زيادة أسعار الماء في تونس: إملاءات المُقرِضين وملامح الخوصصة


2021-06-15    |   

زيادة أسعار الماء في تونس: إملاءات المُقرِضين وملامح الخوصصة

بعد مرور سنة على زيادة أفريل 2020، أعلنت وزارة الفلاحة والصيد البحري والموارد المائية زيادة جديدة في أسعار المياه الصالحة للشراب، دخلت حيّز التنفيذ يوم 01 جوان 2021. وقد برّر وزير الفلاحة بالنيابة، فاضل كريم، هذه الزيادة بأنّها تندرج ضمن مخطّطات إنقاذ الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه. وفي السياق نفسه، أشار المدير العام للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، مصباح الهلالي، إلى أن الزيادة تهدف إلى تحقيق التوازن بين كلفة الإنتاج وأسعار البيع.

شملت الزيادة مختلف شرائح الاستهلاك التي تخضع للتسعيرة التدريجية باستثناء الشريحة الأقلّ استهلاكا.[1] ومن المُلاحظ أنّ المقارنة بين تسعيرات 2020 و2021 تشير بوضوح إلى أن التعريفة الجديدة لم تخضع لمنطق الترفيع في نسب الزيادة كلما ارتفعت نسب الاستهلاك. إذ أن الشريحتين الثانية والثالثة الأقل استهلاكا في ترتيب التسعيرة التدريجية شملتهم زيادة تتراوح بين 31% و34%، وهي على الأرجح الشريحة التي تضم معظم العائلات التونسية، في حين أن الشريحة الأكثر استهلاكا شملتها زيادة بنسبة 12% فقط. وهذه المقارنة تدحض التسويغ الرسمي القائل بأن الزيادة تهدف إلى ترشيد الاستهلاك.

جاء قرار الزيادة في الأسعار للمرة الثانية على التوالي ضمن سياق تميّز بانقطاعات متواترة للمياه الصالحة للشراب في الكثير من المحافظات، خاصة في الوسط الغربي وتونس الكبرى. فقد شهد شهر أفريل المنقضي ورود 124 تبليغا مواطنيا متعلقا بمشاكل توزيع المياه، حسب المرصد التونسي للمياه. وقد سجلت سنة 2020 حوالي 1345 تبليغاً حول اضطرابات توزيع المياه، حسب نفس المصدر[2]. ومن المنتظر أن تشهد صائفة 2021 العديد من الاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بالحقّ في النفاذ إلى المياه، تزامناً مع ذروة الاستهلاك الصيفي وتراكم مشاكل الصيانة وتهرّم شبكات التوزيع وسوء التصرّف في توزيع المياه. وفي الوقت الذي تستعرض فيه السلطات التونسية إجراء الزيادة في الأسعار بوصفه مدخلا هيكليا للسيطرة على سوء توزيع المياه واستغلالها، تلوح العديد من العوامل الأخرى المرتبطة بالتزامات تونسية إزاء الجهات الدولية المانحة وبداية ظهور النزعة الربحية في إدارة الشأن المائي داخل الدوائر الرسمية.

زيادة أسعار الماء: مسار مرتبط ببرنامج الاقتراض

بدأت الملامح الأولى لتحرير التحكّم في أسعار المياه عبر إسناد قرار الترفيع في الأسعار لوزير الفلاحة والصيد البحري والموارد المائية دون غيره، من خلال الأمر الحكومي عدد 157 لسنة 2017 المؤرّخ في 19 جانفي 2017، الذي ينصّ فصلُه 36 أنّ سـعر الماء يحدّد بمقتضى قــــرار من الوزير المكلف بالموارد المائية. وبخصوص هذا القرار الذي وقع اتّخاذه في زمن حكومة يوسف الشاهد، أفاد علاء المرزوقي وهو منسّق المرصد التونسي للمياه للمفكرة القانونية أنّ “قرار الزيادة في المياه تمّ سحبه من المجلس الأعلى للمياه الذي يضمّ السلطة التنفيذية والأطراف الاجتماعية ليصبح حكرا على وزير الفلاحة من أجل ضمان تمرير إجراء التّرفيع السّنوي في أسعار المياه دون معارضة. وهذا الترفيع السّنوي اشترطتْه الأطراف الدوليّة المانحة المهتمّة بالمشاريع المائيّة في تونس على غرار البنك الدولي والمؤسسة الألمانية للقروض من أجل إعادة الإعمار”.

شملت اتفاقية القرض المتعلقة بتمويل برنامج دعم الإصلاحات المبرمة بين الحكومة التونسية والمؤسسة الألمانية للقروض من أجل إعادة الاعمار، المبرمة بتاريخ 12 ديسمبر 2018، مخططا للقيام بـ 13 إصلاحا جديدا في قطاع المياه، من ضمنها “الترفيع في تسعيرة الماء الصالح للشرب بـ 150 مليم للمتر المكعّب والانطلاق في تنفيذ الدراسة المتعلقة بتحسين نسبة استخلاص معاليم المياه الصالحة للشراب”[3]. وقد بلغَتْ قيمة القرض الألماني 100 مليون أورو بنسبة فائدة حددت بـ2.26% سنويا وبفترة سداد مدتها 15 سنة. وفي إطار الالتزام بالإجراءات الواردة في الاتفاقية المذكورة، عقدتْ حكومة يوسف الشاهد مجلساً وزارياً في 28 فيفري 2019 وأقرّت الترفيع السنوي في أسعار الماء طيلة 5 سنوات.

في السياق نفسه، أوْصى خبراء البنك الدولي في سنة 2019 بضرورة الزيادة المستمرة لمياه الشرب في تونس، بوصفها مدخلاً للسيطرة على الضغط المائي ومقاومة نسب الهدر[4]. وقد برّر أيضا خبراء البنك الدولي موقفهم بانخفاض الأسعار الحاليّة للمياه في تونس مقارنة بسنة 2003. من جهته، أيّد ختيم خراز المدير التنفيذي لمرصد الصحراء والساحل، المنظمة الحكومية الدولية، إجراء الترفيع في أسعار الماء الصالح للشّراب، مُشيراً إلى أنّه يعتبر أحد الحلول الممكنة لتقليص تبذير المياه والحدّ من الاستهلاك.

الدّعوات إلى الترفيع في أسعار الماء اعتبرها علاء المرزوقي، منسق المرصد التونسي للمياه، “محاولة للقفز على المشاكل الهيكلية التي يعيشها قطاع الماء في تونس، من بينها هشاشة منظومة تعبئة الموارد المائية واهتراء شبكات التوزيع وتأخّر عمليات الصيانة، مما جعل ظاهرة الهدر المائي تصل إلى 50% في بعض المحافظات”. وقد أضاف المرزوقي أنّ جغرافيا انقطاع المياه المتمركزة في محافظات قفصة والقيروان والقصرين وانخراط تونس الكبرى في السنوات الأخيرة، تشير بقوة إلى ارتباط الأزمة المائية بمنوال التنمية الذي حافظ على ملامحه القديمة القائمة على التفاوت الجهوي والتهميش الاجتماعي.

تُشكّل المياه الصالحة للشراب حوالي 14% من الاستعمالات القطاعية للمياه في تونس، إذ تستأثر الفلاحة بالنصيب الأكبر الذي يصل إلى 80%. وتُقدّر كمية المياه الضائعة في القطاع الفلاحي بحوالي 22%[5]. وقد أرجَع حسين الرحيلي، المختص في التنمية، ظاهرة الهدر المائي في القطاع الفلاحي إلى استخدام قنوات وشبكات توزيع مكشوفة والمحافظة على أنظمة ريّ تقليدية في الكثير من المناطق، وضعف ثقافة المحافظة على الماء في الأوساط الفلاحية. وأشار الرحيلي أيضا إلى ضعف مردودية القطاع الفلاحي مقارنة بحجم الكميات الكبيرة للمياه المستهلكة، خاصة تلك الموجهة للزراعات السقوية المُعَدّة للتصدير.[6]

تحويل الماء من حقّ إلى سلعة

يندرج الترفيع في أسعار المياه ضمن استمرار الجدل الجمعياتي والقانوني حول مشروع مجلة المياه الذي مازال معروضا على أنظار لجنة الفلاحة والأمن الغذائي بمجلس نواب الشعب، وقد اعتُبِرَت بعض فصول هذا المشروع تمهيدا للتخلي عن الدور الاجتماعي للدولة في توفير المياه وفتح القطاع المائي أمام الخوصصة. وهذا ما يتمثل بشكل خاصّ من الفصل الثالث الذي طالبت جمعية “نوماد 08” والمرصد التونسي للاقتصاد بتعديله لأنه ينصّ أنّ السّلَط المختصة تعمل “في حدود الإمكانيات المتاحة على تمكين الجميع من الحق في الماء الصالح للشراب”، داعية إلى التخلي عن عبارة “في حدود الإمكانيات المتاحة” لأنها تقلّص من الدور الاجتماعي للدولة في توفير المياه الصالحة للشراب، بوصفها المسؤولة والضامنة الوحيدة لذلك.[7] ويعتبر الفصل الثالث غير دستوري لأنه يتناقض مع الفصل 44 من الدستور التونسي الذي ينص على أن “الحق في الماء مضمون. المحافظة على الماء وترشيد استغلاله واجب على الدولة والمجتمع”.

واقترحت الجمعيتان المذكورتان إضافة فصل في مجلة المياه يستثني التوزيع والاستغلال والتصرف في قطاع المياه الصالحة للشرب من عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، معلّلة ذلك بالقول: “تعتبر المياه حقّا من الحقوق الأساسية والاجتماعية التي يجب أن تتوفّر للأفراد على قدم المساواة والتي تضمنها الدولة، والحفاظ عليها من كل أشكال الخصخصة أو وضعها بيد المستثمرين لذلك يجب أن يُستثنى قطاع المياه من عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص”.[8] فضلاً عن ذلك، اقترحت الجمعيتان استثناء “الذوات المعنوية الخاصة” الواردة في الفصل 60 من تأمين مختلف استعمالات المياه نظرا لأن هدفها الأساسي يتمثّل في تحقيق الربح المادي. وفي السياق نفسه، طالبت هذه المنظمات باستثناء “المؤسسات الخاصة” و”المستعملين” من التصرف في شبكات التزود المائي في الفصل 63، معللة ذلك بأن التصرف في الشبكة المائية والتزويد بمياه الشرب يُوكل حصريا إلى المؤسسات العمومية والجماعات المحلية “باعتبار أن قطاع المياه مرفق عمومي لا يمكن التفويت فيه”.

تبرز أزمة التزوّد بالمياه الصالحة للشراب في الأوساط الريفية، وهي علامة على تخلّي الدولة عن دورها كضامن استراتيجي للحقّ في النفاذ إلى الماء، إذ تتزود العديد من الأرياف التونسية -خاصة الواقعة على الشريط الغربي- بالمياه عن طريق المجامع المائية، وهي هياكل مائية جماعية تمّ بعثها لتعويض غياب الارتباط بقنوات الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، خاصة في التجمعات الريفية الصغيرة والمشتتة. ورغم أن هذه المجامع المائية التي يبلغ عددها 1374 تُزوّد أكثر من مليون و544 ألف مواطن تونسي بالماء، فإنها تُعاني من سوء الإدارة والتصرف في الموارد المائية وبعضها توقّف عن العمل، إذ أن 41% من هذه المجامع تعد أوضاعها مجهولة وخارج الرقابة العمومية.[9]

إن ترك هذه المجامع إلى مصيرها المُعتَم راكم واقع العطش في الأرياف النائية، التي أصبحت مركزا للاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بتوفير المياه الصالحة للشراب. ويُعتبر هذا الإهمال تمهيدا للجوء إلى الخوصصة كبديل عن غياب الدولة. وفي هذا السياق، أفاد منسّق المرصد التونسي للمياه أن “فكرة المجامع المائية شكّلت حلا في الأوساط الريفية في ظلّ صعوبة الربط بقنوات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه، ولكن تم استخدامها كجزء من الولاءات السياسية منذ حقبة نظام بن علي، علاوة على فساد المشرفين عليها” مضيفا بالقول “لابدّ من مناهضة التوجّه الذي يدفع نحو خوصصة الخدمات المائية، ويجب إدماج المجامع المائية بالوسط الريفي تحت مؤسسة وطنية مستقلة حتى تظل منضوية في القطاع العمومي، لأن الماء خدمة حياتية لا يجب التفويت فيها والدولة مطالبة بتوفيره للجميع”. وتُعتبر وزارة الفلاحة والموراد المائية المسؤولة على تنظيم المجامع المائية ومراقبة استمراريتها في تأمين الخدمات المائية، ولكن تصل فترات غياب الرقابة العمومية على هذه المجامع إلى فترة زمنية مدتها 10 سنوات، علاوة على أن مؤسسات الرقابة نفسها تعاني من نقص الموارد التقنية والبشرية وهو ما يعكس عدم الجدية الرسمية في توفير خدمات مائية دائمة ومتساوية، خاصة في المناطق الريفية المهمشة.

 

  1. تشير معطيات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه إلى أن الشريحة الأقل استهلاكا بلغت نسبتها 43% من العدد الجملي للمشتركين في 2019، ولكن هذه الآلية تعتمد في قياس الاستهلاك على معيار “الاشتراكات” وليس “الأفراد”، وبالتالي لا تعطي نسبا علمية حول معدلات الاستهلاك الوطني طالما أن الاشتراكات تضم الآلاف من المساكن المغلقة والاشتراكات غير المنزلية ذات الاستهلاك المحدود.
  2. خارطة العطش لسنة 2020، المرصد التونسي للمياه، جانفي 2021.
  3. مشروع قانون يتعلق بالموافقة على عقد القرض المبرم بتونس بتاريخ 12 ديسمبر 2018 بين الجمهورية التونسية والمؤسسة الألمانية للقروض من أجل إعادة الإعمار لتمويل برنامج دعم الإصلاحات في قطاع المياه- مرحلة ثانية. (صادق عليه مجلس النواب في 02 جوان 2020)
  4. Gestion de l’eau en Tunisie : Des spécialistes de la BM appellent à l’augmentation des tarifs, la presse, 05/11/ 2019.
  5. حسين الرحيلي. التقييم المواطني للماء في تونس، منشورات جمعية “نوماد 08″، تونس، 2019.
  6. حسين الرحيلي (المرجع السابق)
  7. مقترحات تعديل مشروع قانون مجلة المياه، منشورات المرصد التونسي للاقتصاد وجمعية “نوماد 08”.
  8. المرجع نفسه.
  9. هذه المعطيات تحصلنا عليها من مقابلة أجريناها مع منسق المرصد التونسي للمياه.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة وتنظيم مدني وسكن ، بيئة ومدينة ، الحق في الصحة والتعليم ، سياسات عامة ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، البرلمان ، سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، تشريعات وقوانين ، قرارات إدارية ، الحق في الصحة ، حقوق المستهلك ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني