حين يُكره القاضي الإداري أشخاص القانون العامّ على احترام قراراته


2020-06-30    |   

حين يُكره القاضي الإداري أشخاص القانون العامّ على احترام قراراته

في مقالة نشرت في فرنسا قبل 25 عاماً، كتب جان بول كوستا الذي كان مستشاراً في مجلس الدولة وأصبح لاحقاً رئيساً للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، أنّ المشكلة في تنفيذ القرارات القضائية موجودة في جميع البلدان وتستحق دائماً أن يتم إيجاد حلّ لها لأنها “تمسّ بمصداقية دولة القانون”.

لا شكّ أنّ الإمكانية الممنوحة للمواطنين اللبنانيين للطعن أمام مجلس الشورى في الأعمال غير القانونية التي يقوم بها الموظفون العامون أو رؤساء البلديات أو الوزراء أو رئيس الجمهورية تظهر أنّ لبنان اختار سيادة القانون. ولكن هذه القدرة على التحرّك التي يحبّ الفقهاء وصفها بالإختراع المميز الذي نجح بموجبه فقهاء القانون في حماية الناس من تجاوز حدّ السلطة، لا يجب أن تبقى في حالة تجريد (Rivero, 1962). فمثلاً، عندما يُرفَض طلب أحد الوالدين التحاق طفله بمدرسة رسمية، فإنه لا ينتظر ببساطة أن يبطل القاضي ذلك الرفض، بل أيضاً أن يطلب من الإدارة استقبال طفله في الصف. وفي حالة إبطال قرار نزع ملكية، لن يعترف أي شخص عن طيب خاطر بأن يتوقف القاضي في منتصف الطريق من خلال إزالة التدبير ولكن من خلال رفض توجيه أمر إلى الإدارة بإعادة وضع اليد على الممتلكات المصادرة بشكل غير قانوني. إذا تم فصل الموظف العمومي بشكل غير قانوني، ألا يجب على القاضي أن يأمر المؤسسة العامة بإعادته؟ ومتى أبرم عقد عمومي بطريقة غير مشروعة، فمن يقبل أن يعلن القاضي بطلانه من دون مطالبة الطرفين بإنهاء علاقاتهما التعاقدية؟  

يوضح المفهوم الأقصى لفصل السلطات بأن القضاة تاريخياً لم يُمنحوا أي سلطة بتوجيه أوامر للإدارة. ففي البلدان التي تعتمد القانون الإداري، لم يتم أبداً النظر بجدية في إخضاع الأشخاص العامين (الدولة والإدارات المحلية والمؤسسات العامة) إلى طرق إنفاذ القانون العادي الذي من المحتمل سلوكها في مواجهة الأفراد. وليس المشروع الإصلاحي الذي طرحته “المفكرة القانونية” استثناءً لهذه القاعدة التي تهدف بشكل مشروع إلى حماية الممتلكات المخصّصة لخدمة الجميع. ومع ذلك ففي دولة القانون، يعتبر عدم تنفيذ الإدارة للقرارات التي يتخذها قضاة مستقلّون أمراً صادماً. وهو أكبر عقبة أمام إرساء نظام قانوني آمن ويتسبب بكسر الثقة التي يضعها المواطنون في مؤسساتهم. لذلك من الطبيعي أن نرغب في تبنّي أدوات تسمح بالحماية من خطر عدم التنفيذ الناجم عن الإهمال وسوء النية، ولكن أحياناً أيضاً لأسباب أكثر إقناعاً مثل قيود الميزانية أو تعقيد التدابير الموضوعة لتفعيل الحكم بالكامل.

في الحالة الراهنة للقانون اللبناني، تنصّ المادة 126 من نظام مجلس شورى الدولة على أن تقدّم طلبات تنفيذ القرارات الصادرة عن القاضي الإداري بحق السلطة الإدارية إلى رئيس مجلس شورى الدولة الذي يحيلها بلا إبطاء إلى المراجع المختصّة مع النسخة الصالحة للتنفيذ “لإجراء المقتضى”. وبموجب المادة 93، يمكن إستبدال سلطة الإلزام المعنوية هذه بإلزام مالي يتخذ شكل غرامة إكراهية. وتنص المادة ذاتها على أنّ كل موظف يعيق أو يؤخر تنفيذ قرار قضائي يغرّم أمام ديوان المحاسبة.

من الواضح أن هذه الآليات المختلفة المنشأة في محاولة لتذليل صعوبات التنفيذ التي تختبرها الجهة التي ربحت الدعوى ضد الإدارة ضرورية ويجب تعزيزها لأن عدم تنفيذ قرارات المحكمة هو آفة ستستمر دائماً. ولكن التجربة الفرنسية أظهرت أنّ نظام الإكراه الإستباقي يوفّر حماية فعّالة من خطر عدم التنفيذ. فلإطاعة القاضي، تنتظر الإدارة أن تعرف بالضبط ماذا عليها أن تفعل.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن القانون الفرنسي تأخّر حتى العام 1995 ليضع مصطلحاً للمبدأ المكرّس الذي بناء عليه لا يعود للقاضي، وليس حتى للقاضي الإداري، أن يوجّه أوامر بإلزام الإدارة بالتنفيذ. ومنذ ذلك الوقت، غالباً ما يحدد قضاة المحاكم الإدارية ومحاكم الإستئناف الإدارية وأعضاء مجلس شورى الدولة الفرنسي، في قراراتهم القضائية، تدابير التنفيذ في أحكامهم وقراراتهم، حتى قبل أن تبرز أية صعوبات في التنفيذ. وعند الإقتضاء، ترفق هذه التدابير بمهلة تنفيذ و/أو غرامة إكراهية. فمثلاً، قد يرفق مجلس شورى الدولة قراره بإبطال قرار رئيس الوزراء برفض اتخاذ مرسوم تنفيذي ضروري لدخول قانون حيز التنفيذ، بأمر قضائي يوجّه إلى رئيس الوزراء لإصدار المرسوم ونشره. وهكذا يتمّ إرساء توازن السلطات، حيث لا تمتلك السلطة التنفيذية الأهلية القانونية لعرقلة تطبيق نص صوّتت عليه السلطة التشريعية إلى أجل غير مسمى. وعند إبطال قرار برفض منح ترخيص لمواطن بالقيام بنشاط معين رغم توفر الشروط الموضوعية للحصول على الترخيص، يكون بإمكان القاضي أن يأمر الإدارة أيضاً بمنحه هذا الترخيص، شرط ألّا يكون هناك دافع آخر قانوني أو وقائع تعترض ذلك. وإذا تم إبطال هذا الرفض نفسه بسبب مخالفة من حيث الشكل أو الإجراء، يمكن للقاضي في هذه الحالة أن يأمر الإدارة بإعادة النظر في وضع مقدم الطلب، إذا لزم الأمر، تحت طائلة فرض غرامة.

بالممارسة، أصبح استخدام سلطة الأمر شائعاً جداً. وقد أشاد بها المتقاضون الذين يرون فيها وسيلة فعّالة لكي يتمّ احترام حقوقهم بشكل ملموس. كما رحّبت به الإدارة التي تتلقّى بذلك التفصيل التوجيهي للنتائج المنتظرة من القرار القضائي. وقد أصبح هو هدف المراجعة القضائية لأنه يجبر القاضي على استباق النتائج العملية لقراراته ويسمح له بفرض قوة القضية المحكوم بها بشكل أكثر صرامة. 

وكما في فرنسا في ذلك الوقت، يفرض الإعتراف للقاضي الإداري اللبناني بمثل هذه السلطة تعديلاً للقانون. فالمادة 91 من نظام مجلس شورى الدولة تنصّ على أنّ على القاضي أن يكتفي بإعلان الأوضاع القانونية التي تشكّل موضوع الدعوى التي يبتّ فيها. وتتابع المادة بأنّه لا يحق للقاضي أن يقوم مقام السلطة الإدارية ليستنتج من هذه الأوضاع النتائج القانونية التي تترتب عليها ويتخذ ما تقتضيه من مقررات. ومشروع إصلاح القضاء الإداري الذي تقترحه “المفكرة القانونية” في هذا الخصوص يحمل أبعادا تجديدية هامة جدا، من دون أن يمس بوظيفة القاضي الإداري.

فمن جهة، لن تمنح سلطة الأمر القاضي سلطة تقديرية. ولن تتيح له أن يقوم مقام الإدارة حين يتطلّب القرار القضائي خيارات تقديرية أو التوجّه إلى إعادة النظر في الوضع. غير أنّه في كل مرة ينطوي تطبيق الحكم بالضرورة على إجراء تنفيذي في اتجاه معيّن، يجوز للقاضي أن يأمر الإدارة باتخاذ ذلك الإجراء. ومن خلال القيام بذلك، سيوضح القاضي فقط النتائج القانونية لقراره، من دون تجاوز حدود دوره كقاضٍ. كما يجوز له أن يُشجّع على التنفيذ الفعّال لحكمه من خلال ربط أمره بغرامة إكراهية، عندما يخشى ألّا تضع الإدارة كل الحماسة اللازمة في تنفيذه. عملياً يعني ذلك أنّه يمكن للقاضي أن يحدد مهلة معقولة للإدارة لضمان تنفيذ قراره وفي حال تأخّر التنفيذ، تتعرّض لخطر أن تصبح مدينة بدفع غرامة أي مبلغ من المال يحدد قيمته القاضي بشكل استباقي. بالتأكيد، حسب القانون الحالي، تعدّ الشخصية العامة المقصودة التي لا تلتزم بقرار قضائي، مذنبة بخطأ يعرّضها للمساءلة ويمسّ بماليّتها. ولكن توجيه مثل هذه الإدانة يتطلّب بدء نزاع جديد ومهلة إضافيّة تكون طويلة أحياناً كما أنه يستند إلى منطق تعويضي. وعلى العكس، فإن الجمع بين الأمر القضائي والغرامة في الحكم يستند إلى منطق تحفيزي. وبالتالي فإنّ الحماية من مخاطر عدم التنفيذ هو ما يجعل المشروع الإصلاحي أكثر فعالية من القانون الحالي.

من جهة أخرى، لا يجب الخشية من أن تؤثّر سلطة الأمر على الخصائص التاريخية لطلبات الإبطال لتجاوز حدّ السلطة. فحين ينطق بأمر قضائي، يرتدي القاضي الإداري عباءة القضاء الشامل، أي العباءة التي يرتديها كلّما منحه نص أو اجتهاد سلطات تتجاوز مجرد إمكانية إبطال العمل الإداري المطعون فيه. هذا هو الحال، على سبيل المثال، في النزاعات الانتخابية، حيث يتمتّع القاضي بسلطة تصحيح نتيجة الانتخابات. ومراجعة القضاء الشامل مثلها مثل مراجعة الإبطال لتجاوز حدّ السلطة تستجيب لقواعد محددة نضجت مع الوقت. وبشكل خاص، يعرف القاضي أنّ عليه، في هذا الإطار، أن يضع نفسه في التاريخ الذي سيصدر فيه حكمه كي يقدّر ما إذا كان يجب أن يرفقه بأمر إلزام بالتنفيذ. وبعبارة أخرى، قبل أن يأمر الإدارة باتخاذ هذا التدبير أو ذاك، يجب أن يأخذ في الاعتبار أيّة تغييرات في القانون أو الوقائع تكون حصلت منذ اتخاذ الإجراء الذي حكَم بعدم قانونيته.

وعليه، ليس من شأن مبدأ الفصل بين السلطات أو الطابع الرجعي لقرارات الإبطال لتجاوز حد السلطة أن يشكل عقبة أمام أحقية القاضي الإداري في توجيه أوامر للأشخاص العامين أو فرض غرامات استباقية عليهم بما يضمن التنفيذ الكامل للقرارات القضائية المتخذة بإسم الشعب اللبناني.

*ترجمة لمياء الساحلي

  • نشر هذا المقال في العدد | 65 | حزيران 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

القضاء الإداري: من يحمي الدولة ومن يدافع عنها؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني