دعا مكتب مجلس النّواب إلى جلسة تشريعية جديدة يوم 28 أيار القادم للنظر في 37 مقترح قانون تم إدراجها على جدول أعمالها. وقد انقسمت هذه المقترحات إلى 3 مشاريع قوانين و5 اقتراحات قوانين تمّ إنجازها في اللجان النيابية، فضلا عن 29 اقتراح قانون معجل مكرر.
وقبل المضيّ في عرض مجموعة من الملاحظات العامة حول هذه الجلسة وبشأنها، نسارع إلى القول بأن انشغال النواب إلى حد الهوس خلال الأسبوعين الماضيين لإيجاد توافق فيما بينهم حول ما سيشمله العفو العام، إنما يؤكد أن هذا الإقتراح سيكون محورها الأساسي، خاصة بعد استبعاد عدد من أبرز مقترحات القوانين الإصلاحية الموعودة، وتحديدا مشروع قانون الإثراء غير المشروع، عنها. ومن المفيد في مكان أن نشير إلى أن اقتراح العفو العام المذكور لا ينبني على منطلقات اجتماعية أو حقوقية، بل على قاعدة المحاصصة الطائفية وأنه يهدف قبل كل شيء إلى استمالة المجموعات التي قد تستفيد منه بغية إعادة تكوين الهيئات الناخبة للقوى السياسية المهيمنة على المجلس. وهذه الخلاصة هي التي حملتنا على وصم هذه الجلسة بمساعي ترميم الزعامات والذي بات يبدو في ظل فداحة الإنهيار الإقتصادي وما استتبعه من وعي سياسي، أمرا مستعصيا.
بالإضافة إلى هذه الملاحظات العامّة، سننشر تباعا خلال اليومين القادمين قراءات مفصلة في مجمل مقترحات القوانين المودعة على جدول أعمال الجلسة.
1- العفو العام، الإنشغال الأساسي للنواب
من البيّن بمراجعة نشاط مجلس النواب، أن إنشغاله الأساسي خلال الفترة الفاصلة بين الجلسة الأخيرة المنعقدة في نيسان الماضي وجلسة الخميس القادم تركز على اقتراح قانون العفو العام. وفيما نجحت الثورة في إقصاء اقتراح العفو العام الكارثي المقدم من نواب في كتلة التنمية والتحرير والذي كان يشمل العديد من الجرائم المالية والبيئية بما يمهّد لانهيار قانوني شبه تام، هدف الإقتراح الذي أقرّته اللجان المشتركة بشكل خاص إلى منح العفو العام بدرجات مختلفة لمجموعات ثلاث ذات ثقل انتخابي، وهي تباعا الإسلاميين المتورطين في أعمال عنف أو في الانتماء لمجموعات تورطت بهذه الأعمال، والمتورطين في جرائم المخدرات في منطقة البقاع- الهرمل والفارين إلى إسرائيل في 2000. ولا يُخفى على أحد أنّ استرضاء كل من هذه المجموعات شكّل مصلحة لإحدى القوى الطائفية البارزة في المجلس. ففيما تولّت كتلة المستقبل التفاوض لتوسيع إطار العفو وتخفيض العقوبات للإسلاميين وتولى الثنائي الشيعي التفاوض لصالح المتورطين في جرائم المخدرات، فرض التيار الوطني الحر توسيع التفاوض ليشمل العملاء الفارين إلى إسرائيل وعوائلهم. وعليه، أخذ النقاش سريعا طابع المساومة والمحاصصة، بهدف ترميم زعامة هذا الطرف أو ذاك، بعد إنكسارها الهائل تبعا لثورة 17 تشرين.
2- جلسة تختم السنة التشريعية الأولى بعد الثورة بإخفاق كبير في مجال مكافحة الفساد: أين استقلال القضاء؟ أين الإثراء غير المشروع؟ أين علنية مناقشات اللجان؟
يتزامن انعقاد هذه الجلسة مع انتهاء العقد التشريعي الثاني للمجلس النيابي بعد اندلاع ثورة 17 تشرين والذي يحصل في 31 أيار 2020. بمعنى أنها تأتي كخاتمة للسنة التشريعية الأولى بعد الثورة، من دون أن ينجح المجلس النيابي في إنجاز قوانين أساسية كان وعد بها، أبرزها قانون استقلال القضاء الذي يراوح مكانه في لجنة الإدارة والعدل والإثراء غير المشروع، دون الحديث عن اقتراح قانون استرداد الأموال المنهوبة الذي هو أصلا فقاعة من دون مضمون. واللافت أن عدم إدراج مشروع قانون الإثراء غير المشروع حصل رغم إعلان النائب ابراهيم كنعان عن الإنتهاء من درسه في اللجنة الفرعية التي يرأسها، مما يرجح وجود إرادة متعمدة وغير مبررة باستبعاده عن أنظار الهيئة العامة. كما أن مكتب المجلس امتنع للمرة الثانية عن إدراج الإقتراحين المعجلين المكررين لتكريس العلانية في نقاشات اللجان (واللذين قدمهما النائبان بولا يعقوبيان وجورج عقيص).
وهذا الأمر إنما يعني أن وعود إقرار هذه النصوص ستكون مرجأة إلى ما بعد الصيف، ما لم تفتح الحكومة دورة استثنائية للمجلس النيابي قبل ذلك. ومن شأن هذه العوامل أن تؤشّر إلى عدم جدية هذا المجلس ليس فقط في مكافحة الفساد، بل إلى عجزه حتى عن إنتاج بروباغندا ناجحة أو ربما إلى بدء تخوّفه من تحوّل خطابه بشأن مكافحة الفساد في حال إقرار هذه المقترحات إلى واقع قد يصعب في ظلّ صحوة القوى الإجتماعية، التحكم به أو الإلتفاف حوله.
وهذا الأمر إنما يشكّل بحدّ ذاته إخفاقا كبيرا من قبل هذا المجلس، ودحضا لكلّ ما ورد في خطابه الذي لا يخلو من التبجّح، من نوايا لمكافحة الفساد.
3- مكتب المجلس يسبغ جدول الأعمال بمساعٍ خطيرة لعرقلة جهود القضاء في مكافحة الفساد
استغلّ مكتب المجلس اجتماعه الحاصل يوم الجمعة في 22 أيار بغرض وضع جدول أعمال الجلسة، ليتخذ موقفا مقلقا بشأن القرار القضائي بالحجز على أموال النائب هادي حبيش. وكان رئيس دائرة التنفيذ في بيروت فيصل مكي اتخذ هذا القرار بحق حبيش ضمانا لحق الدولة بالتعويض عن الضرر الذي تكبدته من جراء تهجمه على القاضية غادة عون، وذلك في معرض احتجاجه على توقيف رئيسة هيئة إدارة السير هدى سلوم والإدعاء عليها بجرم الإثراء غير المشروع. وفي هذا الخصوص، نقلت قناة MTV تصريحا لعضو المكتب النائب مروان حمادة بعيد الإجتماع: “اعتبرنا .. أن الحجز على أملاك النائب هادي حبيش خطوة خارجة عن الأصول القضائية ولا مسوّغ قانوني لها وأبلغنا الرئيس برّي بذلك وهو سيتكفل الأمر”. وهذا التصريح بالغ الدلالة من زاويتين إثنتين: الأولى أنه يشكل بحد ذاته تعديا على مبدأي استقلال القضاء وفصل السلطات، طالما أن مكتب المجلس (وهو هيئة نيابية رسمية) لم يجد حرجا في إصدار أحكام بعدم قانونية القرارات القضائية، وأن رئيس مجلس النواب لم يجد حرجا في التكفل بمعالجة الأمر بما يوحي بمزيد من التدخل في القضاء. الثانية، أن هذا التدخل من قبل المجلس النيابي يأتي من قبيل التغطية على تدخل سافر من أحد نوابه بهدف عرقلة الإجراءات المتخذة لملاحقة شبهة إحدى جرائم الفساد (تحديداً جرم الإثراء غير المشروع). وبذلك، يكون مكتب المجلس ارتكب مخالفة ثانية لا تقل جسامة عن مخالفة التعدي على استقلال القضاء وهي مخالفة التزامات الدولة في اتفاقية مكافحة الفساد وتحديدا المادة 25 منها والتي تتمثل في التعهد بتجريم استخدام القوة البدنية أو التهديد أو الترهيب للتدخل في ممارسة أي قاضٍ مهامه الرسمية فيما يتعلق بملاحقة جرائم الفساد (ومنها الإثراء غير المشروع). ومن هذه الزاوية، يأتي هذا التصرف بمثابة استكمال لما كان حبيش باشر فيه. فبعد تهجّم حبيش على القاضية عون في مسعاها لمكافحة الإثراء غير المشروع في إحدى المؤسسات العامة، ها هو مكتب المجلس يتهجم على القاضي مكي في مسعاه لردع تدخلات من هذا النوع، وكلها تصرفات تؤدي عمليا إلى ترهيب القضاة وثنيهم عن اتخاذ مواقف جريئة ضد مختلف القوى النافذة، وعمليا في قضايا الفساد الكبرى.
4- جدول أعمال أساسه مبادرات تخلو من أي جهد أو تعاون تشريعي:
أخيرا، نلحظ أن جدول أعمال المجلس يخلو عموما من الإستجابة لكثير من الأولويات الإجتماعية وبخاصة الأولويات الناجمة عن تداعيات الأزمة، وبخاصة الأولويات التي باتت تتطلب تدخّل المشرّع لإيجاد التوازن الملائم بين المصالح أو القيم المتعارضة، على ضوء المتغيرات الكبيرة للمعطيات الإجتماعية وتراتبية الحقوق والمصلحة العامة. فبإستثناء مسألة القروض التي قاربها عدد من الإقتراحات المعجلة المكررة، بدا جدول الأعمال خاليا من أي مقترح فيما يتصل بإعادة ترتيب العلاقات بين المصارف والمودعين أو بين المستأجرين والمالكين أو بين أصحاب العمل والأجراء أو بين المدارس الخاصة وأهالي التلاميذ …إلخ.
كما تجدر الإشارة في هذا السياق إلى النسبة العالية لإقتراحات القوانين المعجلة والمكررة التي تم إدراجها على جدول الأعمال وقد بلغت ما يزيد عن 78% منها (29 من أصل 37). وهي اقتراحات تبلغ الهيئة العامة للمجلس بصورة مباشرة من دون أن تخضع مسبقا لأي نقاش في اللجان النيابية، وغالبا ما تعاد هذه الإقتراحات إلى اللجان بعد إسقاط صفة العجلة عنها. وما يزيد من قابلية غلبة هذه الاقتراحات على جدول أعمال الجلسة للإنتقاد، الأمران الآتي:
- أن أكثر من نصفها (15) تم تقديمها خلال الأسبوع الفائت تمهيدا لإدراجها على جدول الأعمال، وعمليا من دون أن يتسنّى لأحد الإطلاع والتعليق عليها،
- أن 27 من أصل مجموعها البالغ 29 تم تقديمها من نائب بمفرده (16) أو من أكثر من نائب ينتمون إلى كتلة واحدة (11)، علما أن 9 منها تم تقديمها من نواب منفردين ومستقلين عن أي كتلة وأن 9 اقتراحات أخرى تم تقديمها من نائبين. ومن شأن هذا الأمر أن يؤشر إلى أن غالبية هذه الإقتراحات لم تشهد أي نقاش، حتى داخل الكتل نفسها، وأن إثنين فقط منها شهدا نقاشا بين نواب ينتمون إلى أكثر من كتلة.
وبذلك، ومن دون التقليل من أهمية بعض هذه الإقتراحات، فإن غالبيتها الساحقة بدت أشبه بإعلانات نوايا أو مساعٍ للفت النظر إلى مواضيع معينة، أكثر مما هي محاولات تشريعية جديّة لتلبية حاجات اجتماعية معينة.
خلاصة
وعليه، وبمعزل عن بعض مبادرات النواب من تلقاء أنفسهم أو بضغط من قوى اجتماعية والتي تمثلت في عدد هامّ من الإقتراحات المعجّلة المكرّرة، يبدو أن الهدف الأساسي من الجلسة القادمة يتمثل في إقرار قانون عفو عام بغرض ترميم زعامات بات من المستعصي ترميمها، بعد التراجع الكبير في مشروعيتها فضلا عن التراجع الكبير في مشروعية حكم الزعامات المتعددة والتي هي في واقعها المحاصصة. ولعل فشل المساومات أو على الأقل صعوبتها للتوصل إلى قانون عفو عام متفق عليه، خير دليل على ذلك.
- للإطلاع على الملاحظات التفصيلية على المقترحات الرجاء الضغط على الروابط أدناه:
اقتراح بإلغاء الإعفاءات الضريبية للطوائف: عدم مشروعية الإعفاء في غياب الخدمة العامة
اقتراح قانون الشفافية والكفاءة في تعيين الموظفين العامين: هكذا نسفت لجنة الإدارة والعدل معايير الشفافية (الجلسة التشريعية 28 أيار 2020(
اقتراح قانون الكابيتال كونترول: بيع الأوهام لمودعين نُكبوا بمصارفهم (الجلسة التشريعية أيار 2020)
اقتراح لاسترداد الأموال النقدية المحولة للخارج (الجلسة التشريعية أيار 2020)
إقتراحات تعديل نظام مصرف لبنان: تقصير ولاية الحاكم وتخفيض عدد نوابه
الإعفاء من بعض الضرائب والرسوم: تعويض الضرر البيئي بفعل المطامر بإعفاء مالكي العقارات المجاورة من الضريبة، ماذا عن القاطنين فيها؟ (الجلسة التشريعية أيار 2020)
“العفو العام” استنهاضاً للعصبيّة ضد المحاسبة: خطاب مظلوميّة يمهّد لمزيد من المظالم
إنضمام لبنان إلى المنظمة الدوليّة للهجرة: خدمات لتخفيف أعداد اللاجئين والعمال المهاجرين في لبنان؟
مقترح شعبوي لوزير المال السّابق لحماية أموال الضمان الإجتماعي؟ (الجلسة التشريعية أيار 2020)
مقترح لتعديل أحكام قانون إلغاء الأسهم لحامله والأسهم لأمر: ميقاتي يسعى لتجريد الدولة من أملاكها من دون بدل (الجلسة التشريعية أيار 2020)
مقترحات متعلقة بالحقوق والحريات العامة: ضمان الإلتزام بالمدة القصوى للتوقيف الإحتياطي (الجلسة التشريعية أيار 2020(
مقترحات مرتبطة بمعالجة الأزمة المالية والإقتصادية والإجتماعية: قروض المصارف تسدد على أساس سعر الصرف الرسمي وسخاء نيابي من دون دراسات أثر اقتصادي واجتماعي (جلسة تشريعية أيار2020)
مقترحات مكافحة الفساد واستقلال القضاء: التراجع عن رفع السريّة عن الحسابات المصرفية في الخارج والإثراء غير المشروع الغائب الأكبر (جلسة تشريعية أيار/مايو 2020)