رفض رئيس الجمهورية التوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية: خطأ جسيم باسم الميثاقية


2020-06-12    |   

رفض رئيس الجمهورية التوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية: خطأ جسيم باسم الميثاقية

بتاريخ 9 حزيران، تمّ الإعلان عن حجب رئيس الجمهورية التوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية. واللافت أن المديرية العامة لرئاسة الجمهورية أعلنت عن أسباب الرفض في موقف هو الأول من نوعه. وفيما تمّ التذكير بأنّ المادة 95 من الدستور تمنع تخصيص مراكز لطوائف معينة بما يعكس تغيرا في مواقف رئاسة الجمهورية التي كانت سعت إلى تعطيل تطبيق هذه المادة (وهو أمر كانت “المفكرة القانونية” أول من أشار إليه وصولا إلى اعتبار التّشكيلات غير دستوريّة)، فإن كتاب التّبريرات تضمّن علاوة على ذلك حججاً خطيرة من شأنها منح رئاسة الجمهورية سلطة تقديرية بكل ما يتصل بمضمون مرسوم التشكيلات القضائية، من دون إيلاء أي اعتبار لمبدأ استقلالية القضاء أو فصل السلطات بل أبضا من دون إيلاء أي اعتبار للمادة 5 من قانون تنظيم القضاء العدلي التي تؤكد على الطابع الإلزامي والنهائي لمشروع التشكيلات القضائية. وقد غمزت رئاسة الجمهورية إلى أن هذه الصلاحية التقديرية إنما تدخل ضمن “الميثاقيّة”. ومؤدّى هذا الأمر هو أن رئاسة الجمهورية اعتبرت أن من حقها رفض التوقيع على التشكيلات ليس فقط لأنها مشوبة بمخالفة دستورية فاقعة (مخالفة المادة 95)، بل أيضا لأن لها سلطة التقدير المطلق في مدى ملاءمة التعيينات. يعالج هذا المقال هذا الجانب من أسباب الرفض، على أن تعالج المفكرة في مقالات أخرى سائر الجوانب (المحرر).

رفض رئيس الجمهورية التوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية التي أقرّها مجلس القضاء الأعلى ولكنه هذه المرة علل موقفه من خلال كتاب وجهته المديرية العامة لرئاسة الجمهورية إلى رئيس مجلس الوزراء. يشكل هذا الكتاب فرصة ثمينة تسمح لنا بفهم المنطلقات التي يعتبرها رئيس الجمهورية ضوابط تحكم تصرفه مع سائر السلطات العامة، وهي تعكس أيضا نظرته إلى طبيعة النظام السياسي اللبناني وكيفية عمل المؤسسات. وبالتالي، لا بد من مناقشة رد رئيس الجمهورية علما أننا سنكتفي بالجانب الدستوري منه دون التعرض لموضوع التشكيلات القضائية والخلفيات السياسية التي تكمن وراء الأمر.

ينطلق رئيس الجمهورية من تحليل جديد لكنه تكرر أكثر من مرة خلال هذه الفترة حول أهمية صلاحيات رئيس الجمهورية بالنسبة للمراسيم العادية أي تلك التي لا تحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء بغية إقرارها. وبالفعل جاء في البند الثاني من كتاب الرد ما حرفيته: “إنّ المرسوم العادي هو من الوسائل القليلة والفاعلة التي أبقاها الدستور، بعد تعديلات 1990، بتصرّف رئيس الجمهوريّة كي يحقق قسمه الدستوري، فلا يلتزم بقيد زمني أو أيّ قيد آخر سوى القيود الدستوريّة والميثاقيّة…”.

يفرق الاجتهاد الإداري في لبنان بين المراسيم العادية التي يصدرها رئيس الجمهورية بعد توقيعها من قبل رئيس مجلس الوزراء والوزراء المختصين والمراسيم التي لا يمكن إصدارها إلا بعد موافقة مجلس الوزراء. وقد رأى البعض أن هذا التمييز يعزز من صلاحيات رئيس الجمهورية كون المراسيم التي تتخذ في مجلس الوزراء تصبح نافذة حكما في حال امتنع رئيس الجمهورية عن توقيعها أو ردها خلال خمسة عشر يوما من تاريخ إيداعه إياها وفقا لأحكام الفقرة الثانية من المادة 56 من الدستور.

إن التمييز بين المراسيم العادية وتلك التي تقر في مجلس الوزراء ليست بجديد وهو أصلا مكرس في النظام القانوني اللبناني منذ قبل اتفاق الطائف. لكن الجديد في طرح رئيس الجمهورية هو تحويل هذا التمييز إلى صلاحية مطلقة لا يمكن المساس بها ما يستشف منه أن توقيع رئيس الدولة على المراسيم العادية يرتبط بالتوازن الطائفي القائم بين السلطات العامة. علاوة على ذلك يعتبر كتاب الرفض أن المراسيم العادية هي فئة مكرسة في الدستور إلى جانب الفئة الثانية من المراسيم التي تتخذ في مجلس الوزراء ما يعني أنها صلاحية محصنة بقوة النص الدستوري.

جراء ما تقدم، يتبين لنا أن هذه المقاربة للمراسيم العادية لا تقع في موقعها القانوني الصحيح وذلك للاعتبارات التالية:

  • أن الدستور لا ينص على وجود فئة تعرف بالمراسيم العادية بل يكتفي بالقول أن المراسيم التي تتخذ في مجلس الوزراء على رئيس الجمهورية أن يصدرها خلال 15 يوما أو أن يطلب ردها. صحيح أن الدستور يشير أحيانا إلى مراسيم يصدرها رئيس الجمهورية من دون حاجة إلى موافقة مجلس الوزراء، لكن هذه المراسيم تتعلق جميعها بصلاحيات أناطها النص الدستوري برئيس الجمهورية مباشرة كفتح دورة استثنائية لمجلس النواب أو مرسوم منح عفو خاص أو منح الأوسمة. إن هذه المراسيم التي يعددها الدستور لا تعني وجود فئة من المراسيم العادية المحصنة دستوريا كونها مراسيم خاصة تتعلق بممارسة رئيس الجمهورية لدوره ولا يمكن إصدارها إطلاقا دون توقيع هذا الأخير.
  • ما يؤكد هذا الأمر هو أن التفريق بين المراسيم العادية وتلك التي تتخذ في مجلس الوزراء يعود إلى الدستور أولا كون أحكام الدستور تعدد مجموعة من المراسيم التي لا يمكن إصدارها إلا بعد موافقة مجلس الوزراء كمرسوم حل مجلس النواب والمرسوم الذي يضع مشروع قانون معجل موضع التنفيذ عملا بالمادة 58 من الدستور. لكن ليس الدستور وحده الذي يتولى التمييز بين المراسيم العادية وتلك التي تقر في مجلس الوزراء كون القانون أيضا يمكن له أن يحدد ما إذا كان المرسوم يجب أن يتخذ في مجلس الوزراء أو يتم الإكتفاء ياصداره من قبل رئيس الجمهورية بناء على اقتراح الوزير المختص دون الحاجة للمرور بمجلس الوزراء. فأعداد النصوص القانونية التي تصدر بمراسيم كبيرة جدا ولا يمكن للدستور أن يعددها بشكل شامل بحيث يقول هذه المراسيم تدخل ضمن فئة المراسيم العادية بينما تلك تدخل ضمن الفئة التي تحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء. لذلك يتولى القانون هذا التحديد فيقول مثلا أن دعوة الهيئات الانتخابية أو التشكيلات القضائية تتم بمرسوم عادي، بينما تحديد مقدار تعويض النقل والإنتقال يتم بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء. أي أن السند القانوني هنا للتفريق بين المراسيم هو القانون وليس الدستور ما يعني أن لا شيء يمنع تعديل القانون بحيث يتحول المرسوم العادي إلى مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء أو العكس شريطة عدم مخالفة الدستور. وهذا ما حصل فعلا أكثر من مرة ليس فقط من خلال التبديل بين نوعي المراسيم بل أيضا عبر تحويل الأمر من نص يحتاج الى مرسوم إلى نص يصدر بمجرد قرار عن الوزير. فإصدار الطوابع البريدية والمالية كان قديما يتم بمراسيم يصدرها رئيس الجمهورية وبعد صدور تشريعات جديدة تنظم وزارة المالية ووزارة الاتصالات أصبح اصدار الطوابع البريدية والمالية يتم بقرار يصدره تباعا كل من وزير الاتصالات ووزير والمالية.
