دمج المصارف: خيار محفوف بالمخاطر


2020-05-18    |   

دمج المصارف: خيار محفوف بالمخاطر

فور بدء إنتفاضة 17 تشرين، سارعت المصارف إلى إقفال أبوابها بحجّة سوء الظروف الأمنية، ملقية باللوم لما آلت إليه الأوضاع الإقتصادية والمصرفية على المتظاهرين. إلّا أنّ العديد من الإقتصاديين[1] كانوا قد رصدوا خلال السنوات الماضية ملامح الأزمة الإقتصادية عامة والمصرفيّة خاصة وحذّروا منها مطالبين بإصلاحات جذريّة في هذين المجالين قبل فوات الأوان بدون أن تلقى مطالبهم آذاناً صاغية.

مع بدء الأزمة واحتمال اشتدادها خلال الأشهر المقبلة، لا بدّ من البحث عن أفضل السبل لإنقاذ القطاع المصرفي بما يحفظ حقوق المودعين وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وضمناً تقليص حجمه، تمهيداً لتمكينه من الخروج من الأزمة. وقد طرحت العديد من الحلول التي تذهب في هذا الإتجاه مثل تصفية المصارف أو تأميمها. إلّا أنّ الطرح الأكثر تداولاً كان ولا يزال دمج المصارف. فما هو موقع الدمج بين الحلول المطروحة؟ وما مدى إمكانية تطبيق نظام الدمج على المصارف بما يضع القطاع المصرفي والإقتصاد على سكّة الشفاء؟

نبدأ بتبيان الإطار القانوني للدمج في لبنان لمعرفة مدى إمكانية تلبية القانون للغاية منه ثمّ نناقش الدّمج كخيار واقعي للخروج من الأزمة.

 

ماذا يعلّمنا المرسوم 8284 /67؟

تحفيز الدمج لا يكون فقط بالإعفاءات الضريبيّة

بتاريخ 28/9/1967، صدر أوّل نصّ قانوني يتناول مشروع دمج المصارف المسمّى "تسهيل اندماج المصارف". وقد نصّ على تنفيذ الإندماج طوعاً[2]. كانت الغاية منه تخفيض عدد المصارف في لبنان ودعم الثقة فيها وضمان كامل ودائع المصارف المنحلّة وديونها من جرّاء الإندماج بعد أزمة بنك إنترا.

وعرّف النصّ مفهوم الإندماج[3] على أنّه كلّ عملية تؤدّي إلى تخفيض عدد المصارف العاملة في لبنان وتضمن كلّ مطلوبات وتعهّدات المصارف المنحلّة من جرّاء هذه العملية باستثناء الأموال الخاصة[4].

لم يلاقِ هذا النص النجاح، حيث لم يسجّل سوى عمليات دمج محدودة جدّاً نذكر منها عملية دمج مصرفي الشرق الأدنى والشرق الأدنى التجاري في عام 1982 وأخرى للبنك الفرنسي للشرق الأوسط وبنك صباغ تحت إسم بنك صبّاغ والفرنسي للشرق الأوسط الذي اعتمد في ما بعد إسم فرنسبنك في عام 1988.

لعلّ سبب فشله هو في كون معظم الحوافز الممنوحة في مرسوم الدمج عام 1967 ضريبية[5] لا تؤدّي إلى نتيجة ملموسة، لأنّ الضريبة في لبنان لم تكن يوماً من الوسائل الناجحة في توجيه القطاع المصرفي. وكان يجدر بالمشرّع منح حوافز أو فرض ضوابط أقوى تضغط على المصارف الهشّة والراغبة في مواصلة أعمالها للإندماج أو ترغمها عليه.[6]

 

القانون 192/93: مصارف زومبي ترفض أن تندمج بسب منع إفلاس البنوك

وضع قانون تسهيل إندماج المصارف 192/1993 الذي لا يزال سارياً ليرعى دمج المصارف بعد فشل المرسوم 8284 في تحقيق ذلك. وقد شدّد المشرّع على أهميته في المادة التاسعة حيث أكّد على تفوّق أحكامه على أحكام قانون التجارة وقانون النقد والتسليف وباقي الأنظمة المصرفيّة عند تعارضها. وتتمثّل نقطة قوّة هذا القانون في إمكانية إعطاء المجلس المركزي المصرف الدامج قروضاً ميسّرة وفقاً للمادة السادسة منه. كذلك فقد قدّم حوافز ضريبيّة كما فعل القانون السابق حيث أعفى المصرف من ضريبة الدخل لحدّ معيّن ومن جميع رسوم التسجيل لدى الدوائر الرسميّة.

بقيت تجربة هذا القانون متعثّرة بفعل مقاربة السلطة الرقابية للدمج كحلّ للمصارف المتعثّرة – بعضها بفعل العقوبات – مثل البنك اللبناني الكندي وليس كإجراء وقائي للحفاظ على سلامة القطاع المصرفي أو تنموي يهدف إلى تطويره. فقد اعتبر القانون أنّ الدمج طوعي أو اختياري لكن ضمن سلّة حلول أخرى أكثر راديكاليّة مثل التصفية التي يمكن أن تفرض على المصرف، حيث يحقّ لحاكم مصرف لبنان إحالة مصرف إلى المحكمة الخاصة لتقرّر وضع اليد عليه وتصفيته إذا تبيّن أنّه لم يعد في وضع يمكّنه من متابعة أعماله[7]. إلّا أنّ حاكم المصرف صرّح مراراً أنّ لا إفلاس للمصارف[8] مما طمأنها إلى عدم اتخاذ إجراءات راديكاليّة بحقّها فلم تسعَ إلى تحسين وضعها بالإندماج.

 

الدمج كخيار لعلاج القطاع المتأزّم؟ السير في حقل ألغام

إنّ القطاع المصرفي في لبنان متضخّم منذ نشأته. وهو يتضمّن حالياً 65 مصرفاً و1100 فرعاً، كما يبلغ حجمه 3 أضعاف الناتج المحلي[9]. انطلاقاً من ذلك، من شأن الدمج أن يساهم في حلّ مشكلة تضخّم القطاع، فالفوائد التي تتأتّى عنه عديدة، أبرزها أنّ دمج المصارف الصغيرة بعضها ببعض أو دمجها في مصارف كبيرة وتحويلها إلى فروع يتماشى مع نظرية الوفر الناجم عن الحجم (economy of scale)، بما معناه أنّه كلّما زاد حجم الإنتاج، نقصت تكاليفه. كذلك، من شأن الدمج أن يخفّف من وطأة الأزمات على المصارف، كلما انتهى إلى دمج مصارف صغيرة بمصارف أكبر وأكثر قدرة على مواجهة الأزمة[10]. كما تستفيد المصارف الصغيرة عادة من خبرات المصارف الكبيرة المندمجة وتجاربها. أما المصارف الكبيرة، فتستفيد من العلاقات المميّزة بين المصرف الصغير والعملاء ومعرفته بزبائنه بخاصة إذا كانت المصارف الكبيرة تريد فتح فروع جديدة في مناطق جغرافية معيّنة.

كذلك فإنّ خيار الدّمج يضع كلفة إنقاذ المصرف المندمج على المصرفَين ويخفّف على الدولة أعباء إنقاذه أو ضمان أموال مودعيه في حال إنهياره. ومن الخيارات المطروحة اليوم إعطاء المودعين أسهماً في المصارف مقابل المساهمة في أعباء الدمج على أن يستردّوا مساهماتهم كأرباح عند استقامة وضع المصرف أو كوديعة بعد فترة من الزمن.

إلّا أنّه ورغم الفوائد التي قد تنشأ عنه نظرياً، يبقى الدمج خياراً محفوفاً بالمخاطر بخاصة في ظل الأزمة الحاضرة. فعدا عن أنّ أكبر المصارف في لبنان وأكثرها شهرة باتت اليوم في خطر وثمّة مخاوف جدّية أن يؤدّي دمجها مع مصارف كبيرة أو صغيرة إلى تعميق المخاطر البنيويّة على القطاع المصرفي والنظام الإقتصادي والمالي (SYSTEMIC RISK)، فإن تمكين مدراء المصارف الحاليين من الاستمرار في الإدارة بفعل انتقال أسهمهم إلى المصارف الدامجة وما يستتبع ذلك من نتائج إنما يحوّل الدمج إلى حجاب يمنع محاسبة هؤلاء على خلفية سوء إدارتهم وتسبّبهم في الأزمة الحاضرة. بكلام آخر، وفيما تؤدّي التّصفية إلى مساءلة أصحاب المصارف، يؤدّي الدمج إجمالاً إلى تغطيتهم رغم أنّ قانون الدمج ينصّ على محاسبتهم وذلك بسبب الوقع الأكبر الذي تحدثه التصفية على الرأي العام.

أخيراً، قد يؤدي دمج المصارف إلى نشوء مصارف كبيرة تحتكر القطاع المصرفي، وبخاصة في ظل منظومة تخلو من قوانين حمائية للمنافسة أو مانعة للإحتكار.

 

خلاصة

ختاماً، يعدّ الدمج خياراً مرّاً للمصارف بهدف إعادة هيكلتها، لكنه قد لا يكون أمرّها، فضلاً عن أنّه لا يجب أن يكون الطريقة الوحيدة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي أو لإخراج المصارف من أزماتها الراهنة. ومن الضروري هنا أن تمارس الحكومة ومصرف لبنان "قوّة السلطة العامة" في التعامل مع المصارف، كأن تُعطى مهلة لتقديم حلول جديّة وجاهزة للتطبيق لإعادة رسملتها وتعويمها، سواء بمفردها أو في إطار مشروع اندماجها مع مصرف آخر أو أكثر، تحت طائلة وضع اليد عليها، تمهيداً لتصفيتها. وعليه، يتمّ دمج المصارف التي تنجح في تقديم حلول ناجحة فيما يتمّ تصفية الأخرى. وبالطبع، يجدر هنا اتخاذ القرار المناسب تبعاً لدراسة موضوعية ومحايدة لأوضاع المصارف بعيداً عن الحسابات السياسية والطائفية، ضمن رؤية شاملة للإقتصاد ودور المصارف فيه.

 


[1] توفيق كسبار، شربل نحّاس، حسن خليل.

[2] استند المرسوم إلى المادة 46 من قانون النقد والتسليف.

3 الفقرة ب من المادة الأولى

[4] هنا يجب التفرقة بين حالة شراء مصرف لأسهم في مصرف آخر – حيث يعتبر ذلك مجرّد تمثيل لمصرف في الجمعية العمومية للآخر وحيث يبقى لكل مصرف شخصيته المعنوية – و بين حالة اندماج مصرفين مع بعضهما.

من أمثلة على شراء مصرف لأسهم مصرف آخر: شراء بنك المشرق لبنك الإعتماد اللبناني عام 1983.

[5] المادة 45 من القانون 28/67.

[6] الصفحة 128-129، قوانين مصرفيّة، مالك عبلا.

[7] المادة 2-2 من قانون إصلاح الوضع المصرفي 110/91.

[8] "حاكم مصرف لبنان: لا إفلاس للمصارف لكن الدعم الخارجي مطلوب"، وزارة الإعلام، 10/01/2020. قام جمال ترست بنك بتصفية ذاتية لنفسه أخيراً ولم يصفّ.

[9] الموقع الإلكتروني الرسمي لجمعيّة المصارف.

[10] مالك عبلا، القوانين المصرفيّة، ص. 119-120.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني