوزارة أو المؤسسة وتتبع جميعها لجنة التنسيق حيث مقرّها. وباعتبار أنّ غالبية الوزارات تقع بمرجع نظر لجنة التنسيق باب سويقة فقد كانت تلك اللجنة الأهم في تونس.
[2] خطة خاصة بتونس المدينة بحركة النهضة وهي خطة في مقارنة بينها و التقسيم الإداري تقل عن خطة المعتمد وتتجاوز خطة العمدة ( رئيس القسم يشرف على أربعة عمادات )
[3] لا أذكر هنا إسم العنصرين الآخرين احتراماً لحقهما في أن يقررا تقديم شهادتهما من عدمها فيما أذكر مصطفى لكونه صدر في شأنه حكم بالإعدام تم تنفيذه.
[4] لا أذكر اسمه احتراماً لحقّه في حماية معطياته وفي صياغة شهادته.
[5] ماذا هناك ماذا هناك باللهجة المحلية التونسية.
[6] من مؤسسي حزب الدستور ومناضلي الاستقلال ومن أعضاء المجلس القومي التأسيسي ومن وزراء حكومة بورقيبة.
[7] من مؤسسي حزب الدستور ومن مناضلي جيل الاستقلال أول من شغل خطة وزير أول بتونس وذلك بين سنتي 1969 و1970.
[8] الانتماء مصطلح يستعمل في الوسط الأمني يعني الانتماء لحركة النهضة و”كانت تعد تهمة”.
[9] المجموعة باللهجة المحلية التونسية.
[10] لماذا فعلتم هذا باللهجة التونسية.
[11] اللقاء كان صباح يوم أحد وذاك يوم الراحة الأسبوعية لتجار سوق المدينة. ويلاحظ هنا أنّ الواقعة ساهمت في أن يكون المكان مقفراً بالكامل لتوّجه كل أفراد الأمن والحزب إلى أحياء المدينة السكنية والتجارية المتاخمة لمقر لجنة التنسيق.
[12] في اللهجة المحلية التونسية يعني هم أي القيادة سمحوا لكم.
[13] إذهب بسرعة واحذر ولدي.
[14] عمارة السلطاني رحمه الله.
[15] في شهادة قدّمها للبرنامج الوثائقي “حريق باب سويقة الحقائق أيضاً تحرق” الذي بثته قناة “الجزيرة” ذكر المدعو محمد كريّم والذي كان في ذلك الحين يشتغل خطة سامية في لجنة الشؤون السياسية بوزارة الداخلية أنّ وزارته تلقت معلومات مفادها أنّ أمراً ما سيحصل بمقر لجنة التنسيق فتم إعلام الوزير بالموضوع لكنّ الوزير لم يهتم ونهر من أعلمه وربما كان هذا من أسباب الإقالة على فرض صحة هذه الرواية.
[16] يرجى مراجعة “مذكرات عالم جامعي وسجين سياسي سنوات الجمر”. المنصف بن سالم، صفحة 92.
[17] تلقّينا تكويناً على مستوى التنظيم في أساليب التأمين وحفظ الأمن في حالة الملاحقات وكان يحظر علينا في مثل هذه الحالات التواصل بين أفراد المجموعة الواحدة خارج المخطط له.
[18] اسمي كريم لكن في الحركة لأن كريم اسم من أسماء الله الحسنى كانت تتم مناداتي عبد الكريم.