  • لا بل أكثر من ذلك، اعتبر المجلس الدستوري في لبنان “أن المراسيم التطبيقية التي تتصل بإدارة ومصالح الدولة لكنها تتعلق بالأمور العائدة إلى إدارة الوزير وبما خص به، فتتخذ بناء على اقتراح الوزير ولا حاجة لاتخاذها في مجلس الوزراء، علما بأن لا حائل دستوري يمنع اتخاذها في مجلس الوزراء باعتبار أن هذا الأخير الذي يستطيع الأكثر يستطيع الأقل” (قرار رقم 1 تاريخ 31/1/2002). أي أن المجلس الدستوري[1] في لبنان تبنى اجتهاد مجلس شورى الدولة الفرنسي[2] الذي اعتبر أن المراسيم العادية التي يصدرها رئيس الوزراء الفرنسي يجب أن يصدرها رئيس الجمهورية في حال تم اقرارها في مجلس الوزراء، كون الدستور الفرنسي نص على ان رئيس الجمهورية يوقع المراسيم التي تبت في مجلس الوزراء بينما رئيس الوزراء يصدر المراسيم العادية الأخرى التي لا تقر في مجلس الوزراء. وبالفعل لا بد لنا من التذكير بالإنتخابات الفرعية التي جرت سنة 2007 عن المقعد الذي شغر بعد اغتيال النائي بيار الجميل. فالمادة 7 من قانون الانتخابات النافذ حينها (القانون رقم 171 الصادر في 6 كانون الثاني 2000) كانت تنص على أن دعوة الهيئات الناخبة تتم بمرسوم عادي. وقد رفض رئيس الجمهورية إميل لحود توقيع ذلك المرسوم كون الحكومة كانت بنظره فاقدة للشرعية الأمر الذي دفع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة إلى اتخاذ خطوة غير مسبوقة من قبل. فقد أقدم رئيس الحكومة على عرض مرسوم دعوة الهيئات الناخبة على مجلس الوزراء واستحصل من هذا الأخير على موافقته وهكذا تم ارسال المرسوم إلى رئيس الجمهورية بحيث تبدأ مهلة الخمسة عشر يوما بالسريان. وبالفعل صدرت الدعوة للإنتخابات في 2 تموز 2007 على شكل مرسوم نافذ حكما حمل الرقم 493 ونشر في الجريدة الرسمية.
  • ورد في كتاب الرد “أما وقد اتصل مشروع المرسوم برئيس الجمهوريّة، فهو يخضع لتقديره المطلق”، وهذا صحيح من الناحية الدستورية الصرفة إذ لا يمكن إلزام رئيس الجمهورية بتوقيع المراسيم العادية. وهذا ما أكده مجلس شورى الدولة حيث اعتبر في اجتهاد مستقر التالي: “وبما أنه ولئن اقترن مشروع المرسوم بتواقيع رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية ووزير المالية، فان ذلك لا يولي المستدعي أي حق مكتسب بالتعيين طالما أن هذا المشروع لم يقترن بتوقيع رئيس الجمهورية ولم يأخذ صيغة المرسوم، إذ يبقى مجرد مشروع ولا يدخل في الإنتظام القانوني إلا بعد صدوره بمرسوم يوقعه رئيس الجمهورية. وبما أن ما يدلي به المستدعي لجهة أنه لا يحق لرئيس الجمهورية  أن يرفض توقيع المرسوم المتضمن اسمه (…) لا يقع موقعه القانوني الصحيح، لأن رئيس الجمهورية بصفته رئيس الدولة والمسؤول عن احترام تطبيق الدستور والقوانين يتقيد بكل ما يصدره من مراسيم بمبدأ الشرعية، ولرئاسة الجمهورية التثبت من انطباق هذه المراسيم على أحكام القانون وعلى مجموعة القواعد التنظيمية المرعية الإجراء (قرار رقم 267 تاريخ 19/1/2014).[3]

في النهاية نشير إلى ملاحظة ختامية ألا وهي إقحام رئيس الجمهورية للميثاقية في تعليله للأسباب التي قد تدعوه إلى رفض التوقيع على المراسيم وهو مفهوم إعتباطي يتطور وفقا للمصالح السياسية والتوازن السياسي بين الزعماء وغالبا ما يشكل التبرير الطائفي للمحاصصة التي باتت الآلية المسيطرة على النظام السياسي اللبناني.


[1]نشير هنا أن المستشار الدستوري الحالي لرئيس الجمهورية الدكتور سليم جريصاتي كان عضوا في هيئة المجلس الدستوري التي اتخذت هذا القرار الذي يحمل توقيعه.

[2] Arrêt Meyet (CE, Ass., 10 septembre 1992)

[3]  يذكر أن قانون تنظيم القضاء العدلي نص على أن إقرار مجلس القضاء الأعلى للتشكيلات القضائية بأكثرية 7 من أعضائه على الأقل يجعلها نهائية وملزمة (المحرر).

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني