رغم محاولات “اللملمة” والتعلل بالظرف الاستثنائي؛ صفقة الكمامات ما تزال تتصدر الجدل السياسي


2020-05-06    |   

رغم محاولات “اللملمة” والتعلل بالظرف الاستثنائي؛ صفقة الكمامات ما تزال تتصدر الجدل السياسي

من اتصال هاتفي جمع وزير الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة صالح بن يوسف بجلال الزياتي الذي يمتلك شركة في قطاع النسيج، والذي تبين بعد ذلك أنه نائب بمجلس نواب الشعب، للتفاوض حول صناعة مليوني كمامة بصفة استعجالية، لشبهة فساد هزت الرأي العام والوسط السياسي فيما عُرف لاحقا بقضية الكمامات.

لم يترتب على هذه الفضيحة جدل سياسي وإعلامي فحسب بل تم فتح تحقيق في الغرض من قبل الهيئة العامة لمراقبة المصاريف العمومية بإذن من وزير الدولة لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد محمد عبو يوم 16 أفريل 2020 ليُنشر ملخّص هذا التحقيق للعموم يوم 27 أفريل 2020، فاتحا باب التأويل حول مصداقيته خاصة بعد محاولة تبييض رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ هذه الحادثة بعد أن كان رافعا لواء الحرب على الفساد.

تقرير المهمة الرقابية بين مثمن ومعارض

لئن أنجز التقرير التأليفي حول المهمة الرقابية المتعلقة بطلب تصنيع مليوني كمامة غير طبية في فترة وجيزة قصد كشف الحقيقة وتحميل المسؤوليات إلا أن فحواه لم يلقَ القبول الكافي لدى جزء هام من الطبقة السياسية خاصة في ظلَ تراخٍ بدا على تصريحات بعض المسؤولين، ابتداء بإنكار وزير الصناعة معرفته بالنائب جلال الزياتي، ومن ثمّ موقف رئيس الحكومة الذي اعتبر أنه لا يوجد شبهة فساد في التقرير.

وعموما لئن عولت حكومة الفخفاخ منذ بداية عملها على مكافحة الفساد كشعار وهدف رئيسي لها، إلا أنه غابت عنها الصرامة الكافية في التعاطي مع هذا الملف وفق عدد من معارضيها، حيث اعتبرت منظمة أنا يقظ في بيان لها عن استنكارها تبرير كل من رئيس الحكومة ووزير الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد لجهل الإدارة ممثلة في وزير الصناعة ونائب الشعب بالقانون. فلا يعذر الجاهل بجهله للقانون وهي قاعدة تطبق على المواطن البسيط ومن باب أولى وأحرى أن تطبق على الوزراء والمسؤولين.

ورغم إصرار المعارضة على هشاشة التقرير الذي أنجزته الهيئة العامة لمراقبة المصاريف العمومية، إلا أن التقرير يحمل جوانب أساسية تستوجب التحليل والقراءة جيدا، حيث أقر النائب بدر الدين القمودي رئيس لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام في تصريحه للمفكرة القانونية أن التقرير ليس بذلك الضعف الذي يروّج له، بل يحمل نقاطا ذات أهمية فائقة. فقد أكّد على مخالفة المبادئ العامة للحوكمة الرشيدة عبر أربعة عناصر وهي تعدّد اللجان وغياب تحديد المسؤوليات وعدم وضوح الصلاحيات والإختصاصات واعتماد محاضر جلسات وليس مقررات. هذه العناصر تؤدّي إلى تشتيت المسؤولية وصعوبة إمكانية مساءلة الأطراف المتداخلة بالسرعة المطلوبة. كما أقر ّالتقرير بوجود مخالفة تتمثل في عدم تكليف الصيدلية المركزية بالتفاوض حول الكلفة والمواصفات باعتبارها المشتري العمومي، ناهيك أن وزارة التجارة هي المخوّل لها تحديد الثمن المرجعي للكمامة وهو ما خالفه وزير الصناعة.  من جهة ثانية لم يخفِ التقرير شبهة تضارب المصالح. فقد قام وزير الصناعة صالح بن يوسف بتسريب المواصفات الفنية للكمامات المطلوبة قبل صدور كرّاس الشروط بثلاثة أيام وهو ما وصفه التقرير بتسريب معلومات ممتازة أي مهمة. وقد جاء فيه أن هذا التصرف يعتبر مخالفة للصيغ القانونية والترتيبية للشراءات والطلبات العمومية وخاصة المنافسة والشفافية والمساواة مع غياب صفة المشتري العمومي. ويضيف النائب بدر الدين القمودي “عموما هذا جزء فقط من الشبهات التي أثارها التقرير، لأن النسخة الكاملة لم يقع نشرها إلى حد الآن، ولم يقع مدّ هيئة مكافحة الفساد في البرلمان بها. ولكن لابد من اتخاذ الخطوات اللازمة فيما بعد وعدم الإكتفاء بنشر التقرير، ومحاسبة كل من ثبت تورطه مهما كانت صفته.”

في مقابل ذلك، لا زال الحزام السياسي الضيق للحكومة متشبّثا بالدفاع عن خياراتها ومثمّنا لتقرير المهمة الرقابية. فقد اعتبر النائب الأسعد الحجلاوي (عن التيار الديمقراطي) في تصريحه للمفكرة القانونية أنه “لا يوجد مجال للتشكيك في مصداقية هذا التقرير لأنه قد أقر بوجود إخلال واضح في الإجراءات ولكن ما يجب أن يعيه الجميع سواء كانوا من الطبقة السياسية أو من الوسط الإعلامي أو حتى بالنسبة إلى الرأي العام هو أن الهيئة العامة لمراقبة المصاريف العمومية ليست محكمة وليس من مهامها توجيه التهم، فمهمتها هي رصد التجاوزات وتقديم توصيات ومن ثم يأخذ القضاء مجراه. فالهيئة تصف الخلل والمحكمة تتولى عملية التكييف”.

فساد من دون تحقيق أي منفعة شخصية

تباينت التأويلات بسبب تقرير المهمة الرقابية حول صفقة الكمامات غير الطبية وتصريح وزير الدولة لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد محمد عبو الذي رفض فيه توجيه تهمة الفساد مباشرة إلى أي من الطرفين المتداخلين في هذه الصفقة بدعوى أنه لم يقع تحقيق أي منفعة سواء من قبل صاحب الأعمال أو المسؤول الإداري. وهذا ما ينص عليه تعريف الفساد في نص القانون حيث جاء في القانـون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين أن الفساد هو كل تصرف مخالف للقانون والتراتيب الجاري بها العمل يضرّ أو من شأنه الإضرار بالمصلحة العامة، وسوء استخدام السلطة أو النفوذ أو الوظيفة للحصول على منفعة شخصية ويشمل جرائم الرشوة بجميع أشكالها في القطاعين العام والخاص والاستيلاء على الأموال العمومية أو سوء التصرف فيها أو تبديدها واستغلال النفوذ وتجاوز السلطة أو سوء استعمالها (…). ونظرا لأن الصفقة قد ألغيت فلم تتحقق أي منفعة مادية أو معنوية لأحد الطرفين بناء على التعريف المنصوص عليه للفساد.

لئن بدا النص القانوني واضحا من خلال التأكيد على (استخدام السلطة أو النفوذ أو الوظيفة للحصول على منفعة شخصية) فإن عضو الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد محمد العيادي كانت له قراءة أخرى لمفهوم الفساد الذي عرّفه القانون، حيث اعتبر في تصريحه للمفكرة القانونية أن الفساد في صورته العامة يشترط بالفعل تحقيق منفعة أيا كانت، سواء للشخص أو للغير، وهذا ما نص عليه أيضا الفصل 96 من المجلة الجزائية (يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية … استغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما.) ولكن، هل من المعقول أن نتحدث عن صفقة بقيمة 90 مليار دينار، وتمكين مزود واحد دون غيره منها، إضافة إلى كونه نائبا تحوم حوله الكثير من شبهات تضارب المصالح، ليخرج علينا الوزير نافيا غياب المنفعة؟ إضافة إلى ذلك فإن السعي إلى تحقيق المنفعة في حد ذاته موجب للعقاب. وردّا على تبرير وزير الدولة لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد محمد عبو من أنه لا يوجد منفعة قد تحققت، علّق العيادي موضحا إن هذا ليس من صلاحياته وسيثبته القضاء. وقد قامت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في هذا السياق بجمع المعطيات والقرائن الجدية وأحالت الملف إلى القضاء ليبت فيه.

إخلالات عديدة… فهل ترقى لشبهة فساد؟

لئن أنكر وزير الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة صالح بن يوسف معرفته بالنائب جلال الزياتي قبل الاتصال به من أجل هذه الصفقة، وهو ما يمكن اعتباره تقصيرا من طرف الوزير إلا أن موافقة النائب جلال الزياتي على قبول العرض يعتبر مخالفة قطعية للنص القانوني. فقد جاء في التقرير الرقابي أن قيام وزير الصناعة بالاتفاق شفاهيا مع أحد المزودين لإنتاج مليوني كمامة مخالف للفصل 25 من النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب الذي ينص على أنه يحجر على كل عضو بمجلس نواب الشعب أن يستعمل صفته في أي إشهار يتعلق بمشاريع مالية أو صناعية أو تجارية أو مهنية … كما يحجر على أعضاء مجلس نواب الشعب التعاقد بغاية التجارة مع الدولة أو الجماعات العمومية أو المؤسسات أو المنشآت العمومية.

كما أقر التقرير أن ما قام به وزير الصناعة يعتبر مخالفا للفصل 20 من القانون عدد 46 لسنة 2018 المتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح. حيث جاء فيه يحجر على كل من رئيس الجمهورية ومدير ديوانه ومستشاريه، رئيس الحكومة وأعضائها ورؤساء دواوينهم ومستشاريهم، رئيس مجلس نواب الشعب وأعضائه ورئيس ديوانه ومستشاريه، رؤساء الجماعات المحلية وأعضاء مجالس الجماعات المحلية، أثناء ممارسة مهامهم التعاقد بغاية التجارة مع الدولة أو الجماعات المحلية.

حكومة الفخفاخ تتبنى شعار الضرورات تبيح المحظورات

رغم تأكيد حكومة إلياس الفخفاخ في وثيقتها التعاقدية قبل نيل ثقة البرلمان أصلا، على ضرورة محاربة الفساد كأولوية استعجالية حيث جاء في جزء الأولويات المستعجلة ضرورة تفعيل استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد ووضع سياسة جزائية تجعل مقاومة الفساد بكل أشكاله أولوية وإعلان سياسة صفر تسامح مع الفساد السياسي، إلا أن عددا كبير من النشطاء السياسيين اعتبروا أن الحكومة ناقضت مبادئها في أول اختبار جدي لها. فما أن اتجهت أصابع الاتهام إلى أحد وزراء الحكومة حول ضلوعه في شبهة فساد وتضارب مصالح حتى اعتبر رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ أن الظرف الحالي الذي تعيشه البلاد يبيح عدم احترام الشروط والإجراءات القانونية في الصفقات العمومية.

فقد اعتبر رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في لقاء تلفزي له يوم 19 أفريل 2020 أنه لا ينبغي الحديث عن شبهة فساد لأن المسؤول قد اجتهد عندما اتصل مباشرة بصاحب شركة النسيج وأن ما يحدث حول ما سمي بصفقة الكمامات عبث ويصدر عن أشخاص إما يصطادون في الماء العكر أو لا يعرفون كيفية عمل مؤسسات الدولة، وأنه على استعداد لإصدار مرسوم حتى ينتج مصنع النائب (جلال الزياتي) الكمامات الطبية وذلك من أجل حماية التونسيين والحفاظ على صحتهم.

تصريح فجّر وابلا من ردود الأفعال المتباينة التي اعتبرت أن الفخفاخ الذي كان ينادي بإعلان الحرب على الفساد كأولوية عارض مبادئه في أول تحدّ واجهه، ناهيك أنه فتح جدلا حول طريقة التعاطي مع القرارات زمن الأوبئة. وردا على ذلك اعتبر النائب ياسين العياري في تصريح له أن ما قام به رئيس الحكومة يعتبر خطيرا جدا فلم يكفِه التغطية على قضية فساد واضحة بل إنه يشرعن لمخالفة القانون بدعوى حالة الحرب التي تخوضها الدولة ضد الكورونا، فإذا كان بالفعل يود التسريع في الإجراءات وتفادي البيروقراطية كان بإمكانه إصدار مرسوم ينظم ذلك.

عموما لئن برر رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ ما قام به وزير الصناعة صالح بن يوسف من اتصاله مباشرة بصاحب شركة النسيج جلال الزياتي بأن الظرفية الاستثنائية اقتضت مخالفة القانون، فإن المشرع التونسي قد وضع تراتيب استثنائية يمكن اعتمادها في حالة الجوائح والآفات والظروف الاستثنائية، حيث جاء في الفصل عدد 49 للأمر عدد 1039 لسنة 2014 المتعلق بتنظيم الصفقات العمومية أن تعتبر “صفقات بالتفاوض المباشر” الصفقات التي يبرمها المشتري العمومي في الحالات التالية: الطلبات التي لا يمكن إنجازها بواسطة الدعوة إلى المنافسة عن طريق طلب العروض نظرا لمتطلبات الأمن العام والدفاع الوطني أو متى اقتضت المصلحة العليا للبلاد أو في حالات التأكد القصوى الناتجة عن ظروف لا يمكن التنبؤ بها. وبذلك فإن المشرع قد أعطى الإمكانية للتفاوض المباشر في حالات استثنائية.

حول هذه النقطة، اعتبر محمد العيادي عضو الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تصريحه للمفكرة القانونية أن التفاوض المباشر لا يكون بالطريقة التي قام بها وزير الصناعة بل إنّ هناك شروطا يتوجّب الإلتزام بها، فلا بد من تحرير قائمة مختصرة للأشخاص المعنيين (المزودين) ثم اختيار أحد هؤلاء الأشخاص وفق معايير موضوعية وعلى أساس الكفاءة والإنتاجية وتنتهي بكتابة تقرير مفصل لدوافع الاختيار ومعضد بمستندات وحجج.

في نفس السياق، اعتبر النائب بدر الدين القمودي رئيس لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام أنه لا شيء يبرر التعاطي مع ملفات الفساد بأيادٍ مرتعشة فبالفعل نحن كما قال رئيس الحكومة في حالة حرب ولكن في هذه الظروف لا يجب التسامح مع الفساد بل يجب التعامل معه بصرامة وجدية أكثر، لأن المسؤولية مضاعفة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني