رجالات الاستقلال: الأوليغارشيّون الأوائل


2021-05-06    |   

رجالات الاستقلال: الأوليغارشيّون الأوائل
رسم رائد شرف

الاحتكارات في لبنان من عمر لبنان نفسه، بل سابقة عليه. نشأت هذه الاحتكارات مع تغلغل الرأسمالية الأوروبية في الشرق العثماني في القرن التاسع عشر. وتزامن هذا التغلغل مع ظاهرتين أسّستا لبنية اقتصادية احتكارية في بلاد الشام عامّة وجبل لبنان خاصّة. الأولى ضرب التنوّع في الإنتاج الحِرَفي والزراعة المحلّية لصالح رزمة ضيّقة من المنتجات الأوّلية المطلوبة أوروبياً مثل الحرير. والثاني سيطرة شركات أجنبية عدّة على قطاعات اقتصادية كالنّقل والزراعة الصناعية والتجارة والمال عن طريق التسهيلات الجمركية والامتيازات الممنوحة من قبل الباب العالي – نتيجة ضغوط سياسية.

زاد الاحتلال الفرنسي بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية إبّان الحرب العالمية الأولى من الطبيعة الاحتكارية للاقتصاد اللبناني. وقد عاونه في ذلك طبقة تجارية مالية تسلّمت دفّة الحكم بعد الحرب العالمية الثانية واستحوذت على الوكالات الحصرية وورثت الامتيازات الفرنسية. تشكّلت نخبة هذه الطبقة الأوليغارشية الأولى بعد الاستقلال وكرسّت نمطاً من الاقتصاد الاحتكاري التابع الذي ما زال سارياً حتى يومنا هذا.

الاحتكار ما قبل الاستقلال

تصّدر امتيازا البنك السلطاني العثماني وشركة الريجي للتبغ الاحتكارات الممنوحة في السّلطنة العثمانية. تأسّس البنك برأسمال فرنسي وبريطاني، ونال الحقّ الحصري لإصدار العملة الورقية وإدارة أموال الدّولة إلى جانب الأعمال المصرفية الخاصّة وكان أوّل فرع له في بيروت. وموّل المصرف وشجّع الاستثمارات الأوروبية في السلطنة مما زاد من التبعيّة الاقتصادية وسطوة الشركات الأوروبية على السوق العثماني. أمّا شركة الريجي التي شكلت الحصّة الأكبر، أي 25% من مجمل الاستثمارات الأجنبية في كل أنحاء السّلطنة بين 1881 و1914، فتكوّنت من كونسورسيوم من البنوك الأوروبية، بما فيها البنك السلطاني العثماني. وقد حاز الكونسورسيوم على الحق الحصري لتصنيع السجائر وبيعها داخل السّلطنة من قِبَل “إدارة الدين العام العثماني”، وهي بدورها هيئة أوروبية أمسكت بمالية السّلطنة إبان إفلاس الأخيرة عام 1875 وكان لها الكلمة الفصل في جني الضرائب ومنح الامتيازات من أجل تأمين دفع الديون.(1)

تعزّزت هذه الامتيازات إبّان الاحتلال الفرنسي للولايات السورية بعد الحرب العالمية الأولى، بحيث لم يعد هناك من وسيط عثماني تحتاج الشركات أخذ موافقته ولو رسمياً. فبينما ألغت جمهورية تركيا الحديثة امتياز الريجي عام 1925، تم التجديد له في سوريا ولبنان عام 1935، ليفتتح ذلك عهداً طويلاً من الاستغلال لفلّاحي وعمّال التبغ والنضال المضادّ له. كذلك تمّ التجديد لامتياز البنك السلطاني العثماني، تحت مسمّى بنك سوريا ولبنان الكبير ومن ثم بنك سوريا ولبنان. وقد استغلّ المصرف موقعه المالي المميّز لتبدية الاستثمارات الفرنسية أثناء فترة الانتداب فأصبح البوّابة المالية التي ارتكزت عليها مروحة واسعة من الاحتكارات. عند الاستقلال، أبقت السلطات اللبنانية، بعكس نظيرتها السورية، على الكثير من تلك الامتيازات، وعلى رأسها امتياز بنك سوريا لبنان، فشكّل ذلك النواة الأولى لطبقة الأوليغارشية اللبنانية، وعلى رأسها بعض رجالات الاستقلال أنفسهم.

تركّز الثروة والحلقات الاحتكارية الثلاثة

ارتأى رجالات الاستقلال تخليد ذكرى سجنهم لأيّام معدودة في قلعة راشيا مقابل طمس السنوات التي قضوها في مراكمة الثروات. لكن علاقاتهم غير الرّسمية مع المسؤولين الأميركيين في بيروت سمحت بتوثيق شبكات السّلطة والمال التي بنوها عن طريق اقتصاد الحرب العالمية الثانية وممارسات الاحتكار والتهريب. يرسم صموئيل روف في تقريره الصادر عن البعثة الأميركية في بيروت بعنوان “السيطرة السياسية التي تمارسها الطبقة التجارية في لبنان” خارطة حيّة لهؤلاء ويضعهم ضمن ثلاث دوائر من النفوذ ارتبطت أقواها برئيس الجمهورية بشارة الخوري عبر صلات القرابة (الدم أو المصاهرة) وقُدِّرت ثروتها عام 1948 بما يقارب 40% من الميزانية العامّة.

تضمّنت الدّائرة الأضيق فؤاد وخليل الخوري، شقيق وابن رئيس الجمهورية على التوالي (سمسرة عقود مشاريع بناء كبرى كمطار بيروت الدّولي وشركة التلغراف والبريد والمرافعة باسم شركات الامتياز الفرنسية المعفيّة من الضرائب)، بالإضافة إلى ميشال شيحا – شقيق زوجة الرئيس خوري – وهنري فرعون – شقيق زوجة شيحا – (قطاع المصارف والمقاولة والمرفأ) ووزير المالية ورئيس الوزراء حسين العويني (رأسمال سعودي ووكالات أجنبية) وميشال ضومط (شركات مقاولة ومصارف) وجان فتّال (صاحب أكبر شركة استيراد للأدوية في المنطقة والمتّهم بافتعال خدعة انتشار وباء التيفوئيد في سوريا عام 1950 التي أدّت إلى بيع كمّيات كبيرة من الأدوية المضادّة للمرض)، وآل كتّانة (أصحاب أكثر من خمسين وكالة حصرية للمنتجات الأميركية). أمّا الدائرة الثانية، فضمّت مصرفيين وتجّاراً من آل صحناوي وقطّار وصبّاغ وطراد وكرم (ملكيّات عقارية ومصارف واستثمارات في شركة الطيران “إير ليبان” وغيرها من الشركات الفرنسية). وبرز في الدائرة الثالثة رجال أعمال في قطاعات الصناعة والزراعة والنقل والعقارات من آل الدّاعوق وأبو جودة وبستاني سلام وعلى رأسهم الوجيه والتّاجر البيروتي صائب سلام. هذا بالإضافة إلى البطريرك أنطون عريضة الذي كان يملك استثمارات عقارية في بيروت وسيدني، أستراليا، بالإضافة إلى حيازته أسهماً في شركة الطاقة الفرنسية في طرابلس ورعايته لمعمل شكّا للإسمنت.

أدّى مصرف سوريا ولبنان، وعلى رأسه مدير المصرف الفرنسي هنري بيسون، دوراً محورياً في تمكين هذه الدوائر من بسط نفوذها وتوسيعه، بالإضافة إلى اتّباع سياسة نقدية تدعم الاستيراد على حساب التنمية الاقتصادية المتوازنة وتعطي الأفضليّة في التسليف والمبادلات التجارية للرأسمال الفرنسي ووسطائه المحلّيين. ساهم بيسون، الحاكم المالي الفعلي للبنان حتى عام 1951 (تاريخ استقالته)، في تأسيس أكبر شركات التأمين هي الاتحاد الوطني، وكارتيل استثماري تحت مسمّى “سيرياك” الذي مثّل المصالح الرأسمالية في لبنان ورعى مشاريع استثمارية ضخمة (وقد تَعرَّض محامي الكارتيل، حميد فرنجية، لاتهامات بالفساد المتمثل بتضخيم سعر تكلفة مواد البناء). وفي عقد الخمسينيّات، تراجع دور رأس المال الفرنسي لصالح رأس المال الأميركي من خلال قطاعات النفط (خط أنابيب التابلاين الآتي من السعودية) والطيران واستيراد السلع الاستهلاكية فلم يتردّد الأوليغارشيون الأوائل في إعادة تشكيل شبكات الاحتكار لتتوافق ومصادر الثروة الجديدة.(2)

استمرّ حكم الأوليغارشية واستفحل في العقود اللاحقة. فقبيل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، وصل تركّز رأس المال إلى مرحلة سيطر فيها 40% من أصل 800 عائلة تظهر أسماؤها على لوائح مجالس إدارات الشركات المساهمة والمغفّلة، على ثلث مجموع رأسمال هذه الشركات وعلى 70% من مبيعاتها و50% من تجارة الاستيراد. هذا واحتكر 20 تاجراً 85% من استيراد المواد الغذائية واحتكرت ثلاث أسر حصّة بلغت 22% من قيمة استيراد الأدوية والمواد الطبية.(3) وأفرزت الحرب الأهلية وما تلاها من “إعمار” أثرياء جدد واحتكارات متجدّدة قوامها أمراء الحرب وأصحاب المصارف وكبار تجّار الاستيراد.

الاحتكار ونظام الاقتصاد الحر

يعكس التاريخ الطويل لحكم الأوليغارشية في لبنان ومركزية الممارسات الاحتكارية في تكريس هذا الحُكم خصائص عدّة لطبيعة الاحتكار عموماً وتجلّياته في لبنان خصوصاً.

أوّلاً، يعتبر الاحتكار لازمة في تاريخ الرأسمالية وليس في تاريخ لبنان وحسب، وهو يتولّد من بنية الرأسمالية ذاتها وتتفاوت حدّته بحسب تفاوت الأنظمة القانونية التي تحميه أو تكبح جماحه. ويتعزّز الاحتكار عموماً أثناء الطفرات التكنولوجية وهو ما حدث في مطلع القرن التاسع عشر في مجالات المواصلات والاتصالات (سكك الحديد، التلغراف، المكننة الزراعية) وما يحدث اليوم نتيجة طفرة التكنولوجيا المعلوماتية من بروز شركات عملاقة تسيطر على السوق كمايكروسوفت وغوغل وفيسبوك. وبالتالي، لا وجود لاقتصاد رأسمالي تنافسي في التاريخ خارج حيّز ضيّق من السوق، فما بالك في بلد سوقه صغير مثل لبنان يرزح تحت نظام سياسي مافيوي. إنّ مقولة الاقتصاد الحرّ التي لا ينفكّ يردّدها أقطاب السّلطة والإعلام السائد هي بدعة تخدم المصالح الاحتكارية أوّلاً وأخيراً.

ثانياً، ليست قوانين السوق كافية لتوليد الاحتكار وبخاصّة في القطاعات غير المنتجة كتجارة الاستيراد، حيث تشكّل عقبات الدخول إلى السوق كالوكالات الحصرية، بدلاً من التفوّق في سبل الإنتاج، عنصراً أساسياً في تكوين الاحتكار واستمراريّته. وبالتالي فإنّ دور الدّولة في تأسيس الاحتكارات وتدعيمها ليس دوراً عرضيّاً في النظام الرأسمالي بحسب ما تروّج له النظريّات الكلاسيكية للرأسمالية التي تختصر الأخيرة باقتصاد السوق. وهذا ينطبق على لبنان مثلما ينطبق على غيره. وتؤدّي المؤسّسات الخاصّة الحامية لمصالح المحتكرين، لا الشبكات الأسرية وحدها كما يُصوّر في حالة الدول “غير النامية” كلبنان دوراً مهمّاً أيضاً ورديفاً لدور الدولة. أي أنّ القطاعين العام والخاص متورّطان في هندسة البنية الاحتكارية. وأهمّ الأمثلة على ذلك في لبنان هي الهيئات الاقتصادية التي أسّسها بطرس الخوري كي يوفّق بين مصالح التجّار والصناعيين، وجمعية مصارف لبنان التي أسّسها بيار إدّه وباتت أقوى لوبي مصرفي في لبنان.

ثالثاً، ليس الاحتكار في سياق الاستعمار أو التبعيّة الاقتصادية نفسه في اقتصاد المركز أو المتروبول الرأسمالي. ففي الاقتصاد التبعي كلبنان، لا تؤدّي قوانين مكافحة الاحتكار بالضرورة إلى تنمية المنافسة المحلية، بل قد تنتهي باستحواذ رأس المال الأجنبي على القطاعات المعنية. وبالتالي، فإنّ التخلّص من الاحتكار في سبيل تنمية حقيقية يمرّ بالضرورة عبر آليات غير تقليدية تفسح المجال أمام نموّ القدرة الإنتاجية والتوزيع العادل للثروة وتتعدّى السوق الداخلية من دون تعميق التبعية للأسواق الرأسمالية المهيمنة في العالم. فهل تكون مئوية لبنان مناسبة لعدم المساومة مجدّداً مع بنيته الاقتصادية الاحتكارية أم أنّ الأوليغارشية لن تجد من يقلب الطاولة على رؤوس أموالها فتصنع من الانهيار انتصاراً جديداً؟

 

نشر هذا المقال في العدد 68 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان. احتكارات المحاصصة الشاملة

مراجع:

  1. حول احتكار شركة الريجي، يمكن مراجعة Murat Birdal, The Political Economy of Ottoman Public Debt (I. B. Taurus, 2010), pp. 15 and Ch.5
  2. عن تقرير روف وتفاصيل الدوائر الاحتكارية، يمكن مراجعة Irene Gendzier, Notes from the Minefield (Columbia University Press, 2006), pp. 80-89
  3. حول تركّز الثروة والبنية الاحتكارية في فترة ما قبل الحرب الأهلية، يمكن مراجعة دراسة فوّاز طرابلسي بعنوان “الطبقات الاجتماعية في لبنان: إثبات وجود” الصادرة عن مؤسسة “هينرش بل” (2013)، 29.

 

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

دستور وانتخابات ، مجلة ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، سياسات عامة ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، البرلمان ، مؤسسات عامة ، أحزاب سياسية ، قطاع خاص ، مصارف ، تشريعات وقوانين ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني