ذكرى جمعية قضاة لم تعش طويلا


2018-03-30    |   

ذكرى جمعية قضاة لم تعش طويلا

كثيرة هي الدول التي شكلت فيها جمعيات القضاة محركا لإصلاح القضاء ولانتزاع استقلالهم. من هذه الدول، فرنسا وإيطاليا وآخرها عهدا، المغرب وتونس. وفي لبنان، تتمسك الهيئات الناظمة للقضاء بأن إنشاء جمعيات مهنية للقضاة يخرج عن موجب التحفظ ويخالف قانون الموظفين الذي يمنع إنشاء منظمات أو نقابات مهنية (المادة 15) فضلا عن كونه قد يؤدي إلى نشوء جمعيات طائفية. وقد نجحت هذه الهيئات حتى الآن في إحباط الإرادات القضائية الرامية إلى إنشاء جمعيات مماثلة. وقد سعت المفكرة القانونية ردا على هذه المواقف إلى تعزيز مشروعية الحق بإنشاء جمعيات وتحفيز القضاة على القيام بذلك. فهي بينت أولا التحول الكبير الحاصل في المعايير الدولية لاستقلال القضاء وفي تعريف موجب التحفظ. فشرعة بنغالور لأخلاقيات القضاة استبدلت هذا الموجب بموجب اللياقة (CONVENANCE) مؤكدة صراحة على حق القضاة بالتعبير والتجمع. وقد حصل ذلك بعد صدور وثيقة الأمم المتحدة بشأن استقلالية القضاء والتي أكدت أن حق القضاة بإنشاء جمعيات يشكل ضمانة أساسية لاستقلاليتهم علاوة على كونه حقا لهم أسوة بسائر المواطنين. كما بيّنت المفكرة أن جميع التحركات الجماعية الحاصلة في لبنان في فترات مختلفة شكلت مانيفستو ضد الطائفية، فيما أن تطييف القضاء يتفاقم في ظل الممارسات الحالية القائمة على استفراد القضاة وعزلهم وربط ارتقائهم المهني بمدى قربهم من القوى السياسية. وكان مؤسسا المفكرة نزار صاغية وسامر غمرون نشرا في 2009 بحثا عن تجمعات القضاة في لبنان، وثقوا فيه واقعة منسية وهي قيام جمعية للقضاة في 1969 تحت تسمية “حلقة الدراسات القضائية”. وقد لاحظ الكاتبان في مستهل دراستهما أن “مراجعة الخطاب الاصلاحيّ للقضاء في زمن ما بعد الحرب تظهر بوضوح تركيزا على الاصلاحات التي تضعها الدولة أو مؤسّساتها الرسميّة فيما يظهر القاضي دوما محلا لاصلاح يتلقّاه دون أن يكون له أيّ دور فاعل فيه. والواقع أن هذا التوجه لم يكتف فقط بتهميش “التحرّكات القضائية الجماعيّة” كآليّة من شأنها الإسهام في إصلاح القضاء، إنما أيضا بطمس ذاكرة القضاء بهذا الشأن، وتحديدا بما يتّصل بالتحرّكات الواسعة التي شهدها في العقود السابقة للطائف”. واسهاما بإعادة إحياء ذاكرة مبادرات القضاة للدفاع عن استقلالهم، سنكتفي هنا بنشر ملخص عن نشأة جمعية القضاة في 1969 وأفولها (المحرر).

تأسّست “حلقة الدراسات القضائية” على شكل جمعيّة لا تبتغي الربح في بداية العام 1969 بمبادرة من القضاة نسيب طربيه ويوسف جبران وعبد الله ناصر وعبد الباسط غندور. وفيما أبرز مؤسّسوها أهدافا علميّة كالقيام بأبحاث ودراسات وتنظيم مؤتمرات بشأن القضاء بما يعزّز المناخ الصّالح للاضطلاع بالرّسالة القضائيّة، فإنّهم بدوا واثقين من أهميّة إنشاء الجمعيّة في تعزيز المؤسسة القضائية بحدّ ذاتها. ف “إنشاء هكذا جمعيّة مفتوحة للقضاة ورجال القانون للمرّة الأولى في لبنان، يعدّ بحدّ ذاته حدثا ذا شأن في تاريخ القضاء اللبناني، حدثا من شأنه حث القضاة على العمل، ليس فقط على تحقيق كمال أعمالهم الفردية، إنما أيضا على تحقيق كمال المؤسسة التي  فيها يعملون”. وقد انتسب إلى الجمعية في السنة الأولى حوالي 90 قاضيا، وأصدرت نشرة تحت تسمية “الحلقة” (4 أعداد) كما نظمت عددا من الندوات والمحاضرات حول استقلالية القضاء ودوره في المجتمع، أبرزها المحاضرة التي ألقاها السيد موسى الصدر في 7/2/1969 بعنوان “القضاء الرسالة” والمحاضرة التي ألقاها القاضي نسيب طربيه حول “التشكيلات القضائية” في 1971. كما عملت على دراسة مشاريع من شأنها تحسين الأوضاع المادية للقضاة. وفيما أجازت وزارة العدل في بداية السبعينات للجمعيّة إشغال غرفتين في مبناها، فإن علاقة الجمعية بالسلطة التنفيذية تأزمت بعد محاضرة “نسيب طربيه” حول التشكيلات القضائية، مما أدى إلى إحالته إلى المجلس التأديبي وإلى ابطاء عمل الحلقة، الذي استمر إنما بشكل محدود، دون أي وهج إلى حين انطفائها بالكامل مع بداية حرب 1975-1990. وهذا ما سنحاول تفصيله أدناه، على ضوء الوثائق والشهادات التي أمكننا الحصول عليها.

أهداف التّحرّك

حدّدت الجمعية أهدافها “بالقيام بأبحاث ودراسات وتنظيم مؤتمرات علمية تتعلق بالرسالة القضائية وتهدف عبر كل هذا، إلى توفير المناخ الصالح لكي يضطلع القضاة برسالتهم النبيلة على الوجه الأكمل والأكثر استقلالا”. ومن البيّن على ضوء ذلك، أنّ الأبحاث العلمية للجمعية “ليست أكاديميّة بحتة” إنّما هي أبحاث تهدف إلى تحقيق “الهدف الأسمى” الذي هو قيام قضاء قادر ومستقلّ، مع السعي الدائم إلى “إنمائه وتطويره وتحديثه وأنسنته”.

وقد تم توضيح تطلعات الجمعية في الكتابات المنشورة في المجلة وأيضا في محاضرات أعضائه التي تم نشرها فيها وهي تهدف إلى تطوير القضاء أفراداً ومؤسسة وفي الآن نفسه إلى تعزيز دوره في الإصلاح الاجتماعي. فالقضاء الذي تتطلع إليه الجمعية حسبما ورد في العدد الأول “للحلقة” هو “القضاء المستقل (أفرادا ومؤسسات)، وهو القضاء العالم (المنفتح بالمعرفة على حاجات مجتمعه ومتطلبات عصره) وهو القضاء اللاطائفي (الذي تقف عند عتبته جميع أمراض مجتمعنا وعلله)، وهو القضاء الذي يوحي بالثقة (بعلمه ومناعته وتحرره) وهو القضاء المهاب (الذي يكون القوي عنده ضعيفا حتى يؤخذ الحق منه) وهو القضاء المطمئن (الذي لا تعقله حاجة ولا خوف) وهو القضاء المنتج (الذي يدرك أن الزمن في طليعة قيم العصر) والقضاء العصري (في تفكيره وتطوّره ووسائل عمله) وهو أخيرا القضاء الذي يوفّر عدالة ذات وجه انسانيّ”. وتعكس هذه “التطلعات” رؤية خاصّة للوظيفة القضائيّة أكثر انسجاما مع النظريّات الحديثة القائلة بإيلاء القاضي دورا رياديّا محوريّا في تطوير المجتمع ومواكبة حاجاته.

ومن النصوص الهامة لفهم التوجه الإصلاحي للجمعية هي المحاضرة التي ألقاها القاضي نسيب طربيه في 1971 بشأن التّشكيلات القضائيّة. فقد ركز المحاضر على ضرورة استخدام التشكيلات ل (اختيار الشخص المناسب في الوظيفة المناسبة)، مطالبا بإنشاء ملفّات شخصيّة للقضاة تكون بمثابة “مرآة تنعكس عليها بأمانة جميع نواحي شخصيّته”. بالمقابل، انتقد طربيه بشجاعة لافتة العرف الآيل إلى “إجراء تشكيلات كلما أتى رئيس للجمهورية وكأن القضاء كالإدارة أداة تنفيذ”، ف “لا يجوز أن يأتي الحاكم إلى الحكم بقضاته كما يأتي بوزرائه”. وهذا الانتقاد، الذي قلّما نجد مثيلا له في الخطاب الإصلاحيّ الحاليّ، يفترض ليس فقط تعزيز استقلالية القضاء، إنما أيضا  تعزيز موقعه ومكانته في النظام الديمقراطي ككل. فالقضاء “سلطة تتميز عن السلطتين الدستوريتين التنفيذية والتشريعية في أنها لا تتبدل أو تتغير ولا تتحزب أو تتسيّس بل تبقى في بناء الدولة الديمقراطية العنصر الثابت والأكثر استقرارا كي تتمكن من البقاء سورا منيعا يحمي الحريات والحقوق الأساسية التي لا تتأثر في النظام الديمقراطي الصحيح بتقلبات السياسة وتصارع الأحزاب”.

أساليب التحرّك داخليا

اعتمد الأعضاء المؤسّسون للحلقة “الجمعيّة” كإطار قانونيّ لتحرّكهم. ولهذه الغاية، قدموا بيان التأسيس لوزارة الداخلية التي سلمتهم العلم والخبر رقم 82 الصادر في 26/2/1969. وقد حرص مؤسسو الجمعية على تأكيد الطابع الديمقراطي للجمعية، حيث ورد في العدد الأول من المجلة أنهم تشاوروا مع عدد من القضاة بشأن قانونها الأساسيّ ونظامها الداخلي. كما يسجل إثباتا لاحترام مبدأ تداول السلطة داخلها أن هيئتها الإدارية الأولى قدمت استقالتها في 28/11/1970 معللة ذلك بأن نشاطها لم يرْقُ إلى مستوى طموحاتها، وأن الهيئة الإدارية الثانية خلت من بعض أوجه المؤسسين البارزة وعلى رأسهم الأمين العام السابق نسيب طربيه. أما على صعيد العضوية، ورغم أن الجمعية بدت منفتحة لقبول أصحاب المهن القانونية، فإن العضوية انحصرت عمليا بالقضاة. وفي هذا الصدد، نقرأ في “الحلقة” أن مؤسّسيها وجّهوا فور تأسيس الجمعية كتباً إلى جميع القضاة لحثّهم على الالتحاق بها، فلبى دعوتهم أكثر من “90 قاضياً” خلال السنة الأولى فقط. ولا شكّ أن الوسيلة الأهمّ في التواصل مع القضاة كانت مجلّة الحلقة التي بدأت تصدر في بداية العامّ 1971. وقد دأبت الحلقة على حثّ  القضاة على إبداء ملاحظاتهم بشان أعداد النّشرة واستبيانهم بشأن بعض المشاريع قيد الدراسة (صندوق التعاضد…)، بواسطة استمارات خاصّة.

وعلى صعيد الخطاب المعتمد لاجتذاب القضاة، فقد غلب عليه الطابع التوحيدي والاستنهاضي لبلوغ القيم المثالية المشتركة (الكمال). فلا يكفي أن يسعى القاضي إلى تحقيق كماله الذاتيّ، بل لا بد من السعي إلى تحقيق “كمال المؤسّسة”. وهذا ما نقرؤه أيضا في تفاصيل أهداف الجمعيّة، سواء بما اتصل بمواصفات القاضي (المتجرد والعالم والانساني والمنتج والذي يوحي بالثقة) أو بمواصفات المؤسسة القضائية (حيث الشخص المناسب في المكان المناسب) والتي تقرب من الكمال بقدر ما تزداد ثقة الناس بها. ومن الأدلّة الأخرى أيضا، سعي الحلقة إلى ابراز تطلعاتها المثالية في مواجهة “الواقعيين” الذين ربما يصفون أعضاءها ب “السذّج”.

وتاليّا، من البيّن أنّ محور هذا الخطاب هو بالدرجة الأولى، استنهاض القضاة ليس لانتزاع الإعتراف بحقّ أو بامتيازات معينة، إنما لتطوير ذواتهم وأدائهم توقا لما يصْبون إليه. ومن هنا، يوحي الخطاب بأن لا مكان من حيث المبدأ لتمجيد الذات (أو الادعاء بانتسابهم إلى عالم الآلهة كما سيكون حال التحركات اللاحقة) ولا للإسراف في التظلم، بل على العكس تماما، ثمّة ضرورة، قبل كل شيء، لإعمال النقد الذاتيّ و”القسوة على الذات تجنبا لقسوة الآخرين”. كما أن مثالية الأهداف تجلّت في تجاوز مفهومي الهرمية والسلطة. فالخطاب يساوي بين القضاة داخل الجمعية ولا يقر بأيّ مكانة خاصّة لرئيس مجلس القضاء الأعلى أو لأعضائه (وقد وصف المجلس بأنه ضامن لحقوق الملل) أو لهيئة التفتيش القضائي (والتي قيل بأن كيفية تشكيلها جاءت انعكاسا للتوافقية الطائفية). لا بل، ورغم الإشارات المتكرّرة والواضحة لاستقلاليّة القضاء ومكانته الاجتماعيّة البارزة، قلّما نجد إشارة إلى مفهوم “السّلطة القضائيّة”، وهو أمر يعبّر ربّما ببلاغة عن حذر الجمعية إزاء أيّ مفهوم من شأنه إعلاء شأن القضاء بمعزل عن أدائه وثقة الناس فيه دون أن يعني ذلك رضوخا لأيّ من السّلطات الأخرى.

الوسائل المعتمدة في التّخاطب العامّ

في هذا المجال، نلحظ بداية توجّهات ثلاثة تنسجم إلى حدّ كبير مع مقاربة الجمعيّة وأيضا مع أهدافها المبينة أعلاه. وهذه التوجهات هي:

أولا، انفتاح نسبيّ على القانونيين على نحو يوحي –ولو إلى حدّ ما- بشعور معين بانتماء القضاة إلى مجموعة أوسع هي مجموعة المهن القانونيّة والقضائيّة وإن اقتصرت عضوية الجمعية على القضاة. فإذا كان البحث العلمي (الدراسات القضائية واصدار مجلة ذات مستوى أكاديميّ) هو هدف الجمعية وإحدى المواصفات البارزة في القضاء المنشود، فمن البدهي أن تتوجه الجمعية إلى القانونيين من محامين وأساتذة جامعيين وطلاب حقوق ألخ.. وقد برز هذا التوجه في أول ندوة علمية نظمتها الجمعية في صالة المحاضرات في نقابة المحامين حيث دُعي نقيب المحامين فؤاد رزق والأستاذ الجامعيّ ادمون نعيم للتحدث عن استقلالية القضاء. كما برز في سياق الإعلان عن مؤتمر علمي حول موضوع بطء العدالة في لبنان، بحضور “كل الحقوقيين في لبنان من قضاة ومحامين وأساتذة وطلاب حقوق”.

أما التوجّه الثّاني، فهو الحذر إزاء وسائل الاعلام غير المتخصصة الموجّهة إلى العامّةّ. وقد تبدى هذا الحذر في محلات عدة: الأول في المذكّرة التي رفعتها الجمعيّة إلى مجلس القضاء الأعلى بعنوان “القضاء والإعلام” وذلك احتجاجا على تصريحات إعلاميّة أدلى بها مسؤولون يوم حادث اختطاف طائرة إلى لبنان من قبل أحد المواطنين الفرنسيين، والثاني في مطالبة نسيب طربيه حظر وسائل الاعلام عن نشر أي معلومة تتصل بالتشكيلات القضائية قبل صدورها، وذلك للحدّ من بازار التشكيلات وأيضا إعراض أعضاء الحلقة عن الإدلاء بتصريحات إعلامية. ومردّ هذا الحذر يتصل بالواقع برغبة الجمعية بحماية القضاء في مواجهة مخاطر معينة، أبرزها الإثارة الإعلامية، ولكن أيضا بطبيعة أهدافها القائمة أولا على مخاطبة القضاة لاستنهاضهم في مشروع مؤسساتي. وخير دليل على ذلك هو أنّ الحلقة لم تتردّد في إصدار نشرة إعلامية متخصصة وعن تضمينها انتقادات مباشرة وعلنيّة بشأن الأمور القضائيّة ضدّ أيّ كان، مهما علا منصبه، بما فيهم رئيس الجمهوريّة ووزير العدل وأعلى المناصب القضائيّة.

أما التوجّه الثالث، فقوامه تغليب الطابع النقديّ في مخاطبة السلطة بما فيه من شفافيّة وصراحة على الطّابع المطلبيّ بما فيه من تملّق أو مجاملة أو وعيد. ولربما نلحظ هنا بشكل خاص ما أشرنا إليه أعلاه لجهة مدى تأثير شخصيّة القاضي نسيب طربيه وتوجهاته – والتي قد لا تنسجم مع توجهات أكثرية الأعضاء- على أعمال الجمعية. ولعل أبرز دليل على ذلك محاضرته المشار اليها أعلاه أمام عدد كبير من القضاة (80) وفي مقدمتهم رئيس مجلس القضاء إميل أبو خير ورئيس التفتيش القضائي ممدوح خضر، فضلا عن المدير العام لوزارة العدل. فبعدما أبعد طربيه شبح “الواقعية” التي يستلهمها قضاة عدة (بما فيهم أعضاء في الجمعية) على نحو يصوّر تطلّعات الجمعيّة على أنّها سذاجة أو أضغاث أحلام، استرسل في عرض آرائه بصراحة متناهية تكاد لا توفّر أحدا: فتكلّم عن”بازار التشكيلات” واصفاً إياه “بالمأساة التي طالما شاهدنا فصولها المفجعة”، حيث “يحتدم صراع المصالح والأهواء” و”يتفرق طلاب المغانم على أبواب الساسة والمقامات”، مطالباً بالسيطرة على “هاجس التشكيلات” عبر “وضع حد للفوضى”، و”إيجاد قواعد وضوابط يلتزم فيها المسؤولون عن هذه التشكيلات أيا كانوا”. وبعدما انتقد آلية حصول التشكيلات حيث تذهب “حصة الأسد لوزير العدل” ويعيّن “الحاكم قضاته” (قاصداً رئيس الجمهورية)، فضح عامل المحسوبيات في إجراء التشكيلات وألعاب القوة والتفاوض بين أركان السلطة الذين عدّدهم بدقّة مع وصف آليات التشكّي السياسية والتدخلات حتى داخل مجلس القضاء الذي يظهر كأنه حارس اقتسام المغانم بين الطوائف.

مدى التّفاعل اجتماعيّاً: ردود الفعل ومواقف:

أدّت أساليب عمل الجمعيّة وأهدافها إلى حصر نشاطها العامّ في أطر ضيّقة كما سبق بيانه. وبشكل عامّ، تجدر الإشارة إلى أن ردود الفعل إزاء الجمعية تباينت لدى مجلس القضاء الأعلى والسلطة التنفيذية (بل حتى لدى نقابة المحامين كما سبق بيانه) ما بين عامي 1969 (تاريخ إنشائها) و1972 (تاريخ بدء خفوتها).

ففيما بدت السلطة في بداية الأمر حذرة إزاءها، فإنها اقتبلت وجودها دون أي منازعة في مشروعيتها وذلك بدليل تسليمها العلم والخبر من وزارة الداخلية وأيضا السماح لها بإشغال غرفتين في وزارة العدل بموافقة وزير العدل آنذاك عادل عسيران. ولربما مرد ذلك هو اعتماد الحلقة أسلوباً دراسياً شبه أكاديمي. وقد بدا هذا التقبّل واضحا أيضا في مشاركة القاضي عبد الباسط غندور، الذي كان عضواً في مجلس القضاء، كعضوٍ مؤسسٍ فعال في الجمعية ومن ثم كأمين عام لها فضلا عن حضور كبار القضاة كرئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس هيئة التفتيش عددا من ندواتها وأنشطتها. لا بل يسجل أن تدخلها بالقرب من السلطات أدى أحيانا إلى تعديل مشاريع بعض القوانين كقانون تنظيم مهنة المحاماة.

ويبدو أن نقطة التحوّل حصلت عقب محاضرة طربيه وما تخللها من نقد مباشر بحيث انتقلت السلطة من موقع الحذر المحايد إلى موقع الاستياء القمعي. وقد أكدت لنا شهادات قضاة عاصروا الجمعية أن رئيس الجمهورية سليمان فرنجيه استدعى رئيس مجلس القضاء الأعلى وأعضاءه سائلاً إياهم عن كيفية حضورهم محاضرة من هذا النوع وتصفيقهم للمحاضر في نهايتها، داعيا إياهم إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة. وهذا ما تسبب بإحالة القاضي طربيه إلى المجلس التأديبي حيث دافع عنه المحامي نصري المعلوف، وانتهى الأمر بصدور حكم تأديبي بتأنيبه، كل ذلك وسط غياب أي تحرّك احتجاجي للقضاة، بحيث اكتفى معظمهم بالاعتراض “همساً”.

نشر في العدد الخاص عن القضاء في لبنان، للاطلاع على العدد انقر/ي هنا 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني