حول صناديق الإقتراع في تونس: شارع ينتخب وشارع يحتجّ


2019-09-16    |   

حول صناديق الإقتراع في تونس: شارع ينتخب وشارع يحتجّ

منذ وفاة الرئيس السابق الباجي قائد السبسي في 25 جويلية 2019، إتخذت عدسات الكاميرات زاوية واحدة، وعُدّلت موجات الإذاعات وأسئلة الصحافيّين على محور واحد؛ الإنتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها في 15 أيلول الجاري. هذا الحدث الذي حشد الأبصار والعقول نحو حركات وسكنات المتنافسين على كرسّي قرطاج الشاغر، احتّل الفضاء العام طامسا غيره من الأصوات والأحداث. لكنّ وخلف الكاميرا، كانت هناك أصوات تغرّد خارج النوتة العامّة، محاولة كسر نمطيّة المشهد وأحاديّة محاور النقاشات. فقبيل الأمتار الأخيرة من موعد الإقتراع، ما تزال بعض شوارع العاصمة وقراها تشهد إحتجاجات عفويّة وأخرى نقابيّة، تحاول نفض الغبار عن مطالبها المنسيّة في أدراج مكاتب مسؤولي الحكومات المتعاقبة في حقبة التوافق“.

مثّل إعلان الهيئة العليا المستقّلة للإنتخابات مساء الثلاثاء 30 جويلية 2019، عن موعد الانتخابات الرئاسيّة المبكرة يوم 15 سبتمبر، نقطة التحوّل الرئيسيّة في تغيير أوليّات المشهد الإعلاميّ، لتنصبّ أغلب التقارير والحوارات والقراءات حول المترشّحين الذّين غزوا النقاش العام واليومّي للتونسيّين. هذا السيل من الأخبار والشائعات والتصريحات والتحرّكات لرؤساء تونس المُفترضين، مثّل مادة إعلاميّة دسمة لوسائل الإعلام التونسيّة، التّي ولّت ظهرها لباقي الأحداث، وبالأخصّ الإحتجاجات الاجتماعية والتحرّكات النقابيّة التّي تحوّلت إلى أمر روتينيّ وخبر لا يعد بتحقيق نسب المشاهدة أو القراءة المرجوّة مقارنة بالإنتخابات المرتقبة.

أمّا وراء كشّافات الإنارة المسلّطة على البلاتوهات، كانت فئة أخرى من التونسيّين، تلاحق وعودا قديمة منذ الإنتخابات الفارطة في سنة 2014، وتسابق الزمن لتحقيق بعض من مطالبها قبل أن يُقدموا على خيبة جديدة ربّما بحزمة من وعود إنتخابات سنة 2019.

أوتشهر صاخب في صمت

كان شهر أوت 2019 فترة الإعداد للحملة الإنتخابيّة التّي انطلقت في الثاني من سبتمبر الجاري. خلال هذه الفترة، كانت مختلف أطياف المشهد السياسيّ مشغولة بإعداد وعودها ومعلّقاتها وخطط تحرّكاتها في العاصمة والجهات إضافة إلى مختلف تفاصيل إجتماعاتها العامّة وظهورها الإعلاميّ. ومن جهة أخرى، كان هذا الشهر كغيره بالنسبة للغاضبين، محطّة أخرى لإحتجاجات وتحرّكات نقابيّة وجدت نفسها مكتومة الصوت أمام هدير الإستحقاق الإنتخابيّ. الأخبار الشحيحة حول الحراك الإجتماعيّ في مختلف وسائل الإعلام، لم تكن تعكس الحالة الحقيقيّة في الشارع. فقد كشف التقرير الصادر عن المنتدى التونسي للحقوق الإقتصاديّة والإجتماعية بعنوان “نشرية شهر أوت 2019 حول الإحتجاجات الجماعية والإنتحار والعنف” أنّ التحركات الاحتجاجية حافظت على نسقها الذّي بدأت به منذ شهر جوان 2019 لتبلغ 636 تحركّا من شمال البلاد إلى جنوبها. وقد كان العنوان الأبرز لهذه الإحتجاجات أزمة العطش المتكرّرة منذ سنوات في كلّ صيف، حيث تمّ تسجيل 251 تحرّكا خلال الأسابيع الأولى من شهر أوت وبالأخصّ أيّام عيد الأضحى الذي شهد إنقطاع الماء الصالح للشراب لفترات تجاوزت اليومين في محافظات قفصة والقيروان ونابل وسيدي بوزيد وتطاوين وصفاقس. القطاع الفلاحيّ لم يكن خارج موجة الغضب التّي شهدها هذا الشهر، حيث نفّذ الفلاّحون وقفات إحتجاجيّة خلال تواريخ متفرّقة في محافظات باجة وجندوبة والكاف والقصرين ونابل، مطالبين وزارة الإشراف بتوفير مياه الريّ وحلّ مشكلة التزوّد التّي ظلّت قائمة رغم كميّات الأمطار الإستثائيّة خلال شتاء وربيع 2019، إضافة إلى المطالبة بصرف التعويضات التّي كان من المفترض أن تُصرف لهم منذ بداية السنة الجارية على خلفية الفيضانات التي دمّرت كميات هامّة من المحاصيل والأراضي في خريف سنة 2018. أمّا باقي التحرّكات فتوزّعت بين احتجاجات ذات طابع إجتماعي واقتصاديّ بلغ عددها 204 تحرّكا تليها تلك المتعلّقة بالخدمات الصحية والمستشفيات ب 105 تحركا احتجاجيا.

أمّا على صعيد التوزيع الجغرافيّ، فقد شمل الحراك الإجتماعي كلّ المحافظات التونسيّة، تتصدّرهم القيروان في وسط البلاد ب 166 تحركّا خلال شهر أوت تليها محافظتا نابل وسيدي بوزيد اللّتان شهدتا 69 و67 إحتجاجا ثمّ قفصة وصفاقس ب 43 تحرّكا إحتجاجيّا، كما لم تغب العاصمة تونس عن قائمة المدن المحتجّة ب 29 وقفة ومظاهرة وإعتصام خلال شهر واحد.

النقابات بدورها كانت حاضرة في موجة التحرّكات الإحتجاجيّة خلال شهر أوت المنقضي، فبخلاف الإضراب الذّي ألغاه أطباء الصحة العمومية والصيادلة وأطباء الأسنان في 15 أوت 2019، قرّرت الجامعة العامة للبريد التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل الإضراب بيوم واحد في الثامن من نفس الشهر. غضب تواصل أمام تجاهل السلطات ليعلن أعوان البريد إضرابا فجائيّا عن العمل في 19 أوت 2019 شمل كلّ مكاتب البريد في كامل تراب الجمهوريّة، تواصل لتسعة أيّام رافعين مطالب تتعلّق بتمكينهم من الترقيات القانونيّة والتسوية النهائية لوضعيات أعوان الحراسة والتنظيف وتطبيق اتفاق 16 فيفري 2018.

حتّى الساعات الأخيرة، لافتات الانتخابات تجاور لافتات المحتجّين

لم تكن اللافتات الإشهاريّة للمترشّحين للانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها وحدها الحاضرة في الشارع مع إنطلاق الحملات الإنتخابيّة في الثاني من سبتمبر الجاري. اللافتات الإحتجاجيّة استطاعت بدورها أن تفتك حيّزا من الفضاء العام رغم التجاهل والتغييب في المشهد الإعلامي أو على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي على حدّ سواء. إذ بدأ الشهر بتنفيذ أعوان وإطارات المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية إضرابا عن العمل يومي 5 و6 سبتمبر الجاري على خلفية عدم تفعيل وزارة الصناعة الإتفاق المبدئيّ الذي تم إمضاؤه بخصوص تنظير أجور المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية بالمؤسسات المختلفة والنقطة المتعلقة بتغيير صبغة المؤسسة لتصبح مشغلا وطنيا لاستخراج وإنتاج النفط. القطاع النفطيّ لم يكن وحده من تحرّك في الساحة النقابيّة، حيث شهدت كافة المستشفيات العمومية باستثناء الأقسام الاستعجالية، إضرابا عن العمل يومي 09 و10 سبتمبر 2019 بدعوة من اتحاد الأطباء العامين للصحة العمومية الذّي طالب باحترام سلم التأجير والترفيع في المنح واحتساب ساعات المناوبة في التقاعد والترقيات الآلية دون مناظرات إضافة لحماية الأطقم الطبيّة من العنف وسن قانون أساسي ينظّم المهنة. تحرّك تزامن مع تنفيذ اتحاد الأساتذة الجامعيين التونسيين “إجابة”، مسيرة وطنية في 10 سبتمبر 2019، انطلقت من مقر إعتصامهم الذي باشروه منذ 25 مارس 2019 في وزارة التعليم العالي وصولا إلى شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة للتنديد بقرار تجميد الأجور والمطالبة بتطبيق اتفاق 7 جوان 2018. تحرّك إنتهى إلى جولة جديدة من المفاوضات مع الوزارة المعنيّة في بعد ثلاثة أيّام، كان مصيرها الفشل وإعلان “إجابة” مقاطعة الأسبوع الأول من العودة الجامعية بداية من يوم الإثنين 16 سبتمبر 2019. يوم 11 سبتمبر 2019 لم يكن أهدأ من سابقه. إذ تجمّع المئات من المهندسين العاملين بالوظيفة العمومية والقطاع العام في ساحة محمد علي بالعاصمة، إحتجاجا على استثناء مهندسي المنشاَت والمؤسسات العمومية من الزيادة في المنح الخصوصية التي وقعها الاتحاد العام التونسي للشغل مع رئاسة الحكومة يوم قبل 6 أيّام.

مساء ذلك اليوم، لم تنحصر الإحتجاجات داخل دائرة العمل النقابيّ، حيث تسبّبت الأمطار الغزيرة التي شهدتها البلاد في غرق عدد من المنازل في محافظات أريانة، تونس، منوبة، المنستير وقفصة، وهو ما أطلق موجة من التحركات الاحتجاجية بلغت ذروتها في إقدام الأهالي في محافظة أريانة إلى غلق الطريق الوطنية عدد 8 الرابطة بين محافظتي أريانة وبنزرت، مطالبين الحكومة بضرورة إيجاد حلول جذرية وعاجلة لمعضلة الفيضانات التّي تتكرّر سنويّا. من جهة أخرى، وفي قلب العاصمة، أقدم مجموعة من الشباب والشابات المعطّلين عن العمل القادمين محافظة القصرين إلى إقتحام مقرّ فرعيّ لحزب تحيا تونس (حزب رئيس الحكومة والمترشّح للانتخابات الرئاسيّة يوسف الشاهد) والإعتصام داخله منذ بداية شهر سبتمبر وسط تجاهل إعلامي مريب. هذا التحرّك الإحتجاجّي جاء بعد يأس المعتصمين من مماطلة الحكومة في تنفيذ وعودها التّي قدّمتها لأهالي المحافظة منذ ثلاث سنوات عقب المظاهرات التي اجتاحت البلاد في جانفي 2016 في إثر إقدام الشاب رضا اليحياوي على إنهاء حياته احتجاجا على إقصائه من القائمة المرشّحين للوظيفة العموميّة.

وقود الإحتجاجات: توارث الفشل

عجلة الإحتجاجات الشهريّة التي انطلقت في 17 ديسمبر 2010، لم تتوقّف طيلة ثمان سنوات رغم تعاقب 7 حكومات أورثت كلّ منها لاحقتها بإرث من الفشل في معالجة الأزمة الإقتصاديّة الإجتماعيّة، ليتحوّل هذا الفشل إلى ما يشبه كرة الثلج المتدحرجة، التّي تزداد سرعتها وعنف دورانها سنة تلو الأخرى. خلال هذه الساعات، وحتّى إنتهاء الانتخابات التشريعيّة في 6 أكتوبر 2019، يمضي التونسيّين إلى إختيار رئيس جديد للجمهورية ومجلس نوّاب ستنبثق عنه الحكومة الثامنة التّي سترث عن حكومات حقبة مرحلة التوافق بين سنوات 2014 و2019، وضعا اقتصاديّا مخيفا استقرّت فيه بطالة على المستوى الوطني عند مستوى 15.4% منذ 5 سنوات حسب أرقام المعهد الوطني للإحصاء، وتعاظم الدين العمومي بنسبة 43% ليبلغ سنة 2019 ما يناهز 28 مليار دولار بما يمثّل 70.9% من إجمالي الناتج المحليّ الخام، وعملة محليّة فقدت خلال السنوات الخمس الأخيرة 26% من قيمتها أمام الدولار الأمريكيّ إضافة إلى ارتفاع نسبة التضخّم من 4.3% سنة 2014 إلى 7.1% سنة 2019 وفق الإحصائيّات الصادرة عن البنك المركزي ووزارة الماليّة. هذه المؤشّرات تنذر ببداية صعبة لساكنيْ قرطاج والقصبة وشتاء تونسيّ إعتاد أن يلهب نار الإحتجاجات ويفتح الأبواب على جميع الإحتمالات. نذر لن تنفع معها محاولات التسكين بوعود فضفاضة أو توجيه الكاميرا إلى السماء ورصد العصافير كما إعتاد أن يفعل نظام بن عليّ وقوع مناوشات أو احتجاج الجماهير في الملاعب.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني